على مقربةٍ من قرية لوكلير، كان هناك قصرٌ كان جيربال قد بناه في السابق ليكون استراحةً صيفيّة.
لكن بسبب تزامن الظّروف، لم يتمكَّن من استخدامه وانتهى به الأمر إلى تسليمه لشخصٍ آخر.
كان القصر يعجّ برائحة المباني الجديدة. لم يمضِ سوى يومين منذ انتقل إليه السَّيّد الجديد، فلم يكن هناك أيّ دفءٍ يُشعر بوجودٍ بشريّ.
ربَّما يتشكّل هذا الدّفء مع الوقت، لكنَّ سيرف، رئيس الخدم، لم يكن يتوقَّع الكثير.
لم يترك هيرديان روتشستر، في أيّ مكانٍ أقام فيه، أيّ أثرٍ لدفءٍ إنسانيّ.
“سأعالج جروحكَ، سيّدي.”
جلس هيرديان بهدوءٍ على كرسيّ وخلع رداءه نصف خلع.
كان جسده العلويّ مكشوفًا، مغطّىً بالنّدوب والجروح. كانت هذه الجروح نتيجة حملةٍ واسعةٍ لمكافحة اللصوص مؤخَّرًا.
أخرج سيرف الدَّواء بمهارةٍ وبدأ بتطهير الجروح العميقة أوّلًا. وبينما كان يلفّ الضَّمادات الجديدة، لم تظهر أيّ تغيّراتٍ على وجه هيرديان.
“هل معصمكَ بخير؟”
“نعم.”
أدار هيرديان معصمه الأيمن قليلًا وأغلق يده وفتحها. كان المعصم يؤلمه، لكن الألم كان محتملًا.
كانت إصابة المعصم أيضًا نتيجةً لعمليّة مكافحة اللصوص.
لو لم يندفع بمفرده إلى أعماقٍ خطرة، لكان بإمكانه العودة سالمًا.
ابتلع سيرف تنهيدةً وأكمل العلاج.
عندما انتهى، أعاد هيرديان ارتداء ردائه.
“من الأفضل أنْ تبقي الضَّمادات في القصر على الأقل.”
“إنَّه مجرَّد التواء، سيُشفى بسرعة.”
كيف يمكن التعامل مع عناد سيّده؟
منذ وصوله إلى الجنوب، رفض هيرديان العلاج للجروح التي يمكن إخفاؤها بالملابس، متذرّعًا بأنَّه لا يريد أنْ يراها الآخرون.
“لا بأس بمساعدتكَ في أعمال المزرعة، لكن لا تجهد نفسكَ. قد تتفاقم الجروح.”
“هذا لا يهمّ.”
“سيّدي، لقد جئتَ إلى الجنوب للاستشفاء. هناك أعينٌ كثيرة تراقب، فلا ضرر من توخّي الحذر.”
بعد أنْ قاد حملةً واسعةً للقضاء على اللصوص، وهم مشكلةٌ كبيرةٌ في الإمبراطوريّة، طلب هيرديان من الإمبراطور الذَّهاب إلى الجنوب بحجَّة الاستشفاء.
تجاهل هيرديان النّصائح بخفَّةٍ واتّجه نحو الطَّاولة. كانت هناك أوراقٌ كان يقرؤها قبل قليل تنتظره.
كانت معظمها معلوماتٍ عن عائلة روتشستر الكونتيّة.
جلس على الأريكة وبدأ بقراءة الأوراق، لكنَّه سرعان ما تنهَّد وأبعد عينيه. لم تكن المعلومات تدخل ذهنه بسهولة.
“…هل هناك مشكلةٌ ما؟”
“لا.”
في النّهاية، وضع هيرديان الأوراق جانبًا وفرك وجهه.
فكَّر أنَّه كان أكثر راحةً نفسيًّا عندما كان في أماكن تفوح منها رائحة الدّماء.
منذ الأمس، كان مزاجه يتقلَّب بشدَّة، مرتفعًا إلى أعلى درجات السَّعادة ثمَّ يهوي فجأة.
السَّبب، بالطَّبع، كان رنايا.
شعر بالسَّعادة لأنَّها تذكَّرته، ثمَّ شعر بالإحباط عندما رأى خاتمها والطّفلة، ثمَّ تحسَّن مزاجه عندما عرف أنَّها لم تتزوَّج.
لكن هذا الشّعور لم يدم طويلًا، إذ عاد وانهار عندما واجه عينيها الخضراوين الباردتين.
“قبل عامين، لم تذكر شيئًا عن وجود طفلة.”
