كما قال سيرف، تلقَّت رنايا فحصًا بسيطًا من الطبيب الذي جاء بعد الغداء.
راقب الطبيب رنايا بدهشة وكأنّه يرى مخلوقًا غريبًا، بعدما تعافت خلال يومٍ واحد بشكلٍ لا يُصدَّق.
‘هل من الممكن أن يتعافى إنسان بهذه السرعةِ؟’
لكنّه لم ينطق بذلك.
“مع ذلك، لا يجب أن تُجهدي نفسَكِ لفترة.”
انتهى الفحص سريعًا.
وبعد أن تحقَّق الطبيب من بعض حالاتها الإضافيّة، غادر وفي وجهه نظرة غامضة.
ما إن خرج الطبيب، حنَتْ رنايا رأسها بتعبيرٍ متجمِّد وقاسٍ.
ورغم أنّ جسدها تعافى، لم تشعر بأيّ فرح.
كاين وصل إلى الجنوب.
صحيح أنّ التوقيت مشابه تقريبًا لأحداث الرواية، لكنّه من الآن فصاعدًا كان سيبدأ بالبحث في أرجاء الجنوب بأكمله.
ولحسن الحظ، يبدو أنّه عاد اليوم،
لكن إنْ كانت هذه المرحلة متطابقة مع الرواية، فسرعان ما سيكتشف قرية لوكلير.
‘عليَّ أن أُسرِع في التحضير للانتقال. بل ربّما من الأفضل أن نغادر فورًا…’
كانت مضطربةً.
وبينما كانت تسير بقلق في الغرفة، لمحت رنايا تفاحةً حمراء على الطاولة.
كانت التفاحة التي أعطاها إياها سيرف.
عندها فقط تذكَّرت ما يجب عليها فعله قبل أن تغادر.
‘ما زالَ الوقتُ مناسبًا. لا بأس، لا بأس.’
ردَّدت ذلك داخل نفسها مهدّئةً اضطرابها، وأخذت التفاحة ثم خرجت من الغرفة.
بعد أن سألت سيرف عن مكان هيرديان، اتّجهت إلى الحديقة خلف القصر، وهي تُمسك التفاحة بإحكامٍ في يدها.
“…هُنا؟”
توقّفت رنايا تنظر إلى الأرض الخالية خلف القصر.
بدت بعيدةً عن كونها حديقة.
فقط بضع أشجار كانت مزروعة، دون أيّ أزهار، ولا حتّى عُشب يُذكَر.
كان هيرديان جالسًا تحت ظلّ شجرة، غارقًا في التفكير.
اقتربت رنايا بحذر وحاولت لمس كتفه، لكنّه شعر بوجودها وأمسك بذراعها فورًا.
“…رنايا؟”
حين رأى وجهها، خفَّف من قبضته.
“لماذا خرجتِ؟ ألم يكن من الأفضل أن ترتاحي أكثر؟”
“أردتُ أن أُعطيكَ شيئًا.”
تردَّدت قليلًا، ثمّ مدَّت التفاحة التي كانت تُخفيها خلف ظهرها.
“خُذها.”
كان هذا هو أسلوب الاعتذار في قرية لوكلير.
كون التفاح منتجًا رئيسًا هناك، كان من المعتاد إن حدث سوء تفاهم بين اثنين، أن يقدّم أحدهما تفاحةً للآخر.
لكن بالطبع، تقديم التفاحة لا يكفي وحده.
الجزء الأهم هو الاعتذار الصادق المرافق لها.
“…أعتذر لأنّني كنتُ قاسيةً بكلامي طوال الفترة الماضية.”
تلقّى هيرديان التفاحة بدهشة، وعيناه تنظران إليها بتفاجؤ.
وبينما كان يُبادل النظر بين التفاحة ووجه رنايا المتوتّر، انفجر ضاحكًا.
نظرت إليه بصمت بينما كان يضحك تحت ضوء الغروب.
‘لم أكن أعلم أنّه قادرٌ على الضحكِ هكذا…’
قبل سنتين، كانت الظروف قاسية بحيث لا مجالَ للضحكِ.
