يبدو أنّني أُصِبْتُ بالزكام أثناء اعتنائي بـ ليليا.
هناك كومة من الأعمال التي يجب عليّ القيام بها، لكنّ حالتي الجسدية بهذا الشكل تُشكِّل عائقًا كبيرًا.
كنتُ أعتزم مغادرة الجنوب قريبًا من أجل دراسة ليليا.
فكرة مغادرة قرية لوكلير وجدّتي كانت لا تزال تكسرُ قلبي.
لكنّ الطفلة تثق بي، لذا كان من الطبيعيّ أن أبذل قُصارى جهدي من أجلها.
‘……عليَّ أولًا أن أذهب إلى بلدة كبيرة.
سأرسل ليليا إلى المدرسة بدءًا من العام القادم……
وأبحث عن وظيفة جديدة لنفسي.
ثم أبدأ بالبحث عن سيلين سرًّا دون أن تعلم ليليا.’
بدأتْ دائرة أفكاري تتباطأ.
النعاس أخذ يتسلّل إليّ بسبب الحُمّى.
راحت رنايا تُغمض عينيها ببطء وهي تنظر نحو السماء الصافية.
‘……آه، صحيح. كنتُ أريد قول شيء لـ هيرديان.’
كان يجب أن أقول له شكرًا لأنّه أنقذ ليليا.
وكان يجب أن أقول له آسفة على كلّ ما سبّبته له من أذى حتى الآن.
لقد رتّبتُ تلك الكلمات في ذهني جيّدًا، لكن ما إن وصلتُ إلى المزرعة حتّى طُرِدتُ ولم أُتح له الفرصة لسماعها.
فكّرت رنايا بهذا الحدّ، لكنّها لم تستطع مقاومة النعاس، فاستلقتْ تحت ظلّ شجرة وأخذتْ غفوة قصيرة.
في منتصف نومها، شعرتْ وكأنّ أحدهم أيقظها وحملها، لكنّ الحُمّى حالت دون قدرتها على التمييز أو الاستيعاب.
بعد نصف نهار.
استيقظت رنايا في غرفة نوم غريبة.
كان السقف المزيّن بمصابيح عتيقة وجدران بيضاء ناصعة هو أوّل ما رآه بصرها.
“هل استعدتِ وعيكِ؟”
هيرديان، الذي كان جالسًا إلى جوارها مباشرة، نهض من مكانه حالما فتحت عينيها.
رنايا، التي شعرت بالارتباكِ من السقف الغريب، سرعان ما هدأتْ لمّا رأت وجهًا مألوفًا.
“……سيدي، الكونت.”
كان صوتها أكثر تشقّقًا من ذي قبل.
شعرتْ بدهشة كبيرة حين علمتْ أنّه يمكن أن يصدر من حنجرتها صوتٌ أكثر خشونة من صوت الحديد.
كانت تشعر بحرقة في حلقها منذ فترة، لكن يبدو أنّ النوم القصير أفقدها صوتها تمامًا.
“من الأفضل ألّا تتكلّمي الآن. لقد جاء الطبيب أثناء نومكِ. قال إنّه زكام.”
“…….”
“لقد طردتُكِ من المزرعة بكلّ ذلك الجهد، فلماذا ذهبتِ إلى مكان كهذا؟
كان ينبغي أن تستريحي في البيت.”
“…….”
“هل تستطيعين النهوض؟”
أومأتْ رنايا برأسها.
ظنّت أنّه لا بأس إن هي جلستْ فقط، ورفعتْ جسدها العلوي بثقة.
لكنْ، على خلاف توقّعاتها، خارت قواها وسقطتْ مجددًا على السرير.
“……؟”
لم تتمكّن من شدّ عضلات جسدها.
فتحتْ عينيها بدهشة، بينما كان هيرديان يرمقها بنظرة جانبية ثم تنفّس بعمق.
“سأُساعدكِ.”
وفي النهاية، استطاعتْ رنايا الجلوس بمساعدته.
أسندتْ ظهرها إلى الوسادة التي جهّزها لها، وراحت تُغمض عينيها لوهلة ثم تفتحهما.
مع أنّها رفعتْ الجزء العلوي فقط من جسدها، إلّا أنّ رأسها دار من الصداعِ.
خلال ذلك، كان هو قد أحضر لها الحساء والدواء.
“دعني……”
“لا تتحرّكي. ليس لديكِ قوّة حتى لتحريك يديكِ.”
حرّكتْ رنايا يدها فوق فخذيها.
وفعلاً، لم تكن تملك قوّة في أصابعها.
في النهاية، لم يكن أمامها سوى تقبّل الموقف وتناول الطعام من يده.
