كان ردّ ليليا سلسًا، وكأنَّها كانت تفكّر فيه منذ زمن.
“…حسنًا. ما المهنة التي تريدينها؟”
“ماما، هل يجب أنْ أمتلك مهنة؟ أريد فقط أنْ أبقى معكِ دائمًا.”
“عندما تكبرين، يجب أنْ يكون لديكِ واحدة.
على سبيل المثال، أنا مزارعة، والجدَّة هيلدي كانت مزارعةً أيضًا، أليس كذلك؟
الآن هي تستريح بسبب مرضها، لكن عندما يصبح الجميع بالغين، يجب أنْ يعملوا.”
غرقت ليليا في التفكير للحظة. لم يستغرق الأمر وقتًا طويلًا لتجد الجواب.
“إذًا، سأصبح مزارعةً عندما أكبر.”
“لماذا؟”
“لأنّني أريد مساعدتكِ.”
ارتعشت رنايا وتجمَّدت تعابيرها.
لم تستطع إخفاء دهشتها وهي ترى ليليا تقول نفس الكلام الذي كانت تفكّر فيه عندما كانت صغيرة.
“…أمّا أنا، فأتمنّى أنْ تفعلي ما تريدينه عندما تكبرين، بدلًا من مساعدتي…”
“لكن مساعدتكِ هي ما أريده.”
بدا أنَّ ليليا لن تغيّر رأيها قريبًا.
في النّهاية، قرَّرت رنايا إنهاء الحديث هنا.
شعرتْ أنَّ الاستمرار قد يؤدّي إلى نقاشٍ لا رجعة فيه.
لا تزال صغيرة، لذا يمكن إقناعها مع الوقت.
بدلًا من الرّد، عانقت رنايا طفلتها بقوَّة.
وكأنَّها تطلب منها النَّوم، أغلقت ليليا عينيها واتّكأت على حضنها الدّافئ.
“ماما.”
“نعم؟”
تمتمت ليليا بهدوء.
“…ستبقين بجانبي دائمًا، أليس كذلك؟”
هل تملك ليليا قدرةً على قراءة الأفكار؟
كانت أحيانًا تقول كلامًا يصيب الهدف بدقَّة.
حاولت رنايا الرّد بهدوء.
“بالطَّبع. سأكون بجانبكِ دائمًا.”
لم تجد الشَّجاعة بعدُ لتسألها. لم تتحلَّ بالجرأة لتخبر الطّفلة بالحقيقة وتسألها إنْ كانت تريد استعادة هويّتها الأصليّة.
* * *
جاءت عطلةٌ بعد وقتٍ طويل.
خطَّطت رنايا لقضاء اليوم مع ليليا والاستمتاع بالرَّاحة.
لكن تلك الخطط تحطَّمت قبل أنْ تبدأ.
“أذهب إلى القرية المجاورة؟”
“صاحب متجر الفواكه هناك مريضٌ هذه الأيّام.
يقال إنَّ ابنته هي من تدير المتجر الآن. اذهبي، يا رنايا، وتحقَّقي من حالته وساعديه قليلًا.”
“أين أُصيب صاحب المتجر؟ كيف يمرض فجأةً وهو كان بصحَّة جيّدة؟”
“لذلك اذهبي وتحقَّقي بنفسكِ. وفي طريقكِ، تحقَّقي من أسعار الفواكه أيضًا.”
أدارت رنايا رأسها لتنظر إلى باب الغرفة حيث تنام ليليا.
كانت قد وعدتها باللعب معًا اليوم، وكانت ليليا متحمّسةً جدًّا بالأمس.
“إذًا، هل يمكنني أخذ ليليا معي؟”
“لا يزال من الخطر أخذ طفلةٍ معكِ. لم يتم القبض على جميع اللصوص بعدُ… من باب الحيطة، اذهبي بمفردكِ وعدي بسرعة.”
“…حسنًا، سأفعل.”
أومأت رنايا برأسها.
كانت تخطّط لزيارة القرية المجاورة قريبًا على أيّ حال، فلم يكن الأمر سيّئًا، باستثناء تأخير وعد ليليا.
“وعدتُ ليليا باللعب معها اليوم. عندما تستيقظ، أخبريها من فضلكِ، يا جدَّة. سأساعد هناك، لكن سأعود قبل غروب الشَّمس.”
