منذ عامين بدأَ فجأةً ظهورُ السيدِ الشابِ المشؤومِ المطرودِ إلى الشمالِ…
وكانَ تألّقهُ اللافتُ فقط مؤخرًا.
قادَ هيرديانُ الجيشَ الإمبراطوريَّ القليلَ عدديًّا، ونجحَ في قمعِ قطاعِ الطرقِ، حتى أنّ الإمبراطورَ منحهُ وسامًا ولقبَ فارسٍ.
ومع بدءِ تحرّكِ هيرديان الذي كانَ يظنُّ الجميعُ أنه ماتَ بصمتٍ، لم يستطع أحدٌ تجاهلُ الأمرِ مهما أراد.
ماذا ينوِي أن يفعل؟
“هل تَعتزمُ الانتقام؟”
قبلَ عشرين عامًا، كان هناك لحظةٌ لا تُنسى لسكانِ بيرماوين.
في تلك الأيام، لم تكن بيرماوين مزروعةً كما هي الآن، بل كانت تُشبهُ الأرضَ الملعونة التي يتجنبها الناسُ عادةً.
كانَ ذلك المكانُ ملجأً أخيرًا للذين لم يعد بإمكانهم العيش حياةً طبيعيةً، فهربوا إليه.
وحينها، جاءَ إليها السيدُ الشابُّ ذو العشرةِ أعوام، مع خادمٍ مسنٍّ ورفيقٍ من نفس العمر.
عيناهُ الزرقاوان الشاحبتان اللتان تكادان تموتان، وجسدهُ الصغيرُ الذي لا يحتملُ البرد، بدى كأنه حيٌّ فقط لأنه لم يستطعَ الموو بعد.
لا زالت ذكرياتُ السكانِ تحتفظُ بهذه الصورة بوضوح.
في وقت لاحق، وصلت الأقاويل التي كشفت سببَ قدومِ الطفلِ إلى ذلك المكانِ القاحلِ.
“هل صارَ هؤلاءُ اللئامُ اصبحوا مزعجين الآن؟”
هيرديانُ ابتسمَ بسخريةٍ عند هذه الكلمة.
كانَ يظنُّ أن بارثان فقط هو من يجرؤ على وصفِ عمهِ وأخيهِ بهذا الوصف.
“أريدُ استعادةَ منصبِ ربِّ البيتِ.”
“……”
“……”
“لَمْ أعدْ أستطيعُ حمايةَ ما لي بالقوّةِ الحالية.”
تنهدَ بارثان. هل يعني أنه مصرٌّ على الشجار؟
بالتأكيد سينتهي الأمرُ بموتٍ تافهٍ.
عائلةُ روتشيستر زادت نفوذها خلال العقود، لكن هيرديان الآن هو مجردُ شابٍّ حصل للتوّ على لقبِ فارسٍ.
“توقفْ عن قتالٍ لا فائدةَ منه.”
“مفاجئٌ. توقعتُ من أستاذي أن يقول لي اسحب السيف.”
“هل تظنني شريرًا يدفعُك إلى هاويةِ موتٍ محقّقٍ رغم علمي بذلك؟”
ابتسمَ هيرديانُ بهدوء. لم يكن كلامُه مقنعًا، حتى ولو قالَ إنه ليس شريرًا، وجهُه العابسُ لا يُظهر ذلك.
“إذا كان هناكُ فرصةٌ.”
“……”
“هل ستدعمني إذا كان القتالُ ممكنًا؟”
عيناهُ لم ترتجف، تلمعُ كذئبٍ يستعدُّ للصيدِ.
بارثان، الذي لم يُقال له شيئًا لكنه أدرك وجودَ تحالفٍ آخر، ابتلع صمتَه.
إنّهُ يقول إن لديه فرصةً فذلكَ ليس عاديً.
“بغضّ النظر عن السبب، أنت تسعى لرؤية الدم.
كيف لشخصٍ لم يهتمَّ أبداً بذلك، وكان يظنُّ أنَّه سيعيش ويموت هنا أنْ يتصرّف هكذا فجأةً؟”
“أنتَ من علّمني السيفَ، أستاذي.”
