في تلك الليلة، لم تتمكَّن رنايا من النَّوم.
 
عندما حاولتْ النَّوم بالقوَّة، انتهى بها الأمر برؤية كابوسٍ جعل مزاجها في أسوأ حالاته.
 
في الصَّباح، استيقظت ليليا، الطّفلة الصَّغيرة النشيطة، مبكّرًا، وصُدِمتْ عندما رأتْ حالة والدتها المرهقة.  
 
على الرّغم من محاولات هيلدي وليليا ثنيها، أصرَّت رنايا على الاستعداد والذَّهاب إلى العمل.
 
بسبب تمسّكهما بسروالها لمنعها، تأخَّرتْ قليلًا عن موعدها. 
 
“هل أبدو سيّئةً لهذه الدَّرجة؟”  
 
بينما كانت تمشي وهي تلمس بشرتها المتعبة، سمعتْ ضحكاتٍ وديّةً تنبعث من المزرعة.
 
هل هناك شيءٌ مفرح؟ 
 
اقتربتْ أكثر، فوجدتْ كبار السّنّ يتبادلون الأحاديث بحماسٍ وهم يبتسمون.  
 
لم تُعِر الأمر اهتمامًا كبيرًا في البداية. لكن عندما لاحظتْ شخصًا معيّنًا متأخّرًا، تجمَّدتْ أفكارها. 
 
كان هيرديان يتحدَّث ويضحك بين كبار السّنّ.  
 
“…؟”  
 
ظنَّتْ أنَّها ترى شيئًا خاطئًا، ففركتْ عينيها بظهر يدها.
 
لكنَّ الرّؤية أصبحتْ أوضح، وتأكَّدتْ من وجوده.  
 
كان كبار السّنّ يبتسمون بلطفٍ ويُرَبِّتون على ظهره، وكأنَّه أحد أهل القرية. 
 
شعرتْ رنايا بالذهول من هذا المشهد.
  
بينما كانت واقفةً مصدومةً، اقتربتْ منها السَّيّدة لوسون أوّلًا، ملاحظةً شحوب وجهها.  
 
“ما الذي حدث؟ وجهكِ اليوم ليس على ما يرام.”  
 
“لا شيء، خالة. لكن… ما الذي يحدث هنا؟”  
 
“السَّيّد الجديد لطيفٌ جدًّا.”  
 
“ماذا؟”  
 
“جاء مبكّرًا هذا الصَّباح وساعد في ترتيب المزرعة. بل إنَّه اتَّفق بالفعل مع رئيس القرية على تخفيض الضَّرائب.”
 
  
بمعنى آخر، في غضون يومين فقط، نجح هيرديان في كسب قلوب كبار السّنّ في قرية لوكلير.  
 
وجهٌ وسيمٌ يجذب الجميع، رجالًا ونساءً، صغارًا وكبارًا. تصرّفاتٌ مليئةٌ بالاهتمام تُثير ابتسامةً تلقائيّة.  
 
…لا عجب أنَّهم أحبّوه.  
 
لكن على الرّغم من هذا التفكير، شعرتْ بانزعاجٍ مفاجئ.  
 
“حتّى لو كان الأمر كذلك…! ألم يكونوا يكرهون الغرباء عادةً؟”  
 
شعرتْ بخيبة أملٍ كأنَّها خُونَتْ. ألم تستغرق هي نفسها سنواتٍ لتتأقلم مع القرية؟  
 
لم تستطع رنايا الانضمام إليهم بسهولة. لم تكن تنوي ذلك أصلًا، فاكتفتْ بتحيّةٍ خفيفةٍ وانصرفتْ لعملها بهدوء.  
 
عندما حان وقت الغداء، جاء أشخاصٌ لم ترَهم من قبل حاملين كميّاتٍ وفيرةً من الطَّعام إلى المزرعة. 
 
كانوا بوضوحٍ من العاملين تحت إمرة هيرديان.  
 
“أعددنا هذا على عجل، لا ندري إنْ كان سيروق لكم.”  
 
وهكذا، انساقت رنايا مع الأجواء وتناولت الطَّعام معهم.
 
جلستْ في الزَّاوية الأبعد، تتناول الخضروات ببطء.  
 
دون وعي، كانت عيناها تتّجهان باستمرارٍ نحو هيرديان. 
 
كان يتصرَّف كشابٍّ طيّب، يستحوذ على محبَّة كبار السّنّ.  
 
“بالمناسبة، هل أنتَ متزوّج؟ يداكَ خاليتان، يبدو أنَّكَ لم تتزوَّج بعد.”  
 
“نعم، لم أتزوَّج بعد.”  
 
“وما الذي ينقصكَ حتّى لا تتزوَّج إلى الآن؟”  
 
“…شكرًا على تقديركَ لي، سيدي.”  
 
