كانت المسافة من القصر إلى قرية الشمال طويلة، فركبنا العربة.
وبمجرد الوصول إلى المدخل بدأنا المشي، وكانت عيون ليليا تتلألأ وهي تُلقي نظراتٍ حولها.
“تشبه القرية التي تخرج من كتاب القصص.”
كل ما يقع في البصر كان مغطى بالثلج الأبيض النقي، لذلك بدا المشهد للطفلة مثل ما تصفهُ الكتب.
كانت أسطح البيوت مغطاة بالثلج الأبيض المتراكم بكثافةٍ.
أما أمام البيوت وفي الشوارع، فقد كان أحدهم قد كنس الثلج، وآخر أشعل روح الفن فصنع تماثيل من الثلج.
لكن، لم يكن هناك أحد يتجوّل في الشارع بشكل خاص.
وفي تلك اللحظة من الارتباك، فتح شخص ما النافذة فجأة وصاح:
“أوه، هيرديان! منذ متى لم نركَ!”
ومنذ تلك اللحظة، بدأت النوافذ تفتح في كل بيت والصراخ يتعالى:
“أوه؟ هذا هيرديان!”
“يا أطفال، لقد عاد السيد!”
تحولت الشوارع الخالية إلى زحامٍ من الناس في لحظة.
اندفعَ رنايا و ليليا ، وأُرغمتا على التراجع بسبب الازدحام، وظلا يحدقان بهيرديان المُحاط بالسكان بوجوه مذهولة.
“لقد طال الغياب يا هيرديان!”
“تعال كثيرًا أكثر! سأنسى وجهك لو استمر هذا!”
رحب سكان الشمال بهيرديان من الأطفال حتى الكبار.
بعضهم نادى اسمه، وآخرون نادوه بالسيد الشاب، لكنهم جميعًا عاملوا هيرديان بودّ.
“كنت أراك مشغولاً مؤخرًا، ما الذي جاء بكَ إلى القرية؟”
رجل ضخم ذو ندبة طويلة تمتد من جبهته اليمنى حتى خده ضرب ظهر هيرديان ضاحكًا بصوت عالٍ.
“لدي شخص أودّ أن أقدم لك إياه.”
“شخص؟”
في تلك اللحظة، توجهت أنظار الجميع نحو رنايا وليليا.
الطفلة الخجولة اختبأت فجأة خلف ظهر والدتها بعدما اجتذبها الانتباه.
شعرت بالتوتر ورفعت جسدها إلى وضع مستقيم دون وعي.
“مرحبًا، أنا رنايا فيلـ”
“هاه؟!”
فتح الرجل عينيه على وسعهما وأطلق صوتًا غريبًا، ثم أمسك كتفي هيرديان وهزه بعنف.
“كنت تتظاهر بأنك نبيل، فمتى كونت عائلة في الخارج؟ هاه؟ لم أكن أظنك تفعل ذلك، لكنك كنت مخادعًا خبيثًا تفعل كل شيء خلف الظهر!”
“ليس كذلك”
“مالذي ليس كذلك؟!”
الرجل الذي كان يصرخ، صافح رنايا وانحنى برأسه.
“آه، سررت بلقائك. أنا بارثان، أنا من ربيتُ هيرديان فقدَ كان عبر عاتقي.”
مسكت رنايا يد بارثان بتوتر وانحنت بدورها.
“…آه، مرحبًا. أنا رنايا فيليت.”
كان هناك همس من حولهم بفرح.
رنايا، التي شعرت بالحرج من الاهتمام، كانت تركزُ بشدةٍ حتى لا ترتكبَ خطأً.
ابتسم بارثان بابتسامة رضا، ثم وجه نظره نحو ليليا التي كانت تلوح برأسها من خلفه والتقت عيناها بعينيه.
“مرحبًا، صغيرتي. ما اسمك؟”
“…مرحبًا. أنا ليليا فيليت وعمري سبع سنوات.”
“اسم جميل. هل هذا الرجل والدك؟”
أشار بارثان إلى هيرديان بأصبعه.
تتبعت عينا ليليا الأصبع ثم عبّست بوجهها الجميل، ورفعت حاجبيها كأنها غاضبة.
