“……هَلْ مَرَّ كُلُّ هذا الوقت فعلًا؟”
شهرٌ واحد. قصيرٌ إنْ كان قصيرًا، رغم إنْهُ كان وقتً طويل طويلًا، إلّا أنّه مرّ بسرعة.
في الشمال، كانت تمرّ السنة وكأنّها دهر، لكن في قرية لوكلير، مرّ الزّمن كلمح البصر.
أيعقل أنّ مرور الوقت يختلف فقط في الجنوب؟
كلّما فكّرتْ في الأمر، بدا لها أكثر سخرية.
“لقدْ نشرتُ رجالًا حول القرية كي لا يتكرّر ما حدثْ.
إذا رصدوا أيَّ شخصٍ مريب، فسيُرسَل التّقرير فورًا.”
شعر هيرديان أنّ هذا لا يكفي.
قبل عدّة أيّام، حين سألته رنايا عن سبب قدومه إلى القرية، أجابها بأنّه جاء لِيَحمي.
رغم أنّها لم تبدُ مصدّقة، إلّا أنّه لم يكن يَكذب.
لقد جاء لِيَحمي القرية.
ولِيَحفظ الذكريات التي صنعها في شهرٍ واحد.
ولِيَحمي رنايا أيضًا، عاد هيرديان إلى قرية لوكلير بعد عامين.
قبل عدّة أشهر، أُعيد تقسيم أراضي منطقة روندل.
فقام القصر الإمبراطوري بعزل بعض النبلاء الفاسدين ومنح جزءًا من الأراضي لعائلة روتشستر.
وللأسف، كانت قرية لوكلير ضمن تلك الأراضي.
حتى ذلك الحين، لم يكن هيرديان ينوي طلب الذهاب إلى الجنوب.
حتى عَلِم بأنّ آثار الشخص الذي يبحث عنه تقود إلى قرية لوكلير.
ثم، وعندما أدرك ما يفعل، كان قد طلب الإذن من الإمبراطور للتوجّه جنوبًا.
“سيّدي، أليسَ قدْ أنجزتَ هدفك من المجيء إلى الجنوب؟”
لقدْ أتمّ مهمّته.
زرع رجاله في الجنوب، وأدار الشؤون الماليّة للقرية، وحصل على المعلومات التي أرادها.
ولكنْ، حين جاء وقت المغادرة، لم يطاوعه قلبه.
تحديدًا، كان يصعب عليه ترك رنايا والمضيّ.
‘……ما الّذي أريدهُ أنا بالضّبط؟’
ماذا يُريد من رنايا؟
في البداية، كان يرى أنّ البقاء كصديقٍ لها أكثر ممّا يستحقّه.
لكنْ، مع مرور الوقت، بدا أنّه بدأ يطمع في ما هو أكثر.
نامتْ رنايا ليومٍ كاملٍ تقريبًا.
وكانت قد قرأتْ في كتب الطب أنّ النوم مهمّ، ويبدو أنّ هذا صحيح فعلًا، إذ شعرت بجسدها أكثر خفّة بعد نومٍ عميق.
“آه، آه…….”
كان صوتها لا يزال متحشرجًا، لكنْ أصبح بمقدورها الكلام.
وحين رفعتْ جسدها لتعتدل وجلستْ وهي تحاولُ تنظيفَ حلقها، سُمِع صوتُ خطواتٍ خارجَ الباب.
دخل أحدهم الغرفة، وظنّتْ رنايا للوهلة الأولى أنّه هيرديان، ففوجئت.
فالرجل الذي دخل كان شيخًا أنيقًا يرتدي بزّة رسميّة.
“سيّدة فيليت، هل سعلتِ؟”
“……آه، نعم.”
‘سيّدة فيليت؟’
شعرتْ رنايا بغرابةٍ حين سُمّيت بهذا الاسم لأوّل مرّة، فأجابتْ بتردّد.
“أنا كبير خَدَم السيّد هيرديان روتشستر، اسمي سِيرف. كيف حالكِ؟”
“بخير، آه.”
“يبدو أنّ صوتكِ لمْ يَعُدْ تمامًا بعد. الطبيب سيزوركِ بعد الظّهر.”