تمتمَ بارثان غاضبًا، متمنيًا لو لم يُعلّمه السيفَ في ذلك الوقت.
منذ زمن بعيد، كان يكرهُ رؤية ذلك الطفلِ العاجز، فجرّده بالقوة من العجز وعلّمه السيف.
في البداية، كان يعجز عن التمرّن حتى على الأساسيات، لكن مع الوقت أصبح وحيدًا خلال الدروس يتألق.
وبعد عامين فقط، هزمَ أستاذه في المبارزة. لم ينسَ السيفَ الذي مرّ بجانبِ رقبته.
“علّمتكَ لتعتني بنفسك، لا لتؤذي أحدًا.”
“ليس في نيتي ذلك.”
“كلامكَ جيد.”
لم يستطع بارثان فهم أفكار هيرديان أبداً، تنهد بعمق وهو يزمجرُ بالغيضِ.
“لن تنتشر الشائعات حتى هنا، لكن سأراقب الأمر. لا فائدة من دخول أخبار الأطفال إلى آذانهم، فهي فقط إزعاج.”
“شكرًا، أستاذي.”
“كفاكَ، لا تشكر. فقط ابصق وقل الحقيقةَ.”
ارتاح الجو الثقيل قليلاً.
“لن أستطيع الاهتمام بالقرية لفترة. رغم أني وضعتُ رجلاً هناك… إذا حدث أيُّ أمر، أخبرني فورًا.”
“ها! تتصرف كما لو أنك تهتمّ بالقرية. لا تعبأ بها، واهتمّ بشؤونك فقط. ولا تتعرض للضرب في الخارج.”
كانت نبرة بارثان خشنةً لدرجة أنها بدت كاستفزاز، لكن هيرديان الذي عرفه طويلاً، كان يعلم أن بارثان قلقٌ عليه.
“هل تفكر في الرحيل قريبًا؟ سيكون من الصعب فعل أي شيء هنا، والذهاب والعودة إلى العاصمة مزعجٌ أيضًا…”
توقف بارثان فجأةً عن الكلام حين خطرت له فكرة.
“قالوا إن الفتاة التي جلبتها لن تبقى في الشمال طويلًا، أليس كذلك؟ لا يكون…”
عند التفكير، كان هيرديان هو أول من أحضر شخصًا إلى القرية وعرّفه للناس.
عندما أرسل بارثان نظرة شكّ، ابتسم هيرديان برقة بدل الإجابة.
* * *
تعبت ليليا من اللعب في الخارج طوال اليوم، وغفت بعمق حال غروب الشمس.
غطّتها رنايا بلطف ببطانية القطن، ثمّ نهضت بحذر من السرير.
اجتمعت مع ضوء الشمعة المتراقص وجلست على الطاولة، أخرجت ورقةً بيضاء وقلم ريشة.
كانت تنوي كتابة رسالةٍ للجدة هيلدي التي تقلق عليها في الجنوب، لكن عندما أمسكت بالقلم، توقفت عند الجملة الأولى.
[إلى الجدة هيلدي.]
أدركت أنها لم تكتب لجدةٍ رسالةً واحدةً صحيحةً خلال 28 عامًا من حياتها.
لذا لم يكن عجيبًا أن تبدأ الرسالة بصعوبة.
بعد تفكير طويل، حركت رنايا القلم.
بدأت بكتابة أنها وصلت بسلام إلى الشمال، وأن ليليا تحبُّ الشمال كثيرًا.
لم تذكر أنها مرضت بعد وصولها لبضعة أيام.
أرادت أن تضيف أنها قلقة لأن الطفلة تكره الدراسة، لكنها ضحكت قليلاً، متسائلةً إن كانت جدتها فكرت بالمثل حين ربتها.
لم يكن بدايةُ الرسالة صعبةً فقط، بل استمرت في الكتابة حتى ملأت الورقة.
‘آه، صحيح.’
قبل أن تنهي الرسالة، خطرت لها فكرة فجأةً فرفعت رأسها.