كان هيرديان ينفخ على كلّ ملعقة قبل أن يُطعمها إيّاها لئلّا تحترق.
هي معتادة على العناية بالآخرين، لكن لا مناعة لديها في تلقّي الرعاية، ولهذا وجدتْ هذا الموقف مُحرجًا.
فجأةً، اتّجه نظر رنايا إلى يد هيرديان اليُمنى.
لقد كان لا يزال يلفّها بضماد.
‘لا داعي لكلّ هذا الاهتمام بي.’
هل هو شعور بالخجل؟ أم أنّها الحُمّى؟
حرارة جسدها ارتفعتْ فجأةً بشكل غريب.
بعدما تناولتْ الدواء بهدوءٍ، خطرت في بالها عائلتها التي تنتظرها في البيت.
“جدّتي و…… ليليا……؟”
“أخبرتهم أنّني أخذتهما إلى مقرّي الخاصّ لتلقّي العلاج.
العودة إلى المنزل الآن لن تجلب سوى العدوى، لذا ابقي هنا إلى أن تتعافي تمامًا.”
“……شكرًا، جزيلاً….”
“إن كنتِ ممتنّة فعلًا، فركّزي على الشفاء بسرعة.
ولا تتحدّثي كثيرًا الآن، لأنّ إرهاق الحلق سيُطيل من فترة المرض.”
‘لكنني أريدُ الكلام…’
حرّكتْ رنايا شفتيها وكأنّها توشك أن تتكلّم، لكنّ هيرديان أمر بإحضار ورقة وقلم ريشة.
كان أجود بكثير من ذلك الذي كانت قد أعطته له قبل عامين.
“إن كان لديكِ ما تريدين قوله، فاكتبيه هنا.”
أمسكتْ رنايا القلم بخفّة، وشعرتْ أنّ الأدوار قد انقلبتْ عمّا كانا عليه قبل عامين.
تردّدتْ للحظة، ثم كتبتْ على الورقة:
[كيف عرفتَ أين أكون؟]
قرأ هيرديان المحتوى بدقّة.
وما بين حاجبيه الناعمين، ظهر خطّ توتّر عميق.
“……رنايا، هل تكتبين دائمًا بلغة دولة أجنبية؟”
جمُدتْ ملامح رنايا بدورها.
‘ما الذي يقوله؟’
تناولتْ القلم من جديد وكتبتْ:
[سألتُك كيف عرفتَ مكاني.]
“لا أعرف لأيّ بلد تنتمي هذه اللغة.
تتحدّثين بلغة الإمبراطوريّة، فلماذا تكتبين بلغة أخرى؟”
“لا……! أنا، كنتُ، أسألكَ…… كيف، عرفتَ مكاني!”
“قلتُ لكِ لا تتكلّمي.”
“أنا، لم أستخدمْ، لغةً أجنبيّةً، من قبل……!”
“إذاً، هذا هو الخطّ الإمبراطوريّ، في رأيكِ؟”
شعرتْ رنايا بأنّ صدرها على وشك الانفجار من الغيظ.
هزّتْ رأسها بقوّة، فأعاد هيرديان نظره إلى الورقة بعينين يشوبهما الشكّ.
بغضّ النظر كم نظر، لم يكن يبدو له وكأنّه خطّ الإمبراطوريّة.
وضع يده على جبهته.
لقد مرّت سنتان، وخطّها السيّئ لم يتغيّر أبدًا.
“……مَن الذي علّمكِ الكتابة؟”
[درستُ بنفسي.]
ظلّ هيرديان يحدّق في الورقة وكأنّه سيخترقها بنظرته.
هذه المرّة، كانت الجملة قصيرة وسهلة الفهم.
“هل شعرتِ يومًا أنّ خطّكِ غريب؟”
[لا، أبدًا.]
لقد اعتادتْ رنايا على هذا الخطّ السيّئ منذ أن كانت في العاشرة من عمرها.
في تلك الفترة، كانت تحلم بأن تصبح طبيبة، وتقضي لياليها أمام المكتب تدرس باستمرار.
لم يكن لديها معلّم.
بل اعتادتْ على كتابة المعلومات بنفسها على أوراق رخيصة وتكرارها، وهذا ما جعل خطّها يتّخذ هذا الشكل السيّئ.
لم تكن تكتب لتُري أحدًا، بل لتفهم هي فقط.
طالما كانت قادرة على قراءة ما كتبتْ، لم يكن هناك أيّ مشكلة.
‘ما دمتُ أفهمه، فما المشكلة؟ ما الغرابة في خطّي؟’
نظرتْ رنايا إلى ما كتبته.