“……شكرًا.”
قدّم سيرف لها حساءً خفيفًا ودواءً يُساعد على التّعافي.
“تفضّلي بتناول الطعامِ على راحتكِ.”
أخذتْ رنايا الطعام بخجل.
ثمّ تردّدتْ للحظات، لتقول:
“أ-أعذرني…….”
“هلْ تحتاجين شيئًا؟”
“أيمكنني…… أنْ أطلب تفاحةً واحدة فقط؟”
“تفاحة؟”
“……نعم.”
رغم أنّها في ضيافتهم، كان الطّلب محرجًا للغاية.
وتحوّل وجه رنايا إلى لون التفّاح من شدّة الإحراج، فابتسم سيرف بهدوء.
“إنْ كنتِ تشتهين تفاحة، سأُحضِرها لكِ بعد الطعام.”
“ليستْ لي أنا…… فقط، أيمكنكَ إحضارها دون تقشير؟ تفاحة واحدة فقط.”
“أفهَم، سيّدة فيليت. سأُحضّرها.”
ثمّ خرج سيرف من الغرفة.
فتنهّدتْ رنايا بعمق، تُحاول التخلّص من توتّرها.
‘يبدو أنّه شخصٌ مهيب، أليس كذلك؟’
رغم أنّها لا تعرف كثيرًا عن آداب النبلاء، إلّا أنّ تحرّكاتهُ كانت راقيةً ومنظّمة، تدلّ على أنّه ليس خادمًا عاديًّا.
‘فهو يعمل إلى جانب هيرديان. ومن أفراد عائلة روتشستر. فلا بدّ أن يكون كذلك.’
استجمعتْ أفكارها، وأمسكتْ أدوات الطعام.
لكن في تلك اللحظة، سُمِع صوتٌ من خلف النّافذة.
رفعتْ رأسها تلقائيًّا، واتّسعت عيناها.
ثمّ سقطتْ أدوات الطعام من يدها.
‘لِماذا؟’
عربةٌ توقّفتْ أمام القصر.
ورجلٌ ترجل منها.
لم ترهُ من قبل، ومع ذلك عرفتْه فورًا.
شَعرٌ أشقرٌ فاتح.
وعينان بلونٍ غريب، مزيج بين الأحمر والأزرق.
رُهبة تشعّ من حضوره، رغم أنّه لا يزال بعيدًا.
إنّه كاين روتشستر.
أثار وصول كاين المفاجئ استياء هيرديان.
كان يعلم أنّه جاء إلى الجنوب منذ أيّام، لكنّه لمْ يتوقّع أنْ يصل إليه شخصيًّا.
حاول أنْ يُخفي انزعاجه بابتسامة، وجلس يُقابله.
“ما سبب قدومك إلى هنا، يا أخي؟”
“قلقتُ على حالكَ، فجئتُ لأطمئن. هل من مشكلة؟”
“أبدًا، فقط أعلمُ كم أنتَ مشغول.”
لكنّ عينيه لمْ تَبدُ فيهما القلق، بل التّفحّص.
كأنّه يبحث عن شيءٍ خفيّ.
‘إلى متى ستُخفي كذبكَ؟’
سَخِر هيرديان في داخله، وارتشف الشاي.
كان يعرف تمامًا سبب مجيء كاين إلى الجنوب.
فقدْ شاع في الآونة الأخيرة حديث عن مجنونٍ ينبش قبور النّساء ذوات الشَّعر الأسود.
وعندما لم يَعُد يجد المزيد في الشمال، انتقل إلى الجنوب.
‘أحمدُ الله أنّه جاء إلى القصر، لا إلى القرية.’
كان يعلم أنّ لا فائدة من تعريفه بالقرية.
“لا بدّ أنّ الإقامة هنا مزعجة، أليس كذلك؟”
“ليسَ تمامًا.”
“ألِأنّكَ اعتدتَ العيش في القمامةِ؟”
كلامٌ مغرورٌ لا يصدر إلّا عن نبيلٍ متكبّر.
ولكنّ هيرديان لمْ يكنْ فقط قد اعتاد الخراب.