“لا تقلقي بشأن ذلك. وارتدي هذا الفستان. ليس من الأدب زيارة مريضٍ بملابس العمل.”
أخرجت هيلدي فستانًا أنيقًا باللون الزَّيتونيّ وكأنَّها كانت تنتظر اللحظة.
نظرتْ رنايا بإحراجٍ بين الفستان والجدَّة.
بدا الفستان مناسبًا لمناسبةٍ خاصَّة.
“هل هناك حاجةٌ لارتداء مثل هذا الفستان لزيارة مريض؟”
استغربتْ رنايا لكنها أخذت الفستان. لم تستطع رفض هديّة الجدَّة.
لم تدرك آنذاك أنَّ الجدَّة هيلدي خدعتها تمامًا.
* * *
كان متجر الفواكه الذي تحدَّثت عنه هيلدي مكانًا تتعامل معه قرية لوكلير بانتظام.
شعرت رنايا بالأسف لأنَّها لم تزر صاحبَي المتجر منذ فترة.
لأنَّ الذَّهاب خالية اليدين ليس من الأدب، جمعتْ بعض التفّاح من القرية وأسرعتْ في خطواتها.
رحَّب صاحبَي المتجر بها بابتسامةٍ عريضة عندما رأياها تقترب من بعيد.
“رنايا! منذ متى لم نرَكِ؟”
ألم يُقل أنَّ السَّيّدة صاحبة المتجر هي من تعمل بمفردها؟
نظرت رنايا بدهشةٍ إلى صاحب المتجر الذي بدا بصحَّة جيّدة.
“سيدي، ألم يُقل إنَّكَ مريض؟”
“ماذا؟ أين أنا مريض؟ لا زلتُ أحمل ثلاث صناديق فواكه دفعةً واحدة بسهولة!”
إذًا، من هو صاحب متجر الفواكه المريض؟
“…الحمد لله أنَّكَ بصحَّة جيّدة. لكن، من المريض إذًا؟ قالت الجدَّة بوضوح…”
“رنايا، اذهبي إلى هناك قليلًا. سأنهي هذا وأتبعكِ سريعًا.”
قاطعتها السَّيّدة صاحبة المتجر وسلَّمتها ورقةً صغيرةً عليها عنوان.
“وأعطيهم سلَّة التفّاح. سأحتفظ بها الآن.”
“آه، حسنًا…”
سلَّمت رنايا سلَّة التفّاح دون تفكير، واتّبعت العنوان المكتوب على الورقة بوجهٍ حائر. بعد قليل، ظهر أمامها مقهى صغيرٌ أنيق.
“…مقهى؟”
تردَّدت أمام الباب قبل أنْ تدخل.
رحَّب بها أحد العاملين بابتسامةٍ وأرشدها إلى مقعد. بعد طلب القائمة، بدأت تستعيد وعيها.
“ماذا أفعل هنا؟”
كانت تنوي زيارة صاحب متجر الفواكه المريض ومساعدته.
كان هناك شيءٌ غريب. تصرّفات السَّيّدة صاحبة المتجر التي قاطعتها عمدًا، والجدَّة التي أعطتها فستانًا ليومٍ عاديّ…
أحسّت رنايا بشيءٍ مريبٍ وهي ترتشف الشَّاي السَّاخن.
في تلك اللحظة، رنَّ جرس المقهى الهادئ، ودخل شخصٌ ما.
كان رجلًا لم ترَه من قبل.
نظر حوله، ثمَّ بدلًا من الذَّهاب إلى مقعدٍ فارغ، اتّجه نحوها مباشرةً. ابتسم بلطفٍ وقال:
“تشرَّفتُ بلقائكِ.”
“آه…”
عندها فقط أدركتْ. لقد تواطأت الجدَّة وصاحبا متجر الفواكه لخداعها.
وهكذا، وقعت رنايا في فخّ الكبار ورتّبوا لها موعدًا لقاءٍ على عجل.
* * *
في النّهاية، فشل اللقاء. من البداية، لم يكن لدى أحد الطَّرفين أيّ نيّةٍ للقاء، فكيف كان سينجح؟
كان الرَّجل الذي رتَّبته الجدَّة شخصًا جيّدًا بمعايير موضوعيّة.