خلال شهرٍ واحدٍ فقط، ظنَّ أنَّه عرف كلَّ شيءٍ عن رنايا، فكان مغرورًا.
لذلك، كان الصَّدمة أكبر.
كانت في سنٍّ يسمح لها بإنجاب طفل.
كان يعقل ذلك، لكن كان يشعر أحيانًا بانفعالاتٍ غامضةٍ تغمره. ربَّما كانت… خيبة أمل.
قبل عامين، كانت رنايا تتحدَّث إليه باستمرارٍ بمفردها بينما كان هو عاجزًا عن الكلام، فافترض أنَّها لا تخفي شيئًا.
يعلم أنَّه من السَّخف أنْ يطالب الآخرين بكشف كلّ شيءٍ بينما هو نفسه أخفى هويّته.
لكن لا يمكنه منع شعوره بخيبة الأمل.
“…سيرف، كيف يمكنني الاقتراب من شخصٍ يكرهني؟”
“عليكَ أوّلًا معرفة سبب كرهه. إذا كان الأمر يتعلَّق بالتَّصرفات أو طريقة الحديث، يمكنكَ محاولة تحسينها.”
“وماذا لو كان شيئًا لا يمكن حلّه بالجهد؟”
“في هذه الحالة، من الأفضل أنْ تنقل رغبتكَ في الاقتراب بصدق.”
أعطى سيرف النّصيحة بسلاسةٍ كما يليق بشخصٍ متمرس، لكن ذلك لم يكن مفيدًا لهيرديان.
لم يفكّر هيرديان يومًا بعمقٍ في العلاقات البشريّة.
لم يكن لديه أحدٌ أراد الاقتراب منه طوال حياته، فكان من الطَّبيعيّ أنْ يكون اعتيادُهُ على العيش بمفرده يجعل استعادة العلاقات تحدّيًا صعبًا.
“وإذا لم يتغيَّر قلب الطَّرف الآخر، فالتخلّي عنه خيارٌ أيضًا. العلاقات لا تستمرّ إذا أرادها طرفٌ واحدٌ فقط.”
تنفَّس هيرديان بعمقٍ بوجهٍ بارد.
“…معلومات الأعوام الاثنين الماضيين؟”
“وضعتها على الطَّاولة.”
خلال إقامته في الشّمال، قطعت كلّ أخبار قرية لوكلير.
أمر جيربال بمراقبة القرية لضمان سلامتها، وطلب من سيرف فقط تقديم تقارير دوريّة.
كان ذلك خيارًا اتّخذه خوفًا من أنْ يضعف قلبه ويترك كلّ شيءٍ ليعود إلى القرية.
لا يندم الآن، لكن التفكير بأنَّه عرف أخبار رنايا متأخّرًا أثار فيه بعض الأسف.
بينما كان يبحث في كومة الأوراق، وجد ما يريده وبدأ بقراءته بعناية.
في منتصف الوثائق، ظهر اسم رنايا فيليت.
ظلَّ هيرديان يحدّق في اسمها لوقتٍ طويل، غير قادرٍ على إبعاد عينيه.
* * *
مضى أسبوعٌ منذ تغيّر سيّد قرية لوكلير.
باستثناء تصرّف هيرديان الغريب بمساعدته اليوميّة في أعمال مزرعة التفّاح، كان اليوم كأيّ يومٍ عاديّ.
في وسط القرية، عُلِّقَ إعلانٌ إمبراطوريّ على لوحةٍ صغيرة.
كان الإعلان يتحدَّث عن حملةٍ واسعةٍ لمكافحة اللصوص حقَّقت نجاحًا، لكن بقاياهم انتشروا في مناطق مختلفة، فطُلب من الجميع توخّي الحذر.
كان وصول هذا الإعلان إلى قريةٍ نائيةٍ كهذه دليلًا على أنَّ الإمبراطوريّة تأخذ الأمر بجدّيّة.
لم تُعِر رنايا الإعلان اهتمامًا كبيرًا.
من المستبعد أنْ يفرَّ اللصوص إلى مكانٍ كهذا.
لماذا يأتون إلى قريةٍ لا شيء فيها يستحقّ السَّرقة؟
“كوني حذرةً لبعض الوقت. لا تفكّري أبدًا في دخول الغابة بمفردكِ. عودي إلى البيت قبل غروب الشَّمس.”
لكن كبار السّنّ كان لهم رأيٌ آخر.