“ذلك الرجل ليس والد ليليا.”
“حقًا؟ ليس كذلك؟”
“حقًا؟ ليس كذلك؟”
تبادل السكان الهمس مجددًا بعد قول الطفلة.
تنهد هيرديان ووقف بين بارثان ورنايا كما لو كان يحاول الفصل بينهما.
“من فضلكم استمعوا. قلت لكم إنه ليس كذلك.”
“إذا لم يكن كذلك، فلا بد أن تقول بسرعة. لا يمكن للرجل أن يكون بطيئًا هكذا.”
تنهد بارثان بخيبة أمل.
“آسف، كنت فظًا جداً عند اللقاء الأول.”
“…لا بأس.”
كانت رنايا بخير، لكن ليليا كانت لا تزال مستاءةً لأن هيرديان أخطأ في اعتباره والدها، فنفخت خديها.
“إنها ضيفتي. هذه أول مرة لها في الشمال، وأتمنى من الجميع معاملتها بلطف أثناء إقامتها.”
“هي، متى سمعنا مثل هذا الكلام بأن نعتنيَ بأحدهم؟”
في تلك اللحظة، تقدمت امرأة كانت تراقب الموقف.
كانت ابتسامتها جميلة وشخصيتها هادئة.
“هل قلت رنايا وليليا؟ أنا أرسلا. ما رأيكم أن ندخل إلى الداخل ونواصل الحديث؟”
“سأعود. سأتبعكم قريبًا.”
بدا أن هيرديان لا يزال لديه أمور ليقولها للسكان.
لم يكن لدى رنايا وقت للرد، إذ قادتها أرسلا إلى الداخل نصف مجبرة.
كان الجو داخل قاعة القرية دافئًا.
أوقدوا النار في الموقد، وشربوا عصيرًا دافئًا، فبدأت أجسادهم المتجمدة تذوب.
“هل تشعرين بالبرد كثيرًا؟ الناس الجدد في الشمال يجدونه صعبًا للغاية.”
أضافت أرسلا حطبًا إلى الموقد.
“…شكرًا.”
“لا شيء جدير بالشكر.”
نظرت رنايا إلى أرسلا بعيون متسائلة.
على الرغم من أن أرسلا كانت ترتدي ملابس أرق منها، كانت هي التي تشعر بالبرد أكثر.
اعتقدت رنايا أن كل أهل الشمال قد اعتادوا على البرد.
“سأعتذر نيابة عن بارثان لما حدث قبل قليل. قد يكون تفكيره ضيقًا لكنه ليس سيئًا… أحيانًا يتصرف بوقاحةٍ مع الآخرين.”
“لا بأس. لقد اعتذر أيضًا. حقًا، لا مشكلة.”
هزت أرسلا رأسها بأدب، فلوحت رنايا بيديها.
كانت أرسلا أكثر تهذيبًا مقارنةً ببارثان العفوي والصريح.
“لكن، هل يمكنني السؤال عن علاقتك بهيرديان؟ هذه أول مرة يحضر أحدهم معه شخصًا مباشرة.”
“…صديق.”
“أوه، صديق إذن.”
غطت أرسلا فمها بيديها بدهشة، ثم ابتسمت بلطف.
“قلت إنكَ لن تقيمين في الشمال لفترة طويلة؟
استمتعي بزيارتك هنا. بخلاف البرودة، الشمال مكان جيد للعيش، وهو مختلف كثيرًا عما كان عليه سابقًا.”
هزت رنايا رأسها، ثم أدارَت نظرها للحظة.
خارج النافذة، كانت ليليا تلعب مع أطفال في سنها، تَتَصَرّف بخجل وهي تبني رجل ثلج.
كان مشهدًا لم تستطع رؤيته في قرية لوكل، حيث لم يعد هناك أطفال في عمر ليليا.
سمعت أن الأطفال الذين لا يتعلمون كيف يكونون اجتماعيين يواجهون صعوبات، لذا كانت قلقة، لكن منظر الطفلة الآن جعَل قلقها يبدو غير مبرر.
