كانت هيلدي قد وجدت الطفلة على ضفّة الجداول أثناء غسلها للملابس.
الطفلة التي كانت تطفو داخل سلّة لم تَبْكِ قطّ.
بل ما زالت صورة ضحكتها وهي تمدّ يديها نحو السماء الصافية لا تفارق ذاكرتها.
في البداية، حاول كلّ من في القرية ثَنْيها عن تربية الطفلة.
قالوا إنّ فتاةً ترمّلت وفقدت زوجها، كيف لها أن تُربّي ابنة غيرها؟
لم يكن تربية الطفلة أمرًا هيّنًا.
لكن حين تنظر الآن إلى الوراء، فقد كسبت علاقةً ثمينةً وذكرياتٍ لا تُقدَّر بثمن.
وكان ذلك وحده كافيًا لهيلدي.
“……إلى أين تنوين الذهاب؟”
“في الوقت الحالي، سأذهب إلى الشمال لبعض الوقت. فقط حتّى يتحدّدَ أمرُ مدرسة ليليا.”
“الشمال؟ ذاك مكانٌ يصعبُ العيش فيهِ. هل لا بُدّ من البقاء هناكَ؟”
غمرَ القلق وجهَ هيلدي.
تردّدت رَنايا للحظة، ثم اعترفت بصراحة:
“……لقد قرّرتُ أن أرافق السيّد.”
“هاه؟”
رمشت هيلدي بعينيها تُكرّر الكلام.
بدا أنّ الصدمة شلّت لسانها، فعجزت عن فتحِ فمها للحظة.
لم تصدّق أنّ حفيدتها واللورد قد اقتربا من بعضهما إلى هذا الحدّ.
‘آه، لا يكون ذاك اليوم…؟’
راودها مشهدُ اختفاء ليليا في ذلك اليوم، فارتسمت على وجهها ملامحُ غريبة.
ورغم استمرار قلقها، قرّرت احترامَ قرار حفيدتها.
فقد بدا أنّ الربيع قد بدأ يحلّ في قلبها أخيرًا.
بعد ذلك، مرّ الوقت سريعًا.
ما إن شاع خبر مغادرة رَنايا للقرية، حتّى اجتمع السكّان سريعًا لإقامة حفلة وداع متواضعةٍ في الليلة السابقة.
حاولت هي رفض الأمر قائلة إنّه لا داعي لذلك،َ لكنّها لم تستطع الوقوف أمام إصرار كبارِ السن.
وكان اليوم هو موعد تلك الحفلة.
بما أنّ التجمّع كان في المساء، فلا يزال لديها بعض الوقت.
فبينما سبقتها هيلدي وليليا إلى هناك، تابعت رَنايا حزمَ ما تبقّى من الأمتعة.
“لمْ يَكُن هناكَ الكثير ممّا يجب أخذه.”
كانت قد حاولت أن تكون دقيقةً في التّحضير، لكن في النهاية لم يتبقَّ سوى بعض الملابس والأدوات اليوميّة.
بل إنّ معظم تلك الأشياء كانت تخصّ ليليَا.
في الأصل، كان من المفترض أن يكون لديها أكوامٌ من الأشياء لتحضيرها.
كان عليها أن تبحث مسبقًا عن منزل، وأن تُحضّر أموالًا كافية كذلك.
لكنها لم تستطع حتى أن تُجرّب ذلك، إذ تمّ منعها مُسبقًا.
‘رَنايا، فقط تعالي بنفسكِ، وسأتكفّل بالباقي. فلا داعي لأن تُرهقي نفسك.’
قال هيرديان هذا حين أعربت عن نيّتها بمرافقتهِ، وكان يبدو سعيدًا بذلك.
وقد تكلّم وكأنّ ترتيبه للأمور أمرٌ بديهي، فلم تستطع رَنايا معارضته.
بفضل ذلك، استطاعت تخصيص وقتها فقط لتوديع القرية التي عاشت فيها 28 عامًا، والناسِ الأعزّ على قلبها.
“يجب أن أحمل بعض المال للطوارئ، تحسُّبًا لأيّ شيء.”
قامت بتحضير الأموال التي قد تحتاجها للهرب من الشمال إن اضطُرّت لذلك.
لم تعد تُفكّر بتهاون مثل: ‘لن يحدث شيء’.
بل باتت تُهيّئ نفسها لأيّ خطرٍ قد يأتي مستقبلاً.
ولهذا السبب، لم يكن من السهل عليها قبولُ عرض هيرديان.
كانت قد فكّرت برفضه، لكن حديثًا دار بينها وبين ليليا في تلك الليلة غيّر رأيها.
