حدّقتْ رنايا فيه بعمقٍ ثمَّ تنهَّدتْ بخفّة.
“تعالَ معي، سيّدي.”
حاول هيرديان الإصرار على أنَّه بخير، لكن تحت ضغط كبار السّنّ، اضطرَّ لاتّباع رنايا.
أخذته إلى غرفة استراحةٍ صغيرةٍ ملحقةٍ بالمزرعة.
فتحتْ درجًا وأخرجتْ علبة دواء، ثمَّ أشارت إليه بعينيها.
“اجلس.”
جلس هيرديان بحذرٍ على كرسيٍّ قديم، يراقبها بتردّد.
جلست رنايا مقابله.
“أنا حقًّا بخيـ…”
“يدكَ اليمنى.”
كانت كلماتها قصيرةً ومباشرة. تحت إصرارها، مدَّ هيرديان يده اليمنى التي كان يخفيها.
كان معصمه منتفخًا بشكلٍ واضح. عبستْ رنايا وهي تنظر إليه، فأدار هيرديان رأسه بإحراجٍ.
تساقط العرق البارد على ظهره.
“…هذه الإصابة ليست من اليوم.”
تسرَّب تنهّدٌ من بين شفتيها.
أدركتْ رنايا حالة معصمه بسرعة.
ألا يُفترض بمن أُصيب أنْ يسعى للعلاج بدلًا من التصرّف بعناد؟
“ابقَ ساكنًا. سأحضر الدَّواء.”
بينما كانت تستدير، لاحظ هيرديان وميض القلق في عينيها.
أدرك أيضًا أنَّها، رغم دفعها له بعيدًا، لا تزال تقلق عليه.
كانت لا تزال ضعيفةً أمام المصابين.
عالجت رنايا معصمه المنتفخ بهدوء.
وضعتْ قطعة قماشٍ مبلّلةٍ بالماء البارد لتخفيف الانتفاخ، ثمَّ لفَّت الضَّمادات بمهارةٍ لم تتغيَّر منذ عامين.
شعرتْ وكأنَّها عادت إلى الماضي.
تذكَّرتْ كيف كان المخزن هادئًا عندما كانت تعالجه آنذاك.
“حتّى لو كان الأمر مزعجًا، لا تستخدم يدكَ اليمنى حتّى تُشفى.”
طوال العلاج، تجنَّبت رنايا النظر إليه.
اختفى القلق الذي بدا في عينيها، وتصرَّفت كطبيبةٍ مرهقةٍ تعالج مريضًا.
لكن عندما كانت تدهن الدَّواء، إذا عبس هيرديان متعمّدًا، خفَّفتْ من ضغط يدها.
أصبحت لمستها في النّهاية حذرةً كما لو كانت تتعامل مع طفل.
“ومن باب الحيطة، راجع طبيبًا أيضًا.”
عالجته فقط لأنَّه أنقذ السَّيّدة لوسون، ولم يكن هناك أيّ معنى آخر.
قرَّرتْ أنْ لا تتحدَّث معه بعد اليوم، لكن بينما تعالجهُ وعندما اخرجت يدها من الضَّمادات، تساقطتْ قطرات ماءٍ على الضَّمادة.
“…ماء؟”
في البداية، ظنَّتْ أنَّ هناك ثقبًا في سقف الغرفة. لكن عندما رفعتْ رأسها، أدركتْ أنَّ ذلك لم يكن صحيحًا.
كانت الدّموع تتدحرج على وجه هيرديان الجميل.
كان ينظر إلى الأسفل، يذرف الدّموع بصمتٍ دون كلام.
ذُهلت رنايا وتحرَّكت شفتاها دون صوت.
“…لماذا تبكي؟”
لم تكن معتادةً على رؤية الباكين، خاصَّةً رجلًا وسيمًا كهذا، ففقدت الكلام للحظة.
“…لماذا، لماذا تبكي؟ هل هو مؤلمٌ لهذه الدَّرجة؟ هل لففتُ الضَّمادة بقوَّةٍ زائدة؟ أفكّها؟ أحضر لكَ دواءً؟”
حتّى عندما كان مصابًا بجروحٍ خطيرة، نادرًا ما كان يتأوَّه.
فهل يبكي الآن بسبب التواءٍ في المعصم؟
أصبح ذهن رنايا خاليًا تمامًا. سألته بقلقٍ، لكن هيرديان ظلَّ صامتًا، يذرف الدّموع فقط.