وضعت القلم جانبًا، وبدأت تفتش في الأمتعة التي لم تفرغها بعد، وأخرجت صندوقًا مربوطًا بشريط أنيق.
فتحت الصندوق بحذر، فاستقبلها قماشٌ أبيض.
‘قماش؟’
لمسته، فشعرت بسمكٍ ونعومة.
بينما كانت تعبث به، شعرت بشيء خشنّ يلمس أطراف أصابعها.
رأَت تطريزًا غير مستقيم على القماش.
رنايا.
كان اسمها مطرّزًا بخيوطٍ ذهبية.
حينها أدركت ما هو هذا القماش: بطانية تغليف للأطفال حديثي الولادة.
في هذه البلاد، من التقاليد تطريزُ اسم الطفل على بطانية التغليف التي تُعد مسبقًا.
تذكرت رنايا مشهد سيلين الحامل وهي تطرز على بطانية التغليف.
عادةً ما يحضّرون بطانيتين، لأنهم لا يعرفون جنس المولود، لكن سيلين كانت متأكدةً أنه سيكون بنتًا، فطرزت واحدة فقط.
‘لماذا أعطوني هذا…’
تفحّصت رنايا التطريز المتعرج بعنايةٍ.
لم يكن تطريز الجدة هيلدي، التي كانت ماهرة في التطريز والحياكة.
‘آه…’
لم يستغرق الأمر طويلًا حتى أدركت من الذي طرز هذا التطريز.
حدّقت طويلاً في اسمها المطرّز بتلك اليد المتهللة.
من هم والداي اللذان انتظرا ولادتي ليطرزا هذا؟
كانت قد تخيلتهم أحيانًا في صغرها، لكنها نسيتهما كليًا في كبرها، لا تعرف وجهيهما ولا اسميهما.
إذا كان من الطبيعي أن تريد رؤية وجه والديها، رغم أنَّهُما تخلّيا عنها، فرغم كل شيءٍ فإن ليليا بالتأكيد تريد لقاء سيلين.
‘عندما تكبر ليليا قليلًا، سأبحث عنهما…’
أين تكون سيلين الآن، وماذا تفعل؟
كالعادة، سرى تفكير رنايا نحو سيلين.
* * *
على عكس قرية لوكلير التي يغادرها السكان ولا يأتي أحد جديد، كانت بيرماوين مختلفة تمامًا.
كانت رنايا تزور القرية كل يومين أو ثلاثة، وفي كل مرة كانت تلقي التحية على سكانٍ جدد.
وفقًا لسكان القرية، معظم الناس الذين لا يملكون مكانًا يأتون إلى الشمال على أمل أخير ويستقرون هناك.
في الحقيقة، معظم السكان كانوا من هذه الفئة. وكان قليلٌ من الناس قد وُلد ونشأ في الشمال.
لذلك، على الرغم من أن المنطقة جغرافياً مغلقة كما قرية لوكلير، فإنها كانت مفتوحة القلب لاستقبال الغرباء.
‘هل كانت قريتنا لتفتح أبوابها للغرباء كثيرًا، لما كان الوضع مختلفًا. ربما كانوا قد رحبوا ب سيلين في أول يوم.’
“رُنايا! رُنايا!”
“آه، نعم!”
“بماذا كنت تفكرين لتكوني شاردةً هكذا؟”
“لا شيء.”
ابتسمت بخجلٍ عندما نادتها امرأةٌ مسنة.
ثم نظرت بقلقٍ إلى غابةٍ مغطاةٍ بالثلج الأبيض عند مدخلها.
لماذا تقف هنا الآن؟
لأنها ستذهب للصيد مع أهل القرية بعد قليل.
✧───── ⋆⋅☆⋅⋆ ─────✧
ستجدون الفصول دومًا متقدمةً لهذهِ الرواية في واتباد وقناة الملفات،
حَسابي واتباد : _1Mariana1
( حسابي السابق قد حُذف)
وستجدون إعلانات تنزيل الفصول قبل هيزو في الرابط المثبت أول التعليق ~ ❀
التعليقات