“هل أنتهيتِ من كلُّ شيءٍ؟”
“……هاه!”
تفاجأت رنايا وصاحت وتراجعتَ إلى الوراءِ.
استندت إلى الحائط واحتضنَت ذراعيها، وأشارَ هو بيدهِ إلى داخل المنزل.
“لمن هذا المنزل؟”
“……منزلٌ خالٍ.”
“يبدو أنك مخمورةً. تدخلين بيتًا بلا صاحب.”
ابتلعت رنايا شرحها.
“كيف عرفتَ أنني هنا؟”
“ربما لم تلاحظي، لكنّي تبعتك علنًا.”
“……لا تُلاحقني هكذا بعد الآن، بل ناديني. تخيفني حين تظهرُ فجأةً.”
اكتفى هيرديان برفع كتفيه دون إجابة.
“هل ستعودان إلى مكان الحفل؟”
“لا، معظمهم صاروا في حالة سُكر…… من الأفضل أن أبتعد.”
“إذن، تعالي معي قليلًا.”
“إلى أين؟”
“اتّبعي وسَتَعرفين.”
في هذا الظلام، أين يُمكن أن نذهب؟
تساءلت بدهشة، ثم تبعت هيرديان حتى وصلنا إلى مكانٍ مألوف.
تلّة صغيرة تطل على قرية واثنين من الأشجار الكبيرة.
كانا قد زارا هذا المكان معًا قبل عامين.
الجلوس هناك في وقت متأخر كما من قبل، جعل رنايا تُحسَّ بمشاعرٍ مختلفة.
“من الصعب إيجاد مكانٍ أجمل من هذا في القرية.”
وافقها الرأي. كونها تلّة، لم يكن كبار السن يأتون إليها، فكان هادئًا ومناسبًا للاستمتاع بالمنظر.
في المرة السابقة، كان هناك رائحة تراب رطبة، إذ إنّ السماء كانت ملبدة بالسحب بسبب المطر المستمر.
لكن اليوم كان مختلفًا. السماء الليلية تتلألأ، وأضواء الحفل تلوح من بيت الزعيم.
جلسا جنبًا إلى جنب مستندين إلى الشجرة الكبيرة. كسر هيرديان الصمت أولًا.
“شكرًا لكِ.”
“على ماذا؟”
وجهت رنايا نظرها إليهِ.
ليس هناك ما يستحق الشكر، فقد كان من الأفضل أن يخرج المريض من المستودع ويستنشق الهواء.
“ربما لا تعرفين كم أنا ممتنٌ بسبَب ما حدثَ في ذلك اليوم.”
“……أنا أيضًا ممتنةٌ، على مساعدتيَ وقتها، وكذلك الآن……”
شعرت رنايا أنّها هي أكثر من يشعر بالامتنان.
كان التفكير في احتمال فقدان ليليا يهزّ يديها.
شعرت أنّها لا تستطيع أن تعبّر عن شكرها مدى الحياة.
“بغضّ النظر عن اتفاقنا، أريد أن أرد لك الجميل لإنقاذ ليليا.
إذا كان هناك شيء تحتاجهُ أو تريد مني فعله، قولي.”
“……كيف لكِ أن تعرفينَ ما أريدُ؟”
“……؟”
“أتعرفين ما أحتاجهُ وما أريدهُ؟ ألذلكَ تقولين ذلك بسهولةٍ؟”
“……”
“لا شيءَ ممنوعٌ لدى المخمورِ.”
بدت رنايا متحيرةً. لم تفهم رد هيرديان.
“سأتذكرُ أمتنانكِ، فقط في المرة القادمة لا تردّي، وافعلي كما أقولِ.”
“بالطبع، سأفعلُ، وعد.”
مدت رنايا خنصرها. كانت عادة تفعلها عند الوعد مع ليليا.
لم يرد هيرديان أن يربط إصبعه، فقط نظر إليها بانتباهٍ.
فمالت برأسها باستغرابٍ.
“ألنَ تعدنـيَ؟”
ربما هي مخمورةٌ حقًا. ابتسم هيرديان وربط إصبعه بخنصر رنايا.