في تلك الليلة، وبينما كانت تُهدّئ ليليا النائمة، سردت عليها الموقف باختصار:
بأنّهما ستغادران القرية لأجل الدراسة، وأنّ السيّد اللورد قرّر مساعدتهما.
ولم تُخبرها بالحقيقة حول والدها البيولوجي أو عائلة روتشستر.
وأثناء قولها ذلك بحذر، كانت تتوقّع ردة فعل الطفلة.
ظنّت أنّها سترفضُ بشدّة، فهي وإن كانت تحبّ الجد، إلّا أنّها لا تحبّ الشاب الذي تحتَه.
لكنّ المفاجأة كانت في أنّ الطفلة بقيت هادئة.
”أُوه، ليليا لا تمانع.”
”……لِمَ؟”
”لأنّه هو مَن أنقذ ليليا…، ذاك العمّ.”
لم تكن تعلم لماذا تُناديه ليليا بـ”ذاك العمّ”،
لكن ما كان واضحًا هو أنّ الطفلة كانت تُكنّ له امتنانًا عميقًا.
”ثمّ، قال ذاك العمّ لليليا البارحة، إنّه يُريد مساعدتي أنا وأمي.”
”……قال ذلك؟”
”نعم أن أمي ستتبع قرار ليليا، لذا قال لليليا أن تفكّر بالأمر.”
”وهل ليليا فكّرتْ وقرّرت؟”
“نعم”
أومأت ليليا برأسها.
وتخيّلت رَنايا كم كانت الطفلة تفكّر بكلّ جديّةِ بهذا القرار، فشعرت بشوقٍ شديد لدرجة أنّها قبّلتها عدّة مرّات على خدّها حتّى ضحكت الطفلة بصوتٍ عالٍ.
ثمّ فتحت الطفلة عينيها على وسعهما، وسألت:
”لكن، هل ماما بخير؟ هل ماما يمكنها الذهاب مع ذاك العمّ؟”
”أمكِ…”
”إن كانت ماما لا تُريد، فليليا أيضًا لا تُريد.”
”……”
”ماما قلقة لأجل ليليا، أليس كذلك؟ لأنّ ذاك العمّ كان يُزعجها من قبل.
لكن ليليا لا تحتاج سوى ماما، فلا تقلقي كثيرًا يا ماما.”
في تلك اللحظة، شعرت رَنايا بدموعٍ تترقرق في عينيها،
إذ انعكس حبّ الطفلة وثقتها اللامحدودة في عينيها البنفسجيّتين وسط الظلام.
وفكّرت أنّ عليها أن تبذل جهدًا كبيرًا لتردّ هذا الحبّ الصادق.
”……شكرًا لكِ، ليليا. من الآن فصاعدًا، لن أتردّد كثيرًا.”
كانت تعرف أنّ ما اختارته ينطوي على مخاطر،
لكنّها قرّرت ألّا تنغمس في القلق الزائد أو الأفكار المعقّدة.
على ما يبدو، كلّما زاد قلقها، كلّما انعكس ذلك على ملامحها.
وربّما لذلك، كانت الطفلةُ تُلاحظ دائمًا وتشعرُ بالقلقِ عليها.
لمّا أنهت ترتيب الأمتعة، نظرت مجدّدًا إلى ساعةِ الحائط.
لقد حان الوقت للمغادرةِ.
واتّجهت بخطواتٍ خفيفةٍ نحو بيت العمدة حيث ستُقام حفلة الوداع.
بدأت حفلة الوداع بالبكاء قبل أن تصل صاحبةُ الحفلة نفسها.
فحين وصلت رَنايا متأخّرةً، وقفت حائرة لا تفهم السبب.
لكن ما إن سمعت السبب من أفواه الكبار الذين اغرورقت أعينهم بالدموع، حتّى لم تستطع كتمان ابتسامتها.
”ليليا تحبّ الجدّ والجدة كثيرًا… شكرًا لأنّكم أحببتم ليليا طوال هذا الوقت.”
كان اعتراف الطفلة البريء مؤثّرًا.
”……جدّتي هيلدي، ستكتبين لليليا رسائل كثيرًا، أليس كذلك؟ لا تنسَي ليليا….”
وحُبّ الحفيدة لجدّتها هو ما فجّر مشاعر الكبار.
كانت ليليا لا تُظهر الحزن تجاه مغادرة القرية.
بل كانت تتصرّف بنضجٍ غريب.
لكن مع اقتراب وقت الرحيل، لم تستطع إخفاءَ حزنها.
تواعدت مع الجدّة أن تتبادلا الرسائل كثيرًا،
وربطتا خنصرَيهما كعهدٍ صغير.
