كان الشعور بالبرد عند الاستيقاظ غريبًا.
بغرائزها، انغرست رنايا داخل البطانية السميكة.
لكنّها فتحت عينيها على صوتٍ من الخارج.
كان المكان بجانبها خاليًا.
نهضت وهي في حالة غير مرتبةً، وارتدت معطفها السميك المعلق على الكرسي، ثمّ توجهت نحوَ النافذةِ.
رأت ليليا تُشكل رجل ثلج بحماسةٍ في وسط الحقل الأبيض المكسو بالثلج.
وكان هيرديان بجانبها أيضًا.
منذ الصباح الباكر، كانا مشغولين ببناءِ رجل الثلج.
عندما فتحت النافذة دخل نسيمٌ بارد.
شدّت رنايا معطفها أكثر حول جسدها.
كانت هذا اليوم الثالث بالفعلِ منذُ مجيئهاَ إلى نهاية الشمال، في بيرماوين.
منذ اليوم الثاني، تكيفت ليليا تمامًا مع الشمال.
رغم ركوبها العربة لفترة طويلة تقارب 15 يومًا، إلا أنّها كانت طفلًا يتمتع بطاقة هائلةً حتى خرجت للعب في اليوم التالي لوصولهم.
وأمّا هي فكيف حالها؟
حتى البارحة فقط، كانت على حافةِ الموت.
كانت هذه أول مرة تدركُ فيها مدى صعوبة ركوب العربة لفترات طويلة.
والبرد في الشمال كان أشد مما توقّعت.
‘الجميع بصحةٍ جيدة. وأنا أيضًا صحيّة نسبيًا مقارنة بالآخرين.’
منذ وصولها إلى بيرماوين، كان هيرديان يعاملها كأنها شخصٌ ضعيفٌ للغايةِ.
إذا أرادت فقط التنزه قليلًا، كان يقيس حرارتها ويعيدها إلى غرفة النوم.
وأحضر لها جميع الملابس الصوفية والأدويةِ الموجودة في القصر.
في حياتها، نادرًا ما مَرضت، لكنّها مرّتين فقط مريضة في الفترة الأخيرة، وكان هيرديان هو من يعتني بها في كلّتا المرتين، وهو أمرٌ شعرت بغرابتهِ.
“أوه، أمي! أمي!”
لوّحت ليليا بذراعيها وهي تضحكُ بحيويةٍ.
التفت هيرديان نحو رنايا، التي سلّمت على الاثنين ثم أغلقت النافذة بسبب البرد القارس، وتوجّهت إلى المدفأة.
بعيدًا عن برد الشمال، كان شعور القصر الكبير البارد يضيفُ لها شعورَ البرودِ.
تذكرت رنايا عند وصولها إلى الشمال يومها الأول، حين تلقّت جولة تعريفية بالقصر.
كان انطباعها الأول عنه مُرًا.
”هل عشت هنا فعلاً طوال هذا الوقت؟”
لم يكن في القصر أيّ شعور بالدفء…… أيّ حياةٍ.
كلّ مستلزمات الحياة موجودة، لكنّ شيئًا أساسيًا مفقود.
ربّما لأنّ عدد ساكني القصر قليل بالنسبة لحجمهِ الكبير، كما سمعت أنّ هيرديان وسيرف وبعض الخدم فقط يعيشون هنا.
كيف عاش هيرديان في مثل هذا المكانَ؟
ارتدت رنايا ملابسها الثقيلة وتوجهت إلى غرفة الطعام.
كان هيرديان وليليا بانتظارها هناكَ.
كانت أنف ليليا حمراء.
كان واضحًا كم استمتعت باللعب في هذا البرد.
“كيف حالكِ اليوم؟”
“أنا بخير.”
أجابت رنايا باختصار وجلست على الكرسي.
“أمي، هل رأيتِ؟ ليليا صنعت رجل ثلج كبيرًا جدًا مع عمي!”
“حقًا؟ سأذهب لأراه بعد الطعام.”
“أنتِ أيضًا يجب أن تصنعي معي رجَل ثلج.”