لم تستطع أن تُدرك ما المشكلة تحديدًا.
“عندما تتعافين، سأعلّمكِ كيف تكتبين بشكلٍ سليم.”
“…….”
“تعلّميه، فقد تحتاجينه ذات يوم.”
لم تكن راغبةً فعلًا.
لم تُسبّب لها طريقة كتابتها أيّ مشاكل من قبل،
لكنّ إصرار هيرديان الشديد جعلها تُومئ برأسها بلا وعي.
وجّه نظره إلى الجملة الأولى مرّة أخرى.
ولم يستطع أن يفهم ما كُتب فيها حتّى الآن.
“سألتِني كيف عرفتُ مكانكِ، أليس كذلك؟
عندما سمعتُ أنّكِ لم تعودي إلى البيت، بحثتُ في كلّ الأماكن التي قد تكونين فيها.
ووجدتكِ بالصدفة.”
اتّسعتْ عينا رنايا.
رغم أنّها قرية صغيرة، لكنْ التجوّل فيها جميعًا بحثًا عنها تطلّب جهدًا كبيرًا.
حتى هي كانت قد استُنزفت من اللعب مع ليليا في القرية ذات يوم.
“لو كنتِ أُمًّا حقيقيّة، كان يجب أن تكوني حذرة لئلّا تقلقي طفلتكِ.”
كلام هيرديان لم يكن خاطئًا.
انخفضتْ كتفا رنايا وشعرتْ بالإحراج.
فتوقّف هو عن التوبيخ وتنهد بحزن.
“……أعتذرُ.
لا يحقّ لي أن أصرخ عليكِ.”
“…….”
“ارتاحي جيّدًا.”
وقبل أن تستطيع الإمساكَ به، أطفأ هيرديان الشمعة وغادر غرفة النوم.
فَعَمّ السكون المكان فجأة.
وضعتْ رنايا القلم والورقة جانبًا، وسحبت اللحاف لتغطي جسدها.
وبينما تعتاد عيناها على الظلام تدريجيًّا، بدأتْ ترى السقف بوضوح.
لم تشعر يومًا أنّها قد تعتاد على هذا السقف الفاخر.
‘……لم أستطعْ قولها مرّة أخرى.
كنتُ أريد أن أشكره…… وأعتذر منه.’
وجه هيرديان كان جامدًا كالجليد بعد خروجه من الغرفة.
لم يكن يبدو أبدًا أنّه نفس الشخص الذي كان هادئًا ومسترخيًا قبل لحظات فقط.
في مكتبه، كان سيرف بانتظاره ومعه صندوق الأدوية.
“سأُبدّل الضماد.”
الجروح على جسده العلويّ قد شُفيتْ تقريبًا،
لكنّ معصمه الأيمن لم يُظهر أيّ علامة على الشفاء بسرعة.
وذلك بسبب استخدامه المتكرّر ليده اليمنى.
قبل عدّة أيّام، حين ذهب لتصفية ما تبقّى من قطاع الطرق في الغابة بمفرده،
انتفخ معصمه الأيمن بشدّة، وتمكّن سيرف بالكاد من تهدئة الالتهاب.
كان سيرف ممتنًّا لأنّ سكان القرية لم يروا ما حدث ذلك اليوم.
لو حصل العكس، لتحطّمتْ صورة “الشابّ الطيّب” التي بناها هيرديان طوال هذا الوقت بلحظة واحدة.
تلك المجزرة، لم يكن بالإمكان مشاهدتها حتّى بعيون مفتوحة.
“عليكَ أن تحذر حقًا من الآن فصاعدًا.
إنْ تُرِكَتْ آثار جانبيّة، فربّما يصبح من الصعب عليك الإمساك بالسيف كما تفعل الآن.”
“سيكون ذلك أمرًا جيدًا بالنسبة لعمي وأخي.”
“سيّدي.”
“أمازحكَ فقط، ألا يمكنني ذلكَ؟”
لكنّ المزاح حين يمتزج بالصدق يجعل الأمور أسوأ.
ولهذا شدّ سيرف الضماد على معصم هيرديان بشدّة أكبر.
“عليكَ البدء بالاستعداد للعودةِ إلى الشمالِ قريبًا.”
✧───── ⋆⋅☆⋅⋆ ─────✧
ستجدون الفصول دومًا متقدمةً لهذهِ الرواية في واتباد وقناة الملفات،
حَسابي واتباد : _1Mariana1
( حسابي السابق قد حُذف)
وستجدون إعلانات تنزيل الفصول قبل هيزو في الرابط المثبت أول التعليق ~ ❀
التعليقات