“سيلين…!”
لم تُجب المرأة على ندائها.
بينما كانت تُطارد ظهرها بلهفة، غير مباليةٍ باصطدام الناس بها، اندفع صبيّ صغير بابتسامةٍ مشرقة نحو المرأة وعانقها.
“ماما!”
توقَّفت خطوات رنايا فجأة.
عندما عانقت المرأة الطّفل بقوّة، ظهر وجهها.
لم تكن تشبه سيلين أبدًا، كانت شخصًا آخر تمامًا.
كان ذلك متوقَّعًا.
لا يُعقل أنْ تكون سيلين هنا.
رغم أنَّ عقلها كان يعي ذلك، إلّا أنَّ جسدها تحرَّك تلقائيًّا… كم بدت حمقاء.
لم تكن هذه المرَّة الأولى.
منذ فترة، كانت رنايا تلاحق بشكلٍ لا إراديّ أيّ امرأةٍ بشعرٍ أسودٍ طويلٍ وجسمٍ نحيفٍ كلّما ذهبت إلى مكانٍ مزدحم.
“أنا حقًّا سخيفة. مرَّت سنتان بالفعل. ربَّما هربت إلى مكانٍ أبعد بكثير.”
استدارت رنايا بوجهٍ مرير.
مضت سنتان منذ رحيل سيلين غريويل، ومع ذلك، لا تزال رنايا تنتظر عودتها.
* * *
كان الجنوب منطقةً تمطر كثيرًا.
في الشّتاء القصير، كان المطر أقل، لكن في الأوقات الأخرى، كانت الزّخات المطريّة تتساقط باستمرار.
وكان اليوم كذلك. كان الجوّ صافيًا عندما خرجت، لكن بحلول الوقت الذي اقتربت فيه من القرية، بدأ المطر يهطل بهدوء.
كانت رنايا تستقلّ عربةً رخيصةً للعودة إلى القرية، فأوقفتها على عجل.
“سيدي، سأنزل هنا.”
“ماذا؟ لم نصل إلى القرية بعد، والمطر يهطلُ!”
“إذا اشتدَّ المطر، سيكون من الصَّعب عليكَ العودة.
أنا بخير حتّى هنا. وبسبب اللصوص هذه الأيّام، يجب أنْ تعود قبل غروب الشَّمس.”
دفعت رنايا الأجرة للسَّائق واندفعت تحت المطر.
شعرتْ بملابسها الجديدة التي أعطتها إيّاها الجدَّة تتبلّل.
في مدخل القرية، حيث يُفترض ألّا يكون أحد، وقف شخصٌ يحمل مظلّة.
لم تتمكَّن من رؤية وجهه بسبب المظلّة، فاقتربت أكثر.
شعر الشَّخص بحركتها، فرفع المظلّة وتقابلت أعينهما.
“…سيّدي؟”
اقترب هيرديان منها وسارع إلى تغطيتها بالمظلّة.
لم تكن المظلّة كبيرة، فاضطرَّ لسحبها نحوه، مما جعلهما شبه متعانقين لتجنّب المطر.
حتّى لو كان ذلك بسبب المطر، أليس هذا قريبًا جدًّا؟
أدارت رنايا عينيها بإحراج.
“لماذا أنتَ هنا، سيّدي؟”
“كنتُ أنتظركِ. تأخَّرتِ كثيرًا ولم تظهري علامات العودة.”
ألم ينتهِ لقاؤهما الأخير بشكلٍ سيّء؟
عبثت رنايا بأطراف شعرها المبلّل.
تذكَّرت حديثهما الأخير، فشعرت بمزيدٍ من الإحراج.
قرأ هيرديان المشاعر في عينيها، فتنهَّد بهدوء.
ثمَّ طرح سؤالًا محرجًا، رغم أنَّه كان فضوليًّا ولا يريد معرفته في الوقت ذاته.
“كيف كان اللقاء؟”
“…كيف عرفتَ؟”
اتّسعت عينا رنايا. حتّى هي، المعنيّة باللقاء، لم تعرف به إلّا عندما واجهته، فكيف عرف هيرديان؟
كانت على وشك استجوابه عن مصدر معلوماته، لكنّها لاحظت ذراعه التي تضمّ خصرها تضغط عليه قليلًا.