“لو نسيت الأمر غدًا، سأغضبُ.”
“لن يحدث. حتى لو كنتُ مخمورةً سـأتذكر.”
حين حاولت رنايا سحب يدها، أمسك بها هيرديان وجذبها إليه برفقٍ.
اقتربت المسافة بينهما بسرعة.
“قلتِ لك في ذلك اليوم، سأُدرجُ اسمكَ أيضًا في قائمة الأشيَاء التي أحبّها.”
أومأت رنايا برأسها.
سبق وقالت له ذلك، لكن حتى وقت قريب كانت تستبعده من الأمور التي تحبها.
الآن تغيرت، لكنها شعرت بثقلٌ في قلبها لأنها كانت قاسية عليه سابقًا.
“الآن سأضعكِ في الأشياء الثمينة لي.”
ابتسم هيرديان وهو ينظر إليها وكأن عينيه تتلألأ أكثر من النجوم في السماء.
بقيت رنايا صامتةٍ، مذهولة كأنها وفي حالة صدمةٍ.
في اليوم التالي، جهزت عائلة فيليت أمتعتها باكرًا.
كانت عربة عائلة روتشستر تنتظرهم عند مدخل القرية.
“دعوني أحمل الأمتعة، سيدة فيليت.”
“……شكرًا.”
حمل سيرف أمتعة رنايا الثقيلةَ بسهولة ووضَعها في العربة.
رغم أنّها كانت خفيفة وقت التعبئة، زادت بعد جمعَ الهدايا من كبار السن.
اقترب هيرديان وسأل:
“هل تأكدتِ من عدم نسيان شيء؟ بعد الانطلاق سيكون من الصعبِ العودة.”
“لا، جهزت كل شيء أمس.”
اختبأت ليليا خلف رنايا، وأظهرت رأسها بانحناءٍ أمام هيرديان.
“مرحبًا، سيدي.”
“صباح الخير. ستقضون وقتًا طويلًا في العربة، هل أنتِ بخير؟ إذا تعبتِ، لا تترددي في إخباري.”
“أنا بخير مع أمي، وديفيد موجودٌ أيضًا.”
أمسكت ليليا بكمّ والدتها بيد واحدة، وباليدِ الأخرى تمسكت بدبدوبها.
عندما انتهوا من الاستعداد وصعدوا إلى العربة، خرجت هيلدي لمرافقتهم حتى مدخل القرية.
“رنايا!”
“لحسن الحظ……! ما زال الوقت مبكرًا…… هاااه…”
“جدتيَ، لماذا خرجتِ؟ أنتِ مريضة وركضتِ حتى هنا……”
تنفست هيلدي قليلًا وأخرجت صندوقًا.
“نسيت أن أعطيك هذا.”
“ما هذا؟”
“افتحيهِ عندما تصلين.”
ابتسمت هيلدي بهدوء واحتضنت حفيدتها.
كانت الفتاة التي كانت صغيرة جدًا قبل أيام قليلة، قد كبرت كثيرًا الآن، وصار من الصعب احتضانها.
“اعتني بنفسكِ.”
“……نعم، جدتي.”
“وليليا أيضًا.”
“نعم!”
ردت ليليا بثقةٍ.
“اعتني بنفسكِ، جدتي. لا تترددي في زيارة الطبيب بانتظام، ولا تتحملي المرض. إذا حدث شيء، اتصليَ بي فورًا.”
“……حسنًا، سأفعل.”
لم تستطع هيلدي أن تودعهم والدموع تملأ عينيها.
بعد أن تركت حفيدتها، انحنت بعمق لهيرديان.
“……أرجوك اعتنِ بأطفالي، أيها السيد.”
“لا تقلقي، سيدتي. إنهما ضيوفي وسأعتني بهما جيدًا.”
“لو سببا لكَ أي إزعاجٍ، هل تستطيعُ مُسامحَتهمِ؟”
“جدتي……”
“على العكس، يجب أن أقلق أنا.”
أطلقت هيلدي تنهيدةً عميقةً أخيرًا، بعد أن طغىَ القلق على قلبها.