بلْ اعتاد البرد القارس.
والجوع.
والألم الّذي يدفعك للتوسّل بالموت.
لقد تعلّم الكثير وهو يعيش في الشمال، لذا فالإقامة في قصرٍ مهجور لمْ تكنْ شيئًا يُذكر.
“متى تنوي العودة إلى الشمال؟”
“عمّا قريب. جراحي شُفيتْ تقريبًا. وأنتَ، ألن تعود إلى العاصمة؟ عمّي كثيرًا ما يسأل عنكَ.”
لكن ما إنْ أنهى كلامه، حتى دخل مساعد كاين إلى الغرفة.
وبهمسٍ في أذنه، بلّغه رسالة جعلت وجهه يتلوّى.
يبدو أنّه تلقّى أمرًا من ريفِد للعودة فورًا إلى العاصمة.
“شكرًا على قلقكَ، لكنّني بخير. لذا، يُفضّل أنْ تعود.”
قالها هيرديان وهو يبتسم ويدفعه بلُطف.
لكنّ المعنى الحقيقيّ كان: “اخرج من هنا فورًا”.
ضحك كاين بسخرية.
ثمّ نظر إليه بنظراتٍ حادّةٍ ممزوجةٍ بشيءٍ من التّهديد.
لكنّ هيرديان لمْ يتأثّر.
“تتصرف وكأنكَ تُخفي كنزًا هنا.”
“بالكاد أُعيد تأهيلي لا أكثر.”
“…….”
“لا شيء أكثر من ذلك.”
ساد الصمتُ في غرفة الاستقبال.
ظاهريًّا، بدا الحديث ودّيًّا، لكنّ كلاهما كان يُراقب الآخر.
يترقّبُ لحظةَ كشف الورقة الرّابحة.
“الشخص الذي تبحث عنه غير موجودٍ هنا. فارجعَ إلى حيث أتيتَ.”
وصمتٌ ثقيلٌ جديد خيّم على المكان.
ثمّ نهض كاين دون أنْ يقولَ شيئًا.
كان يُفكّر في مغادرة الجنوب على أيّ حال، فلم تَعُد هناك أخبارٌ عن المرأة ذات الشَّعر الأسود.
“سأعود اليوم. أظنّنا سنلتقي مجددًا في العاصمة.”
لكنّه وقبل أنْ يغادر الغرفة، توقّف فجأة.
“أذلك الشيء المخبّأ في القصر…… فتاة؟”
حين نزل من العربة، أحسّ بشيءٍ ما يراقبه من النافذة.
ولمّا رفع بصره، رأى خصلةَ شعرٍ طويلٍ تُسحب سريعًا.
فتاة؟
في الجنوب؟
مَن هذه؟
لمْ يُكمل حديثه، لكنّ هيرديان فهم قصده، وتجمّد وجهه.
“يبدو أنّك تستمتع بحياتكَ الجديدة.”
قالها كاين، وغادر.
راقب هيرديان العربة وهي تبتعد، وتنهّد بشتيمةٍ خافتة.
‘ما هذا الحظّ العاثر؟’
من الواضح أنّه لمْ يرَ وجهها بعد، وإلّا لساء الوضع أكثر.
لكنْ، مجرّد أنّه شعر بوجودها يُمثّل خطرًا.
وإنْ غادر هيرديان الجنوب، قدْ يعود كاين ويبدأ بالبحث عنها في القرية.
ذلك الرّجل لا يترك نقطة ضعفٍ تمرّ بسلام.
‘لماذا الآن بالتحديد……؟’
قبض هيرديان على قبضته بشدّة، وهو يُفكّر دون توقّف:
ماذا يمكنهُ أنْ يفعلَ لحمايةَ رنايا؟
✧───── ⋆⋅☆⋅⋆ ─────✧
ستجدون الفصول دومًا متقدمةً لهذهِ الرواية في واتباد وقناة الملفات،
حَسابي واتباد : _1Mariana1
( حسابي السابق قد حُذف)
وستجدون إعلانات تنزيل الفصول قبل هيزو في الرابط المثبت أول التعليق ~ ❀
التعليقات