‘…لحسن الحظ، ليليا تحب الشمال.’
كانت تبتسم وهي تشعر بالارتياح، عندما…
“آه!”
سمع صوت سقوط.
رأَت ليليا وهي تسقط في الثلج أثناء لعبها بالكرات الثلجية.
عندما حاولت رنايا القيام، أشارَت أرسلا بيدها لتوقفها بهدوء.
أصبح وجه ليليا أحمرًا، لكنها لم تبكِ، بل كانت شجاعة.
“هل أنتِ بخير؟”
“نعم! الثلج حَماني، لذلك لا يؤلمني أبدًا.”
رغم قلق الأطفال الآخرين، ابتسمت ليليا بسعادة، ثم هزت ثيابها من الثلج وكأن شيئًا لم يكن، وواصلت اللعب.
هكذا هي أمام أقرانها…
تذكرت رنايا ليليا التي كانت تبكي كلما سقطت أثناء المشي، وتتطلع إليها بحزن.
“الأطفال مدهشون، أليس كذلك؟ يبدو أنهم بحاجةٍ لرعاية كاملة من الكبار، لكن بمجرد أن تبتعد عينيكِ قليلاً، يكبرون فجأة.”
“…حقًا.”
كانت مشاهدة نمو ليليا فرحًا، لكنها شعرت بالحزن قليلًا لأنها ستصبح مستقلة يومًا ما.
هل هذا هو شعور كل من يربي طفلًا؟
لكن الشيء الواضح هو أن قرار القدوم إلى الشمال بعد تفكير طويل كان صائبًا.
“ماذا يفعل الناس الذين وُلدوا وترعرعوا هنا عادة؟”
“عادة يصبحون صيادين. الطريقة الوحيدة للعيش هنا هي صيد الحيوانات.”
“هل لا يمكنهم الزراعة على الإطلاق؟”
“هذا الأرض لا تصلحُ. فهـذا ليس عبثًا أنها أرضٍ ملعونة.”
كانت قرية لوكلير تشبه كثيرًا هذا المكان، لكنها مختلفة كثيرًا في نفس اللحظةِ.
معظم من وُلدوا هناك أصبحوا مزارعين، لكن هنا الجميع صيادون.
تذكرت رغبة ليليا في أن تصبح مزارعة مثل والدتها، لكن ربما سيتغير حلمها إلى الصيد أثناء إقامتها هنا.
تخيلت ليليا الصيادة، وابتسمت.
كانت قوية وشجاعة، لذا ستنجح في أي شيء.
“أتمنى لك إقامة جيدة في الشمال، رنايا. إذا احتجتِ شيئًا أو مساعدة، تعالي إليّ.”
مسكت رنايا يد أرسلا وابتسمتا لبعضهما.
“نعم، أشكركِ.”
بدا بارثان جديًا وهو يضع الحطب في الموقد.
ومع اشتعال النار ودفء المكان، بدأ الحديث.
“سمعت أنك تعرضت لإصابةٍ.”
“أنا بخير. لم تكن خطيرةً.”
“…هاه. لماذا فجأة تتورط في أمور خطيرة كـهذهِ؟”
تنهد بارثان وهو يهدئ من نفسه بعد غضبه.
جلس على الأريكة متعبًا وغسل وجهه، وجلسَ هيرديان مقابلهُ.
معظم سكان الشمال لم يعرفوا ماذا يفعل هيرديان مؤخرًا، لأنهم لا يخرجون كثيرًا من الشمال.
إلا بارثان وبعض السكان الذين يذهبون لشراء المستلزمات يسمعون الشائعات.
“الشمال هادئ، لكن إذا نزلت قليلاً للأسفل، فالكل يعرف عن تحركاتكَ. والآن فقدَ بدأت تتحركُ.”
✧───── ⋆⋅☆⋅⋆ ─────✧
ستجدون الفصول دومًا متقدمةً لهذهِ الرواية في واتباد وقناة الملفات،
حَسابي واتباد : _1Mariana1
( حسابي السابق قد حُذف)
وستجدون إعلانات تنزيل الفصول قبل هيزو في الرابط المثبت أول التعليق ~ ❀
التعليقات