“لا تبكِ، تحدَّث. هكذا يمكنني مساعدتكَ.”
“…كيف يمكنني…”
“ماذا؟”
“كيف يمكنني… أنْ أصبح صديقكِ مجدَّدًا؟”
صديق؟ لم تتوقَّع هذا اللفظ، فلم تستطع الرّد وبقيتْ ترمش بعينيها.
“…ألم تكن تبكي بسبب الألم؟”
“إنّني أتألَّم.”
“لكن لماذا تتحدَّث عن الصداقة الآن؟”
“…؟”
أغلق هيرديان فمه مجدَّدًا. إذًا، لم يكن يبكي بسبب الألم…
تنهَّدتْ رنايا ووضعتْ يدها على جبينها.
“ألم تفهم كلامي آنذاك؟”
“…فكَّرتُ في الأمر. كيف يمكنني أنْ أصبح صديقكِ…”
“…؟”
“قبل عامين، أنتِ من اقتربتِ منّي أوّلًا. هذه المرَّة، حاولتُ الاقتراب منكِ، لكنَّكِ تتجنَّبينني، فلا أعرف ماذا أفعل.”
بمعنى آخر، كان يبكي لأنَّه يريد استعادة صداقتهما ولا يعرف كيف.
…ما هذا الشَّخص؟ شعرتْ رنايا بالذهول.
“لماذا تتعلَّق هكذا بأنْ تكون صديقي؟ يمكنكَ تكوين أصدقاءٍ آخرين.”
نظر إليها بعينين دامعتين.
“آه.”
تذكَّرتْ فجأةً ماضي هيرديان، فأطلقتْ تنهيدةً قصيرة.
هل لم يتقرَّب منه أحدٌ طوال حياته بسبب صراعات عائلته؟
حتّى هي كانت ستتردَّد في الاقتراب منه خوفًا من الموت في تلك الظّروف. شعرتْ بالنَّدم على كلامها السابق.
“…أنا، أعتذر.”
“عن ماذا؟”
“عن قولي إنَّكَ يمكنكَ تكوين أصدقاءٍ آخرين…”
“لا بأس. ليس لديَّ نيّةٌ لتكوين صداقاتٍ مع الآخرين.”
“وماذا عنّي؟”
لم تقل ذلك بصوتٍ عالٍ، بل ابتلعتْ الكلمات في داخلها.
“…إذا أخبرتني عن سبب تجنّبكِ لي، سأحاول إصلاحه.
إنْ كنتِ تفضّلينني صامتًا كما في الماضي، سأكتب رسائل، وإنْ كنتِ تحبّينني وأنا مريض، سأعود مصابًا، فقط قولي أيّ شيء.”
“هل تعتقد أنّني شخصٌ غريب الأطوار؟!”
نهضتْ رنايا من مكانها بوجهٍ محمرٍّ وهي تلهث.
من يظنّها شخصًا ذا أذواقٍ غريبة؟!
“إنْ لم يكن ذلك، فلماذا تتجنَّبينني؟”
“…؟”
“لا أفهم. لا أعرف ما الذي تفكّرين فيه.”
كانت هي أيضًا لا تفهم. لم تستطع استيعاب لماذا يريد شخصٌ من طبقةٍ نبيلةٍ أنْ يكون صديقًا لشخصٍ مثلها.
هل سيقتنع إذا أخبرته بسبب تجنّبها له؟ كانت تخشى أنْ ينظر إليها بازدراءٍ كشخصٍ مجنون.
‘…أنا أيضًا أعرف. أعرف أنَّ تجنّبي لهيرديان قد لا يفيد ليليا، لكن هذا غير مؤكَّد.’
لكنها لم تُقرّر بعدُ ما إذا كانت ستكشف عن هويّة ليليا أم لا، ولم ترغب في الارتباط بعائلة روتشستر.
كما كانت تخشى ردَّة فعله إذا عرف هويّة ليليا.
بعد تفكيرٍ طويل، قدَّمتْ عذرًا يبدو طبيعيًّا.
“…أنتَ السَّيّد. إذا رأى أحدهم أنَّ شخصًا مثلي صديقٌ لكَ، قد تجد نفسكَ في موقفٍ محرج.”