فتحتْ رنايا فمها دهشةً. أنْ يُخاطبوه هكذا يبدو أنَّهم اقتربوا كثيرًا في وقتٍ قصير.  
 
“الزَّواج وتكوين أسرةٍ مستقرَّة هو السَّعادة الحقيقيّة. لا تتأخَّر أكثر، وابحث عن فتاةٍ صالحةٍ بسرعة. وأنتِ أيضًا، يا رنايا!”  
 
لماذا تحوّل الحديث فجأةً إليها؟  
 
بينما كانت تتناول الطَّعام ببطءٍ بالشّوكة، شعرتْ رنايا بكلّ الأنظار تتّجه إليها، فابتسمتْ بإحراجٍ وأومأتْ برأسها.
 
في مثل هذه المواقف، الأفضل هو قول ما يريده كبار السّنّ وتجاوز الأمر.  
 
استمرَّ الحديث عن الزَّواج بعد ذلك. 
 
كانت معتادةً على النَّصائح، لكن اليوم شعرتْ وكأنَّها ستختنق، فلم تستطع الاستماع طويلًا. 
 
أخيرًا، اعتذرتْ بحجَّة الذَّهاب إلى الحمَّام وغادرت المكان بهدوء.  
 
* * *  
 
“آه، أشعر أنّني أتنفَّس الآن…”  
 
جلستْ رنايا القرفصاء بجانب النَّهر، وغسلت وجهها بالماء البارد، ثمَّ تنفَّستْ بعمق.
 
شعرتْ أخيرًا أنَّ الضّيق يتلاشى.  
 
انعكس وجهها المرهق على مياه النَّهر الصَّافية. 
 
أدركتْ أنَّ حالتها أسوأ ممَّا توقَّعت، فظهرتْ على وجهها تعبيراتٌ مريرة.  
 
“…لا عجب أنْ بدت ليليا قلقة. إنَّها أكثر ذكاءً من الأطفال العاديّين، يجب أنْ أكون حذرة.”  
 
كان سبب حالتها السيّئة هو ليلة الأمس، لكن بصراحة، كان الكابوس هو الجزء الأكبر.  
 
رأتْ كابوسًا عن سيلين بعد وقتٍ طويل. 
 
وكان كابوسًا لأنَّ سيلين فيه تركت ليليا وغادرتْ ببرود. 
 
بكت ليليا ونادَتْ والدتها في الحلم، لكن سيلين لم تلتفتْ إليها ولو مرَّةً واحدة.  
 
لا شكَّ أنَّ هذا الكابوس كان بسبب السَّيّد الجديد.  
 
“أتساءل أين هو الآن وماذا يفعل.”  
 
حسب النّهاية الأصليّة للرّواية، كان من المفترض أنْ تموت سيلين هذا العام بسبب المرض. 
 
لكن بما أنَّ الأحداث تغيَّرت، ربَّما تغيَّر مصيرها أيضًا.  
 
ربَّما تعيش حياةً جيّدةً في مكانٍ ما. لم يكن لديها دليل، لكن هذا ما شعرتْ به.
 
طوَّقتْ ساقيها بذراعيها وأنزلتْ رأسها. بينما كانت تستمع إلى صوت الماء الجاري وتقضي الوقت بمفردها، سمعتْ صوت خطواتٍ تسحق العشب. 
 
التفتتْ، فوجدتْ الشَّخص الذي كانت تودّ تجنّبه أكثر من غيره.
 
عبستْ قليلًا وهي ترى شعره الأشقر اللاَّمع. سألها هيرديان بحذرٍ بعد تردّد:  
 
“هل أنتِ بخير؟”  
 
لم تتوقَّع أنْ يتبعها. أجابتْ رنايا على مضض:  
 
“…نعم.”  
 
“أحضرتُ دواءً. تناوليه، لا أحد يدري.”  
 
“…شكرًا.”  
 
كانت زجاجة دواءٍ صغيرةٍ تُمسك بيدٍ واحدة. أخذتْ رنايا الدَّواء دون تفكيرٍ وأومأتْ برأسها.  
 
عمَّ صمتٌ محرج. كانت تعي أنَّها قالت كلامًا قاسيًا الليلة الماضية، فشعرتْ بعدم الرَّاحة أكثر وهي معه وحدَهُما.  
 
‘لو قيلَ كلامًا مثل الذي قلتهُ البارحة، لما اقتربتُ حتّى. كنتُ سأكره مجرَّد التَّقابل بالأعين.’
 
عبثتْ رنايا بزجاجة الدَّواء وألقتْ بنظرها على النَّهر. انعكس وجه هيرديان، الذي اقترب منها دون أنْ تلاحظ، على سطح الماء. شعرتْ أنَّه يراقبها بحذر.  
 
كسر هيرديان الصَّمت أوّلًا:  
 
“…سمعتُ أنَّكِ لم تتزوَّجي.”  
 
“نعم، لم أتزوَّج.”  
 