كانت ليليا مولعةً ببناء رجال الثلج.
لا تُنسى ملامح فرحتها في أول يوم حين رأت الثلج لأول مرة في حياتها.
كانت متحمسة جدًا، مختلفة تمامًا بعيدًا عن الخوفِ من البرد الذي ظهر في الكتب المصورة.
ثلج…… بالنسبة لي، لا أحبه كثيرًا.
أتذكّر مشقة الانزلاق على الطرق الثلجية في حياتي السابقة.
“شكرًا على اهتمامكَ بليليا.”
“لا شكر على واجب.”
فتحت ليليا فمها وقالت:
“لقد لعبتُ مع عمي لأنّه قال إنه يشعرُ بالملل.”
“حقًا؟ ليليا طيبة جدًا، تلعب حتى مع العم المملَ.”
ضحكت رنايا في سرّها، وأثنت على هيرديان الذي تعب مع الطفلة التي لا تنفد طاقتها.
ثمّ جاء الطعام.
شعرت بالراحة حين بدأت بتناول الشوربة الساخنة.
وكانت ليليا تبدو جائعة أيضًا بعد حركتها منذ الصباح، فأكلت أكثر من المعتاد.
بعد أن أنهوا الطعام تقريبًا، طرح هيرديان السؤال الذي كانت تؤرق رنايا.
“هل فكرتِ في المدرسة التي ستلتحق بها ليليا؟”
“……ليس بعد. لم أجد مدرسة مناسبةً تجذبني.”
كانت معظم المدارس التي تعجب رنايا تقع في العاصمة.
أما المناطق الأخرى، فكانت مدارس صغيرة أشبه بالأكاديميات التي تعطي تعليمًا بسيطًا للفلاحين.
لذلك، إن أرادوا تعليماً أفضل، فعليهم الالتحاق بمدارس العاصمة.
‘كنت أعلم هذا… لكن الذهاب إلى العاصمة الآن قد يكون خطيرًا.’
قبل أن ترى كاين، كان هذا هو تفكيرها الضبابي.
كانت تعتقد أنه إذا بقيت بعيدًا عن مناطق النشَاط في العاصمة، فستكون بخير.
لكن الوضع الآن أصبح خطيرًا جدًا.
بينما كانت رنايا تفكر بقلق، قال هيرديان:
“إذا كنتم ترغبون في مدرسة في العاصمة، يجب عليكم الاستعداد للامتحان.”
“هل يوجد امتحان؟”
“معظم المدارس لديها امتحانات. لكن لا تقلقي، معظم الطلبة يتم قبولهم بسهولةٍ.”
“……معظمهم؟”
التفتت رنايا برهة ونظرت إلى ليليا التي لم تكن من النوع المحب للدراسة.
كانت كثيرًا ما تُهرّب نفسها من الدراسة، وقد سبق وأمسكت بها أكثر من مرة عندما حاولت الهروب.
“ما نوع الامتحانات عادة؟”
“أتذكّر أنَّها كانت تركز على مهارات اللغة، استخدام الحروف الإمبراطورية، والآداب الأساسية.”
كان هذا متوقعًا في زمن كان معظم الطلاب فيه من النبلاء.
في العالم الذي كانت تعيش فيه، كان التعليم إلزاميًا حتى الخامسة عشرة، لكن هنا ليس كذلك.
في هذا العالم، الكثير من الناس لا يتلقون تعليمًا لأنهم فقراء أو دون مكانةٍ اجتماعية.
كانت واحدة منهم، ولكنّها لم تكن تهتم كثيرًا بالدراسة في هذه الحياة.
هل ستكون ليليا جيدة في الامتحان؟
هي تتحدث جيدًا مقارنة بأقرانها، وتكره الدراسة فقط، لكنها تستطيع القراءة.
كما أنها مؤدّبة نسبيًا.
لكن من ناحية الأميهَ، كان القلق حاضرًا.
“ليليا، علينا أن ندرس بجدّ من الآن فصاعدًا.”
“……دراسة؟”
ظهرت على وجه ليليا علامة استياء واضحة.