لكن الطفلة لم تستطع مقاومة الحزن،
وبَكَت حتّى غرقت في النوم.
وبعد أن وضعوها لتنام في منزل العمدة، بدأت الحفلة الفعليّة.
“رَنايا، أينما ذهبتِ، عيشي بخير.
خارج القرية هناك أُناس خطرون، فلا تثقي بأيّ أحد هكذا بسهولة بعد الآن.”
“هل تأكّدتِ من الأمتعة؟ أعيدي التحقّق من كلّ شيء.
هذا نبيذ تفّاح خزنته منذ عشر سنوات، خذيه معكِ.
عندما تتذوّقين ما يُباع خارجًا، ستتوقين لنكهة قريتنا حتّى لا تستطيعيَن النوم.”
بدأ السكان كلٌّ بإعطاء كلمة وداع،
وأعطوها أشياء جهّزوها بأنفسهم، كأنّهم يُودّعون ابنتهم أو حفيدتهم.
كانت مرتبكة في البداية،
لكنّها شَكَرَت كلّ شخصٍ واحدًا تلو الآخر.
“حتى لو انشغلتِ، لا تنسي إرسال الرسائل إلى الجدّة.
هي لا تُظهر مشاعرها، لكنّ فراق حَفديتها سيتركها وحيدة لفترة.”
قالت السيدة لوسون ذلك بصوتٍ خافت وهي تقفَ بجانبها.
فأدارت رَنايا نظرها نحو هيلدي التي كانت ترعى ليليا من بعيد، وهزّت رأسها.
“حسنًا، سأفعلُ.”
اشتدّت أجواء الحفلة تدريجيًّا.
وأثناء حديثهم وتبادلهم الكؤوس، ظلّت ابتسامة رَنايا الهادئة مرتسمة على وجهها.
فجأةً، خطرت في بالها فكرة:
‘لقد عشتُ حياتي بشكلٍ جيّد.’
فهي التي كانت تشعر بالاغتراب في طفولتها، لم تكن تتخيّل أنّها ستكون بهذا القرب من الجميع.
حينما شعرت ببعض الصداعِ من الشراب، خرجتَ بهدوء من الحفلة.
وسارت في الطرقات الليليّة حتّى بدأ مفعول الخمر يزول.
تبعت الطريق الذي تعرفه جيّدًا.
لكنّها لم تصل إلى منزلها، بل إلى البيت المجاور.
حدّقت في الباب الخشبيّ، ثم أدارت المقبض بحذر.
“كحّ… كحّ!”
كان الغبار يملأ الجوّ.
فأشعلت شمعة وتفقّدت المكان.
لقد مرّ عامان كاملان دون أن تطأ هذا المنزل.
فحَتّى التحديق في الباب كان مؤلمًا لها، ولم تكن تجرؤ على النظر إلى ذاك الاتجاهَ.
ولم تكن ليليا مختلفةً عنها في ذلك.
‘هل يُعقل أنّ الغبار يتراكم بهذا الشكل بعد عامين فقط؟’
في ذاكرتها، كان هذا البيت دافئًا، نظيفًا، مأهولًا كلّ يوم.
لكنّ حاله الآن باردٌ جدًا، لا يُشبه البيتَ في ذاكرتها.
تجوّلت في الداخل وهي تحمل الشمعدان.
وكان كلّ ركنٍ تُلقي عليه نظرة يفتح لها بابَ ذِكرى.
ما يدلّ على أنّها كانت تزور هذا البيتَ كثيرًا.
أخرجت ورقةً وريشةً من أحد الأدراج.
وجلست عند الطاولة، غمست الريشة بالحبر، ثم قرّبتها من الورقة.
لكن يدها توقّفت، ولم تكتب على الفور.
تردّدت للحظة، ثم كتبت شيئًا بسيطًا رغم أنّها كانت تُفكّر طويلًا من قبل.
طوت الورقة بعناية، ووضعتها فوق الطاولة لتكونَ واضحةً لصاحب المنزل حين يعود.
ثمّ خرجت من ذاك الغبار إلى الهواء الليليّ النقيَ.
وحينئذٍ، سَمِعَت صوتَ هيرديان من جانَبها.
✧───── ⋆⋅☆⋅⋆ ─────✧
ستجدون الفصول دومًا متقدمةً لهذهِ الرواية في واتباد وقناة الملفات،
حَسابي واتباد : _1Mariana1
( حسابي السابق قد حُذف)
وستجدون إعلانات تنزيل الفصول قبل هيزو في الرابط المثبت أول التعليق ~ ❀
التعليقات