ومنذ لقائهما من جديد، لم تَره يبتسم بسبب الجراَح التي تسبّبت له بها.
زاد شعورها بالذنب، لأنّها كانت السببَ في غياب ابتسامته، ابتسامةٍ بهذه الجمال.
“من أين حصلتِ على التفاحة؟”
“…طلبتُها قبل قليل، من السيّد سيرف.”
“آه، من سيرف… فقط قولي سيرف.”
“أنا؟ كيف… أقول هذا؟”
تجهّمت قليلًا.
شعرت أنّها قد تكون بدت قليلة الاحترام، لكونها لا تعرفه حقًّا.
لكن لمّا رأت لمعة الدعابة في عينيه، أدركت أنّه يمازحها.
“يبدو أنّ صوتكِ لم يعُد بالكامل بعد.”
“…إذن، لِنُوقِف المزاح؟”
ضحك طويلًا.
ثمّ نظر إلى خصلة من شعرها البني التي انتصبت رغم تمشيطها، فضحك مجددًا.
‘منذ متى أصبحتُ أضحكُ بهذا الشكل؟’
قال بنعومة وهو يمنعها من ترتيب شعرها:
“خرجتِ على عجل، صح؟ شعرك منتفش.”
“…!”
“لا بأس، يَبدو جميلًا.”
ثمّ أكمل بهدوء:
“هل أخبرتُكِ من قبل… أنّني أحبّ لون شعرك؟
عندما تقفين تحت الشمس، يبدو كما لو أنّه غصن شجرةٍ يتمايل في الريح.”
“…غصن شجرة؟”
“في الشمال، نرى الأغصان أكثر من الأوراق.
يعني أنّني كنتُ أفكّر بكِ كثيرًا.”
لم تعرف كيف تردّ.
لأوّل مرّة يقول لها أحد إنّه يُحبّ هذا اللون البني العادي.
في الحقيقة، الشخص الذي يمتلكَ لونًا جميلًا هي بلَ هو.
“رنايا، سأغادرُ القرية قريبًا.
ولا أعرف متى أعود. ربّما بعد سنتين كما المرة السابقة… أو أكثر.”
ثمّ بصوتٍ أكثر جدّية:
“وأُريدكِ أن تأتي معي.”
“…معكَ؟”
عيناها الخضراوان ارتجفتا بدهشةٍ، فقد كان اقتراحهُ خارج توقّعاتها تمامًا.
“أنا مدينٌ لكِ، وأُريد ردّ الجميل.
لكنّكِ شخص لا يُحبّ تلقّي المعروف دون مقابل، صح؟
ستشعرين أنّكِ مجبرةٌ على رده لاحقًا.”
كأنّه قرأ أفكارها.
نعم، كانت تكره تلقّي المعروف دون أن تردّه.
لكن ما العلاقة بين هذا وذهابها إلى الشمال معهِ؟
نظرت إليه بعينين مليئتين بالأسئلةِ.
“لهذا، أُريد عقد صفقة. حتى لا تشعري أنّكِ مجرّد متلقية.”
“صفقة؟”
“أنتِ تعرفين أنّ الإمبراطوريّة ما زال فيها الكثير من قطاع الطرق.
تعرفين أيضًا أنّ القرية لم تعُد آمنةً.”
كانت تعرف ذلك جيّدًا.
حادثة الأيام الماضية كانت كفيلةً بجعلها تُدرك ذلكَ حتى نخاعِها.
“سأترك أحد رجالي هنا.
هكذا لن يجرؤ أحد على الاقتراب من القرية مجددًا،
وسترتاحون من عبء ِالعمل قليلًا.
حتى لو لم تكوني هنا، سيكون الوضع جيّدًا.”
بصراحةٍ، كان العرض مغريًا.
فقد أدركت من هذه الحادثة كم كانت متساهلةً،
وأنّ القرية بحاجة ماسّة إلى من يحميها.
“ثمّ، سمعتُ أنَّ الطفلة تبلغ السابعة من عمرها.
أي إنّها ستبدأ الدراسة قريبًا.
ولا يمكنها البقاء هنا إلى الأبد.