رأت رنايا القلق الشَّديد على وجه الجدَّة هيلدي واستغربت. هل الأمر يستحقّ كلَّ هذا القلق؟
بالطَّبع، حرصتْ على تحذير ليليا بما فيه الكفاية.
“ليليا، لا تدخلي الغابة أبدًا. إذا أردتِ اللعب، العبي داخل القرية فقط. لا تذهبي إلى أماكن نائية، وابقي دائمًا مع الجدَّة.”
“حسنًا!”
أجابت ليليا بحماس.
على الرّغم من حبّها للعب، إلّا أنَّها مطيعةٌ بشكلٍ عام، فبدت الأمور على ما يرام.
منذ ذلك اليوم، أصبحت أجواء القرية أكثر كآبة.
بين كبار السّنّ المتوتّرين، ذهبت رنايا إلى العمل بهدوءٍ وأدَّت مهامها دون ضجيج.
تذكَّرتْ سماعها ذات مرَّة أنَّ اللصوص كانوا كثيرين في الماضي وسبَّبوا الكثير من المعاناة.
ربَّما كان لدى الجميع تجارب سيّئة مع اللصوص أدَّت إلى فقدان أراضيهم وسبل عيشهم.
كانت مجرَّد تخمينات.
“…إذًا، هل مرَّت الجدَّة هيلده أيضًا بتجربةٍ سيّئةٍ مع اللصوص؟ لا تتحدَّث كثيرًا عن الماضي، لذا لا أعرف.”
تباطأت يدا رنايا وهي تقصّ الأغصان فوق السّلّم.
لو أُلقيَ القبض على بقايا اللصوص بسرعة، لتحسَّنت الأجواء…
تنهَّدتْ وأدارتْ رأسها. في نهاية نظرها، رأت هيرديان يساعد في العمل بحركاتٍ متردّدة.
منذ حديثهما القصير عند النَّهر، لم تتحدَّث معه مرَّةً أخرى.
شعرتْ بالرَّاحة لأنَّه لم يعد يقترب منها، لكنَّ شعورًا غامضًا بالضّيق ظلَّ يلازمها.
كان وجهه الذي بدا وكأنَّه جُرح يتردَّد في ذهنها.
“لا داعي لأنْ يظهر تعبيرًا كهذا فقط لأنّني طلبتُ منه المغادرة. أليس من الأفضل له أنْ يعود بدلًا من البقاء في قريةٍ صغيرةٍ كهذه؟ ماذا يفعل هنا؟”
هل كانت تبرّر نفسها أكثر من اللازم؟ تمتمت رنايا في داخلها وأدارت رأسها بسرعة.
بهذا الرّتم، لن تنهي عملها اليوم. حاولتْ طرد الأفكار الجانبيّة وبدأت تحرّك يديها مجدَّدًا.
“…آه!”
فجأة، أصبح المكان صاخبًا.
نظرتْ حولها فوجدت السَّيّدة لوسون تترنَّح فوق السّلّم، غير قادرةٍ على الحفاظ على توازنها، وكأنَّها ستقع في أيّ لحظة.
“خالة!”
قفزت رنايا من السّلّم بسرعةٍ في حالة ذعر. لكن هيرديان كان أسرع. اندفع نحو السّلّم وأمسك بالسَّيّدة لوسون قبل أنْ تقع.
“هل أنتِ بخير؟”
“…نعم، نعم. شكرًا، سيّدي.”
أومأت السَّيّدة لوسون مرارًا وتكرارًا بنيّة الشّكر. توقَّفت رنايا وتنفَّست الصّعداء. كاد أنْ يحدث أمرٌ خطير.
“اللعنة على هؤلاء اللصوص!”
عادةً ما كانت السَّيّدة لوسون تؤدّي عملها ببراعة، لكن هذه المرَّة بدت مشوَّشةً تمامًا.
“خالة، استريحي قليلًا. وجهكِ شاحب.”
“يبدو أنَّكَ أنتَ من يحتاج الرَّاحة، سيّدي. يبدو أنَّكَ أصبتَ معصمكَ.”
“ماذا؟”
في الوقت ذاته، أخفى هيرديان يده اليمنى خلف ظهره.
“هذا لا شيء.”
“…؟”
ضاقت عينا رنايا.
✧───── ⋆⋅☆⋅⋆ ─────✧
ستجدون الفصول دومًا متقدمةً لهذهِ الرواية في واتباد وقناة الملفات،
حَسابي واتباد : _1Mariana1
( حسابي السابق قد حُذف)
وستجدون إعلانات تنزيل الفصول قبل هيزو في الرابط المثبت أول التعليق ~ ❀
التعليقات