“إذا كنتِ تريدين معرفة كيف عرفتُ، أجيبي عن سؤالي أوّلًا.”
كان هناك حدَّة في نبرته. لم تفهم رنايا سبب غضبه هذه المرَّة.
لم يكن صعب التفاهم معه بهذا الشكل من قبل.
ألم يكن صامتًا بسبب عجزه عن الكلام، مع تعابير وجهٍ ثابتة؟
الآن، بدا كشخصٍ مختلف تمامًا.
“حسنًا، لنقل إنَّكَ مهتمٌّ بحياتي الخاصَّة. لا يمكن كبح الفضول.”
تنهَّدت رنايا باختصار.
“لكن تصرّفكَ وكأنّني مدينةٌ لكَ بالإجابة ليس صحيحًا. إذا كنتَ تأمرني بصفتكَ السَّيّد، فسأضطرّ للإجابة، لكن…”
“رنايا.”
“لا أريد التحدّث معكَ الآن، سيّدي.”
كانت هي أيضًا في مزاجٍ سيّء. كانت لديها الكثير لتفكّر فيه، وتصرّف هيرديان المزعج جعلها متوترة أكثر.
“سأذهب.”
“خذي المظلّة.”
“لا، استخدمها أنتَ…”
تلعثمت في كلامها. سلَّمها هيرديان المظلّة واستدار مبتعدًا.
أمسكت المظلّة بقوّة وهي تنظر إليه يبتعد قبل أنْ تتمكَّن من إيقافه.
“…كان يجب أنْ يتوقَّف بعد أنْ رفضته بهذا الشكل.”
كان اهتمامه مبالغًا فيه إذا كان بسبب إنقاذه لها قبل عامين.
لقد دفع لها مكافأة وساعد القرية، وهذا أكثر من كافٍ.
وقفت رنايا مكانها للحظة، وعندما اختفى هيرديان عن الأنظار، اتّجهت نحو البيت.
“رنايا!”
عندما وصلت إلى الباب، نادتها هيلدي من بعيد وهي تقترب تحت مظلّة، ثمَّ قالت كلامًا جعل يد رنايا ترتخي، فأسقطت المظلّة على الأرض.
“…ليليا اختفت؟”
* * *
في تلك اللحظة، كانت ليليا تختبئ من المطر داخل كهفٍ في الغابة.
كانت ترتجف من البرد، تضمّ ركبتيها بذراعيها وهي جالسة القرفصاء.
لقد ضلَّت طريقها أثناء توجهها إلى القرية المجاورة،
ثمَّ هطل المطر، فتوقَّفت حركتها.
على الرّغم من ذلك، كانت لا تزال تمسك بدميتها الأرنب ولم تفقدها.
ربَّتت الطّفلة على رأس الدّمية وعانقتها بقوّة.
كانت تنوي انتظار والدتها في البيت في الأصل.
لكن ذلك كان قبل أنْ تسمع أنَّ والدتها ذهبت للقاء رجلٍ غريب في القرية المجاورة.
سمعت ذلك من خلال استراق السَّمع لحديث الجدَّة هيلدي والسَّيّدة لوسون عندما زارتا البيت.
بعد ذلك، تسلَّلت خارج البيت دون علم الجدَّة.
أرادت بأيّ طريقةٍ منع لقاء والدتها بذلك الرَّجل الغريب.
“ماذا لو تزوَّجت ماما؟ ماذا لو لم تعد بحاجة إليّ؟”
ليليا، التي كانت جيّدةً في تذكّر الطّرق، أصيبت بالذّعر فجأة.
فكرة زواج والدتها وحدها جعلتها في حالة هلع.
لم تتحدَّث الطّفلة أبدًا عن عائلتها الأخرى منذ تغيير لقبها.
لم تذكر والدتها الحقيقيّة أو والدها، ولا حتّى فكرة وجود أبٍ جديد.
كانت هذه الكلمات محرَّمة، فلم تتفوَّه بها مهما حدث.
كذلك كلمات مثل “الزَّواج” و”الأخ الصَّغير”.
كانت ذاكرة ليليا أفضل من أقرانها، لكن هذه الذّاكرة كانت تؤثّر عليها سلبًا في الغالب.