أمّا أنا، فيمكنني دعم تعليَمها.”
“…كلّ هذا الدعم، وأنا ماذا أُقدِّم في المقابل؟”
كلّ ما سمعته حتى الآن كان في صالحها.
فابتسم هيرديان قائلاً:
“كما قلت، فقط أنْ تأتي معي.
وتُصبحي صديقتي… كما كنّا قبل سنتين.”
“…لكن هذه الأشياء كلّها في صالحي!”
لم تَشعُر أنّها صفقةٌ، بل معروف جديد.
“بل ليست كذلك.
لأنّكِ لا تُريدين أن تكوني صديقتي.”
كانت على وشكِ الاعتراض،
لكنّها تذكَّرت فجأة كلّ ما قالته وفعَلته له خلال الفترة الماضية،
فصمتت.
هي كانت تنوي مغادرةَ القرية أصلًا.
لكن أن تطلب مساعدة هيرديان… فذلك أمر آخر تمامًا.
هي تعرف أنّه شخصٌ طيب،
لكنّه أيضًا خصم مباشر لكاين، الذي تحاولُ الهربَ منهُ.
إن كانت تَهرب لحماية ليليا،
فكيف تطلب العون من أحد أفراد عائلة روتشستر؟
لكن، لا يُمكن إنكار أنّ عرضهُ مغرٍ جدًّا.
لو ذهبَت معه، فسيكون من السهل إدخال ليليا إلى المدرسة.
تردّدت قليلًا، ثم قالت:
“…سأُفكّرُ في الأمرِ. لن أتأخّر في قراري.”
في تلك الليلة، عادت رنايا إلى منزلها،
وجلست لأوّل مرة منذ مدّة تتحدث بهدوءٍ مع هيلدي.
كانت ليليا نائمة، لذا جرى الحديث بصوتٍ منخفض.
“جدّتي… أُفكّر بأخذ ليليا ومغادرةِ القرية.”
قبل أكثر من عشر سنوات، كانت تقول إنّها لا تستطيع ترك جدّتها وتتنازل عن أحلامها من أجلها.
وكانت تعتقد أنّ هذا الشعور لن يتغَيّر حتى الموت.
لكنّ الإنسان لا يعرف ما يَخبئه له الغدُ.
صحيح أنّ ليليا أصبحت أولويّتها الآن،
لكن القرية والجدّة ما زالا غاليَين على قلبها.
‘…كيف ستردُّ عليّ؟’
انحنت تُحدِّق في فخذيها، ويداها تتعرّقان.
في تلك اللحظة، توقّفت هيلدي عن الحياكة.
“جيّد يا رنايا.”
رفعت رأسها بدهشةٍ.
رأت هيلدي تمسح دموعًا في عينيها وتبتسم بحنان.
كما لو أنّها فخورة بحفيدتها التي كبرَت.
“جدّتي…”
“ما حدث قبل أيّام… آسفةٌ عليه.
لم أستشِرْكِ، وتصرَّفتُ من تلقاء نفسي.”
“…لا، لا تقولي ذلك.
كنتِ فقط تقلقين عليّ.
أنا التي كنتُ متردّدة وأجرُّ كلّ من حولي في دوّامة.”
حكّت رأسها بخجل.
لم تعتد الحديث بهذا الشكل مع الجدّة،
فأحسّت بالحرج، واشتعلت وجنتاها.
لكن رغم كلّ شيء، لا بدّ أن تقول ما في قلبها:
“شكرًا… لأنّكِ ربيتِني كلّ هذه السنين.”
أخرجت هيلدي من صدرها منديلاً ومسحت دموعها.
‘متى كبرتَ هذه الطفلةُ الصّغيرةُ إلى هذا الحِد…؟’
✧───── ⋆⋅☆⋅⋆ ─────✧
ستجدون الفصول دومًا متقدمةً لهذهِ الرواية في واتباد وقناة الملفات،
حَسابي واتباد : _1Mariana1
( حسابي السابق قد حُذف)
وستجدون إعلانات تنزيل الفصول قبل هيزو في الرابط المثبت أول التعليق ~ ❀
التعليقات