“شخصٌ مثلكِ؟”
“…؟”
“لماذا سأكون في موقفٍ محرج؟ هل تعتقدين أنّني أفرّق بين النَّاس بناءً على مكانتهم وأسيء معاملتهم؟”
أصبحت الأجواء في غرفة الاستراحة قاتمةً فجأة.
لمحتْ غضبًا حادًّا في عينيه اللتين كانتا دامعتين قبل قليل.
“ليس هذا ما قصدته…”
“أعتذر. جعلتكِ تسيئين فهمي.”
قال هيرديان ذلك وغادر غرفة الاستراحة.
بقيتْ رنايا وحدها، تنظر إلى الباب المغلق، ثمَّ جلستْ على الكرسيّ بثقل.
“…يا إلهي…”
ها هو ذلك التَّعبير مجدَّدًا. تعبيرُ الجرح الذي يحاول إخفاءه لكنَّه يظهر رغمًا عنه.
شعرتْ بالنَّدم المتأخّر. لم تكن تنوي إيذاءه. من يشعر بالسَّعادة عندما يؤذي الآخرين؟
ربَّما لا يدرك ذلك، لكن قبل عامين، ساعدها كثيرًا.
كانت تجد الرَّاحة في قضاء الوقت معه في المخزن كلَّما أرهقتها أفكارها عن سيلين.
لذلك، كانت تشعر بالامتنان أكثر ممَّا يظن، وفي الوقت ذاته، كانت تشعر بالضّيق والأسف.
“…يجب أنْ أتَّخذ قرارًا قريبًا.”
هكذا فقط يمكنها تسوية علاقتها مع هيرديان بشكلٍ نهائيّ.
* * *
جاء وقت التفكير في تعليم ليليا.
حتّى الآن، كان التعليم المنزليّ كافيًا، لكن في العام القادم، يجب أنْ تذهب ليليا إلى المدرسة.
المشكلة أنَّه لا توجد مدرسةٌ في قرية لوكلير أو المناطق المجاورة.
لم تكن ليليا، بسبب صغر سنّها، مهتمَّةً بالدّراسة بعدُ.
كانت تقرأ كتب الصّور بلا مبالاة، ثمَّ تخرج لتلعب وتعود بملابس مليئةٍ بالتّراب. هذا المشهد زاد من قلق رنايا.
إذا نشأت ليليا في عائلة روتشستر، ستتمكَّن من التعلّم بلا حدود، لكنَّها لن تتمتَّع بالحرّيّة التي تتمتَّع بها الآن.
أمَّا إذا أخفتْ هويّتها، فلن تحصل على تعليمٍ عالي المستوى، لكن يمكنها أنْ تعيش بحرّيّة.
…الحرّيّة. كلَّما فكَّرتْ رنايا في هذه الكلمة، شعرتْ بضيقٍ في صدرها.
في النّهاية الحقيقيّة لرواية <سيلين غريويل>، كانت الحرّيّة هي ما تمنَّته سيلين أكثر من أيّ شيء.
أيّ خيارٍ سيكون الأفضل لليليا؟ تمنَّتْ لو أنَّ أحدًا يعطيها الجواب.
في تلك اللحظة، تحرَّكت ليليا في حضنها ورفعت رأسها، تسأل بهدوء:
“…ماما، لمَ لا تنامين؟”
“يجب أنْ أنام. وأنتِ، لمَ لا تنامين؟”
في الظَّلام، لمعت عينا ليليا الجوهريّتان. كانت الطّفلة التي تنام مبكّرًا عادةً تمارس النَّزوات الليلة.
“لا أستطيع النَّوم.”
“سأساعدكِ على النَّوم.”
ربتت رنايا على ظهرها بلطف. لكن عيني ليليا ظلَّتا مفتوحتين.
في النّهاية، تخلَّتْ رنايا عن فكرة تنويمها مبكّرًا وقرَّرتْ التحدّث معها قليلًا.
“ليليا، ماذا تريدين أنْ تصبحي عندما تكبرين؟”
“شخصًا مثل ماما.”
✧───── ⋆⋅☆⋅⋆ ─────✧
ستجدون الفصول دومًا متقدمةً لهذهِ الرواية في واتباد وقناة الملفات،
حَسابي واتباد : _1Mariana1
( حسابي السابق قد حُذف)
وستجدون إعلانات تنزيل الفصول قبل هيزو في الرابط المثبت أول التعليق ~ ❀
التعليقات