عندما تسمع كلمة “دراسة”، تتغيّر ملامحها هكذا.
“إذا كنت قلقة، سأرسل معلمة خاصة قبل الامتحان. ستدرّسها أساسيات ما تحتاج إليه.”
“عمي!”
رفعت ليليا صوتها، ثم عادت لتخفض كتفيها وتعبّر عن استيائها أمام نظرة رنايا.
“شكرًا على الطعام.”
وهي غاضبة، غادرت بسرعةٍ.
نظرت رنايا للطفلة المبتعدة وتنهدت.
شعرت بالذنب لأنها أجبرت الطفلة على ما لا ترغب به.
تغير وجه رنايا إلى تعبير كئيب، فبدّل هيرديان الموضوع.
“كيف تجدون العيش في الشمال؟”
“……أعتقد أنني ما زلت أحتاج بعض الوقت لأتكيف مع البرد، لكن الوضع جيد.
الشمال يختلف عمّا توقعت، وهذا أمرٌ مثير للاهتمام.”
بيرماوين، نهاية الشمال، هي أرض موصوفة في الكتب بأنها غير صالحة للسكن.
تُوصف بأنها أرض ملعونة لا تلد الحياة، بل تموت فيها.
كانت تُستخدم سابقًا كمكان نفي للمجرمين بدل السجون.
فقط يرتدون معطفًا خفيفًا ويموتون من البرد أو يصبحون فريسة للحيوانات.
لكن الواقع مختلفٌ تمامًا الآن.
بيرماوين التي رآها أثناء مرورها سريعة بالعربة كانت مثل أي مكان آخر، يسكنها البشر.
المناظر طبيعية كلها بيضاء، وهي أبرد من الجنوب فقط.
هل تغيّر هذا بفضل هيرديان؟
لو كان هو من جعل هذا المكان صالحًا للسكن، فهذا يفسّر المشهد الحالي.
“آه…… وشكرًا لك على الملابس والأدوية، سيدي.”
“أنا لست سيدًا بعد الآن.”
“……؟”
“هل نسيت؟ بيرماوين تتبع الإمبراطورية لكنها منطقة مهملة من قبل العائلة الملكية.
لذا أنا هنا مجرد رجل غني، لا أكثر.”
هو ليس مجرد رجل غني فقط. لديه مكانة أيضًا.
ابتلعت رنايا كلماتها.
“إذن…… اللورد روتشيستر……؟”
ارتسمت تجاعيد بين حاجبي هيرديان.
“من ينادي صديقه بهذا الاسم؟”
“……السيد هيرديان؟”
هل هذا أيضًا خاطئ؟
“……هيرديان؟”
“…….”
“…هير؟”
تغير تعبير هيرديان إلى ملامح أكثر ودًّا أخيرًا.
كان بإمكانها أن تناديه باسمه بسهولة قبل أن تعرف حقيقته، لكنّها أصبحت مترددةً بعد معرفتها.
لاحظ هيرديان ترددها ولم يضغط عليها، بل نهض من مكانه.
“إن انتهيتِ من الطعام، لنستعدَ.”
“لأي استعداد؟”
ابتسم هيرديان ابتسامة خفيفة.
“نظرًا لأننا في الشمال، من المؤسف أن نبقى محاصرين في القصر فقط.”
* * *
كانت ليليا التي تنتظر بالخارج وهي تبني رجل الثلج تنظر إلى رنايا التي ترتدي عدة طبقات من الملابس بفارغ الدهشة.
“أمي، هل أصبحتِ رجل ثلجٍ؟”
هرّ رأس هيرديان وابتسم، بينما رمقته رنايا بنظرة توبيخ خفيفة بسبب بَردها.
✧───── ⋆⋅☆⋅⋆ ─────✧
ستجدون الفصول دومًا متقدمةً لهذهِ الرواية في واتباد وقناة الملفات،
حَسابي واتباد : _1Mariana1
( حسابي السابق قد حُذف)
وستجدون إعلانات تنزيل الفصول قبل هيزو في الرابط المثبت أول التعليق ~ ❀
التعليقات