وظيفةٌ مرموقة، تصرّفاتٌ مهذَّبة، طباعٌ لطيفة، وقلبٌ واسعٌ يقبل تربية طفلة الطَّرف الآخر كابنته.
كان من النَّادر العثور على عريسٍ بهذه الصفات.
“…كيف وجدت الجدَّة مثل هذا الشَّخص؟”
لكن لماذا فشل اللقاء؟ لأنَّ قلبها لم يتحرَّك أبدًا، بغض النَّظر عن مدى روعته.
شعرتْ وكأنَّ قلبها ميّت، خالٍ من أيّ شعور.
“إذا كنتِ متفرّغةً الأسبوع القادم، أودُّ لقاءكِ مجدَّدًا.”
“…أنا؟ لماذا أنا؟”
لم تتوقَّع أنْ يطلب شخصٌ لقاءً آخر من امرأةٍ لا تبدي أيّ اهتمامٍ باللقاء، وتجيب بإجاباتٍ مقتضبة.
عندما سألته بدهشة، أجاب الرَّجل بخجل:
“في الحقيقة، رأيتُكِ، يا آنسة فيليت، عدَّة مرَّات.
كنتِ دائمًا تهتمّين بأهل القرية وتبتسمين رغم الأعمال الشَّاقة.
أعجبتني تلك الصّورة، فتشجَّعتُ وطلبتُ من كبار السّنّ ترتيب لقاء.”
أراد الرَّجل مواصلة العلاقة، لكن رنايا شعرتْ أنَّ قلبها لن يتحرَّك مستقبلًا، فرفضتْ بحزم.
“أعتذر.”
“…هل يمكنني معرفة السَّبب؟ إذا كان هناك شيءٌ لا يعجبكِ، سأحاول إصلاحه.”
“لا، ليس الأمر كذلك. أنتَ حقًّا شخصٌ رائع…”
لم تكن تكذب.
“فقط… لا أظنّ أنّني أريد الزَّواج.”
فكَّرتْ رنايا في الجدَّة التي تنتظرها في البيت الآن.
ستُصاب بالخيبة عندما تعلم أنَّ اللقاء فشل.
لكن لا مفرّ من ذلك. لا يمكنها مواصلة اللقاء دون أنْ يكون لديها أيّ شعور.
لم تكن تجهل سبب تخطيط الجدَّة لهذا اللقاء.
ربَّما كانت قلقةً على حفيدتها التي ستعيش يومًا ما مع ليليا بمفردهما دونها.
“الجدَّة تريد منّي أنْ أؤسّس أسرةً بشكلٍ صحيح.”
لكنها لم تستطع تخيّل نفسها زوجةً لأحد.
أصبحت أمًّا بمحض الصّدفة، لكن لم يكن لديها أيّ ثقةٍ في أنْ تصبح زوجةً وتؤسّس أسرة.
شعرتْ وكأنَّها لا تملك الأهليّة لذلك.
أسندت رنايا ذقنها ونظرت عبر النَّافذة. كان الجوّ ملبَّدًا بالغيوم، وكأنَّ المطر سيبدأ قريبًا.
هل ستندم إذا عاشت هكذا؟ كانت تغرق في هذه الأفكار الغامضة.
في تلك اللحظة، مرَّت امرأةٌ بشعرٍ أسود طويل بجانب المقهى.
اتّسعت عينا رنايا تدريجيًّا.
لم ترَ وجهها بوضوح، لكن ظهرها كان مشابهًا بشكلٍ مذهلٍ لسيلين.
“مستحيل…!”
نهضت رنايا فجأةً واندفعت خارج المقهى.
كانتَ الشَّوارع مزدحمة.
حاولت بأيّ طريقةٍ التَّسلل بين النَّاس لملاحقةِ المرأة.
✧───── ⋆⋅☆⋅⋆ ─────✧
ستجدون الفصول دومًا متقدمةً لهذهِ الرواية في واتباد وقناة الملفات،
حَسابي واتباد : _1Mariana1
( حسابي السابق قد حُذف)
وستجدون إعلانات تنزيل الفصول قبل هيزو في الرابط المثبت أول التعليق ~ ❀
التعليقات