“هيا، جدتي، ادخلي بسرعةٍ.”
“سأرى انطلاقكم وأذهب بعدها، اركبوا بسرعةٍ.”
دفعت هيلدي رنايا لركوبِ العربةِ.
بعد أن أومأت برأسها تحيةً، صعد هيرديان إلى العربة.
عندما انطلقت العربة ببطء، نظرت رنايا عبر النافذةِ إلى جدتها التي تبتعد شيئًا فشيئًا.
لم تكن لتبكي، فهذه ليست المرة الأخيرة.
لو شاءت، يمكنها رؤيتها مرة أخرى قريبًا.
بعد أن اختفت هيلدي عن الأنظار، اعتدلتَ في جلستها.
أدركت أخيرًا أنّها ستغادر قرية لوكلير لأول مرةٍ في حياتها.
* * *
ترنحت العربة التي تجرّها الخيول مرتكضة فوق الحجارة.
مع ذلك، جلست المرأة ذات الشعر الأسود الطويل على طرف العربة دون أن تبدي أي انزعاجٍ، تنظر إلى المناظر.
كانت العربة تسير عبر حقول شاسعة لا يمكن رؤيتها كلها من مكان واحد.
أمسكت بيدها قبعة واسعة الحواف كي لا تطير مع الريح.
“آه… كدتُ أفقدها.”
كانت القبعة غالية عليها، ولو فقدتها لحزنّت كثيرًا.
قررت أن تمسكها حتى تهدأ الريح.
كانت للعربة نكهة رومانسية مختلفةٌ عن العربة المغلقة.
رغم الألم في المؤخرة بسببها، كان منظر الطبيعة يستحق ذلك.
سألها العجوز الذي كان يقود الخيول:
“فتاة غريبة. الفتيات الشابات لا يحببن ركوب العربات هكذا.”
“حقًا؟ يمكنني رؤية هذه المناظر الجميلة…… بالإضافة إلى أن العربة المغلقة خانقةٌ قليلًا.”
“يبدو أنّك تتفقين مع عجوز مثلي.”
ضحك العجوز بصوت عالٍ.
“لماذا تسرحين وحدك هكذا؟”
“أنا أهرب.”
“أوه، هل ارتكبت جريمة؟ هل يطاردك الفرسان؟”
“لا، أنا من أهرب من نفسي.”
أجابت بوجهٍ مُرّ لا يُفهم.
كان العجوز مهتمًا بالفتاة الغريبة التي بدت محملةً بالأسرار.
“هل كنت تعيشين في الغرب؟”
“……ليس دائمًا، لكنني عشت هناك نحو عامين.”
“الغرب مكانٌ جميل، بحر أمامك وجبال خلفك. تقولين إنك ذاهبة إلى الشرق الآن، لكن لو رغبت يمكنك التفكير في الشمال.”
“الشمال؟”
“بارد، لكنه يغطيه الثلج الأبيض الخلاب. أنا كبير في السن، وزرت هناك، وألمنيَ صدري بسبب البرد.”
أبدت الفتاة اهتمامًا بكلمة ‘ثلج’. لم ترَ الثلج قط.
تخيّلت المشهد الذي قرأته في الكتب، ونظرت إلى السماء.
كانت تريد تجربة الثلج، لكنّها لم تنو الذهاب للشمال.
خطتها كانت أن تعبر الحدود إذا ملّت من الشرق، ولن تعود إلى هذه البلاد مرةً أخرى.
لم تكن تشعر بأي حنين لبلدها الذي نشأتَ فيهِ.
كانت تشعر بذلك سابقًا، لكن قبل عامين تركت كل شيء في قرية صغيرة.
ابتسمت بانتظارِ رحلتها الأخيرة، وأغمضتَ عينَيها.
✧───── ⋆⋅☆⋅⋆ ─────✧
ستجدون الفصول دومًا متقدمةً لهذهِ الرواية في واتباد وقناة الملفات،
حَسابي واتباد : _1Mariana1
( حسابي السابق قد حُذف)
وستجدون إعلانات تنزيل الفصول قبل هيزو في الرابط المثبت أول التعليق ~ ❀
التعليقات