“هك… هك…”
لم تخبر أحدًا أنَّها تتذكّر وجه والدتها الحقيقيّة وهي تبكي.
كانت تخشى أنْ تحزن والدتها رنايا إذا علمت بذلك.
كانت امرأةٌ نحيفةٌ ترقد على سريرٍ قديم، تبكي وتنادي اسم شخصٍ ما.
كانت تتمتم بهدوءٍ بحيث لم تسمع بوضوح، لكن ليليا أدركت أنَّه اسم والدها الحقيقيّ.
كرهت والدها. لأنَّه جعل والدتها تعاني.
مع الوقت، أدركت أنَّها لا تحتاج إلى أب. كانت سعيدةً جدًّا مع والدتها فقط.
“…لقد وعدتِ أنْ تبقي بجانبي، يا ماما.”
هل ستتخلَّى عنها والدتها رنايا أيضًا؟
ماذا لو عانت بسبب رجلٍ ما؟
تدفَّقت الأفكار المعقَّدة في رأسها الصَّغير.
لم تنم ليليا جيّدًا منذ أيّام. بالأحرى، منذ وصول السَّيّد الجديد إلى القرية.
لأنَّ والدتها منذ ذلك الحين كانت تتنهَّد كثيرًا وتغرق في أفكارها حتّى وقتٍ متأخّر من الليل.
بفطنتها، أدركت ليليا بسرعة أنَّ السَّيّد يزعج والدتها.
لذا، قرَّرت التأكّد بنفسها، وإذا كان ذلك صحيحًا، ستقوم بإزعاجه وطرده.
قبل يومين، تظاهرت بالنَّوم في الصَّباح، انتظرت حتّى ذهبت والدتها إلى العمل، ثمَّ تسلَّلت لتتبعها.
وهكذا، استرقت السَّمع لحديثها مع السَّيّد في غرفة الاستراحة القديمة.
“هل ماما حمقاء؟ من الواضح أنَّ هذا الرَّجل يحاول التودّد إليها!”
بالنّسبة لليليا البالغة من العمر سبع سنوات، كانت فطنةً أكثر من اللازم.
في ذهنها، تحوّل هيرديان من “السَّيّد” إلى “ذلك الرَّجل السيّء”. كلّ من يحاول التودّد إلى والدتها كان “رجلًا سيّئًا”.
بالطَّبع، كان هذا سرًّا عن والدتها. إذا علمت رنايا،
ستوبّخها على استخدام كلماتٍ قاسية كهذه.
لقد تأكَّدت بعينيها. الآن، يجب أنْ تخطّط بعنايةٍ لكيفيّة إزعاج هذا “الرَّجل السيّء” وإبعاده عن والدتها.
كانت أفكارها الذَّكيّة تدور بسرعة عندما حدث شيء.
“من كنتُ أظنّ أنَّه يراقبني بحرارة اليوم…”
“آه!”
اكتشفها هيرديان بسرعة.
“ليس من اللائق أنْ تتبعي رجلًا غريبًا، يا صغيرتي.”
“…لم أتبعكَ، أيّها الرَّجل السيّء!”
“رجل؟”
بدت تعابير هيرديان مندهشة، لكن ليليا لم تكترث.
كانت يداها الصَّغيرتان ترتجفان.
ماذا لو أخبر والدتها؟ ماذا لو كرهتها؟ اجتاحتها أفكارٌ متفرّقة.
“…ستخبر ماما، أليس كذلك؟”
“ليس لديّ نيّةٌ لذلك… لكن إذا واصلتِ التّتبع بطريقةٍ خطرة، سأضطرّ لإخبارها.”
“أخبرها إذًا! سأنكر كلّ شيء! ماما ستثق بي أكثر!”
على الرّغم من ادّعائها عدم الاكتراث، كان وجهها يعكس خوفًا واضحًا.
ومع ذلك، نظرت إلى هيرديان مباشرةً.
“وابتعد عن ماما!”
✧───── ⋆⋅☆⋅⋆ ─────✧
ستجدون الفصول دومًا متقدمةً لهذهِ الرواية في واتباد وقناة الملفات،
حَسابي واتباد : _1Mariana1
( حسابي السابق قد حُذف)
وستجدون إعلانات تنزيل الفصول قبل هيزو في الرابط المثبت أول التعليق ~ ❀
التعليقات