“إذًا، الطّفلة التي رأيتها أمس؟”  
 
ارتجفتْ يدها التي تمسك الزّجاجة. شعرتْ رنايا بقلبها يهوي وعرقٍ باردٍ يتصبَّب.  
 
“…لماذا يسأل عن ليليا؟”  
 
هل اكتشف أنَّ ليليا ابنة كاين؟ أمرٌ لا يعرفه أحدٌ سوايَ وسيلين…  
 
حاولتْ رنايا إخفاء اضطرابها وعضَّتْ شفتيها.  
 
بعد تردّدٍ طويل، تنفَّستْ بعمق. كانت تعلم أنَّ الارتباك أمام هذا السّؤال سيجعلها تبدو أكثر ريبة.  
 
هدَّأتْ قلبها المضطرب ونهضت. امرأةٌ لم تتزوَّج، كيف تربّي طفلة؟ من هي تلك الطّفلة؟ ربَّما كان يريد أنْ يسأل هذا. 
 
إذًا، كان هناك جوابٌ واحدٌ فقط يمكن أنْ تقوله.  
 
“ليليا ابنتي.”  
 
حتّى لو لم يكن هناك أيّ شبَهٍ بيننا. 
 
حتّى لو لم تربطنا صلة دم. ليليا الآن هي ابنة رنايا فيليت، التي أنجبتها وتربَّتْ في قلبها.  
 
نزلتْ عينا هيرديان تدريجيًّا إلى يدها التي تحمل خاتمًا.
 
بدا وكأنَّه يريد أنْ يسأل المزيد، لكن رنايا أرادت إنهاء الحديث.  
 
“أشكركَ على اهتمامكَ بكبار السّنّ، لكن لا تهتمَّ بي أيضًا. إنَّه أمرٌ ثقيل.”  
 
“ألم أقل لكِ أمس بوضوح؟ ما زلتُ أعتبركِ صديقة.”  
 
“لكنني لا. لا أعتبركَ صديقًا، سيّدي.”  
 
أمام إصرار هيرديان، خرجتْ منها ردَّة فعلٍ حادَّة. لكن عندما رأتْ عينيه الزَّرقاوين، هدأتْ مشاعرها بسرعة.  
 
تنهَّدتْ تلقائيًّا. كانت رنايا تريد إنهاء هذا النّقاش العقيم.
 
كانت مسألة ليليا وحدها كافيةً لتجعل رأسها يكاد ينفجر، فلم ترغب في التفكير بمشاكل أخرى.  
 
“لماذا جئتَ إلى القرية؟”  
 
“…إذا قلتُ إنّني جئتُ لألتقي بصديقة، هل ستغضبين؟”
  
 
“لا أظنّ أنَّ هذا هو السَّبب الوحيد.”  
 
اتّسعتْ عيناه قليلًا وكأنَّها أصابت الهدف.  
 
تنهَّدتْ رنايا بوجهٍ متعب. كانت هذه هي الأفكار التي ظلَّت تؤرّقها طوال الليل الذي لم تستطع النَّوم فيه.  
 
“لو كان الأمر مجرَّد ذلك، لما تحمَّلتَ عناء أنْ تصبح سيّدًا وتأتي إلى هنا. وكنتَ بالتأكيد تفضّل إخفاء اسمكَ الحقيقيّ عنّي.”  
 
لم يستطع هيرديان الرّد على كلامها.  
 
“أعلم أنَّني، كمجرد مواطنة، ليس لي الحقّ في التعليق على أفعال سيّدي. لذا، من فضلكَ، لا تقترب منّي لكيلا أرتكب المزيد من الوقاحة.”  
 
عندما استدارتْ ببرود، وصلها صوته المنخفض:  
“…جئتُ لحماية شيءٍ ما.”  
 
القرية؟ النَّاس؟ أم شيءٌ آخر؟  
 
لم يوضّح ما الذي يريد حمايته بالضَّبط. 
 
نظر إليها كما لو كان ينتظر أنْ تطلب المزيد من التَّفاصيل، لكن هيرديان أغلق فمه بعد تردّد. 
 
كان ذلك إشارةً إلى أنَّه لا يريد الحديث أكثر.  
 
عندها، أصبحتْ عينا رنايا باردتين.  
 
“إذًا، ارجع من حيث أتيتَ. لا يوجد شيءٌ في هذه القرية يحتاج إلى حمايتكَ. لا شيءَ على الإطلاق.”
 
 
 
✧───── ⋆⋅☆⋅⋆ ─────✧
 
ستجدون الفصول دومًا متقدمةً لهذهِ الرواية في واتباد وقناة الملفات،
 
حَسابي واتباد : _1Mariana1
( حسابي السابق قد حُذف)
 
وستجدون إعلانات تنزيل الفصول قبل هيزو في الرابط المثبت أول التعليق ~ ❀
             
			
			
		
		
                                            
التعليقات لهذا الفصل " 24"