هيرديان روتشستر.
بالتأكيد كان اسمًا لمْ أسمعهُ من قبل، لكنَّ لقبهُ، روتشستر، بدا مألوفًا بشكلٍ يثير القشعريرة. عائلة روتشستر الكونتيّة.
كانت عائلة زوج سيلين بالضّبط.
كان لدى الكونت روتشستر الحاليّ ابنٌ واحدٌ فقط، ورث دماء زوجته المتوفّاة.
ألا وهو زوج سيلين، كاين روتشستر.
وبخلاف ذلك، لمْ يكنْ هناك من يحمل لقب روتشستر.
وبينما كانت رنايا غارقةً في التفكير، مرَّ في ذهنها وجودٌ معيّن.
السَّيّد الشاب المنكوب الذي وُصِفَ بأنَّهُ طُرِدَ إلى أراضي الشّمال القاسية بسبب الكونت روتشستر وكاين، بل وانتهى به الأمر مقتولًا.
“هذا لا يُعقل…”
شعرتْ رنايا بدمائها تتجمَّد بسرعةٍ بدايةً من أطراف أصابعها.
أدركتْ أنَّ الأمور قد ساءتْ، بل وتفاقمتْ بشكلٍ خطير.
بعد أنْ تبادل هيرديان تحيّةً خفيفةً مع رئيس القرية، اقترب من رنايا التي كانت متجمّدةً كالصَّخر، ومدَّ يدهُ إليها.
على الرّغم من تصرّفه وكأنَّهما يلتقيان للمرَّة الأولى، كان هناك بريقُ متعةٍ يتسلّل من عينيه.
“تشرَّفتُ بلقائكِ. سمعتُ أنَّكِ صاحبة مزرعة التفّاح، أليس كذلك؟”
“…نعم. أنا رنايا فيليت…”
“كنتُ أتوقّ للقائكِ.”
“…ماذا؟”
ارتعشتْ رنايا واتّسعت عيناها بدهشة.
“أحبّ التفّاح الذي يُنتَج في هذه القرية، لذا أردتُ زيارة المزرعة بنفسي.”
“آه، نعم… شكرًا.”
لماذا يتحدَّث بطريقةٍ تحمل كلَّ هذا الغموض؟…
سال العرق البارد من رنايا بشكلٍ واضح.
مسحتْ عرقها على بنطالها، ثمَّ صافحت يد هيرديان الممدودة.
كانت يدهُ مليئةً بالجلد الخشن، صلبةً كما لو أنَّه قضى وقته في أعمالٍ شاقَّة.
ابتسمَ ابتسامةً ودودة، كتلك التي كان يحملها قبل عامين، والتي لا تزال تملك سحرًا يجذب النَّاس.
شخصٌ كان من المفترض أنْ يموت، بقيَ على قيد الحياة بسببها.
ليس ذلك فحسب، بل أصبحَ أيضًا سيّد هذه القرية المتواضعة.
لم يكن هذا تطوّرًا إيجابيًّا على الإطلاق.
فهو من عائلة روتشستر الكونتيّة. شعرتْ رنايا وكأنَّ صوت هدوء حياتها اليوميّة يتحطَّم.
في تلك اللحظة، بينما كانت تسحب يدها أوّلًا، رأت ليليا، التي كان يجب أنْ تكون في البيت تنتظر بهدوء، تهرول من بعيد بحركاتٍ طفوليّةٍ ساحرة.
في الأيّام العاديّة، كانت رنايا لترحّب بها بذراعين مفتوحتين، لكن اليوم لم تستطعْ ذلك.
“…ليليا، لا تأتي!”
حاولتْ رنايا أنْ تُشير بيديها وتعبيرات وجهها لتطلب من ليليا العودة إلى البيت فورًا، لكن ليليا لم تفهم إشاراتها على الإطلاق.
“ماما!”
وصلت ليليا أخيرًا إلى مكان والدتها، واندفعتْ إليها ببراءةٍ ووجهٍ مشرق، ملقيةً بنفسها في حضنها.
عند رؤية هذا المشهد العائليّ الدافئ، ظهرت شقوقٌ طفيفة في ابتسامة هيرديان، شقوقٌ دقيقةٌ لم يلاحظها أحد.
“ماما، من هذا الرَّجل؟”
“آه… إنَّه السَّيّد الجديد للقرية. هيَّا، قدّمي تحيّتكِ.”
“مرحبًا، سيّدي! أنا ليليا فيليت!”
عند تحيّة ليليا المشرقة، انحنى هيرديان إلى مستوى عينيها وقبَّل ظهر يدها بلطف. كان يشبه الأمراء الذين قرأت عنهم في الكتب، فاتّسعت عينا الطّفلة بدهشة.
“أتطلّع إلى تعاوننا في المستقبل.”
في هذا الجوّ الودود، كانت رنايا الوحيدة التي تنظر إلى الاثنين بقلقٍ عميق.
‘هذا خطر.” ‘
صاحتْ غريزة بقائها بصوتٍ عالٍ.
* * *
كانت قرية لوكلير تابعةً لإقطاعيّة البارون إفردين لعقودٍ من الزّمن.
لكن بسبب مشكلةٍ سياسيّةٍ ما، تمَّ نقل جزءٍ من الإقطاعيّة إلى عائلة روتشستر.
وكان من قبيل الصّدفة أنْ تكون قرية لوكلير ضمن هذا الجزء، وهكذا أصبح سكّان القرية يخدمون سيّدًا جديدًا بين ليلةٍ وضحاها.
لكن لماذا أصبح هيرديان روتشستر هو السَّيّد وليس الكونت روتشستر؟
“لو كنتُ أعرفُ الإجابة، لما كان رأسي يكاد ينفجر هكذا…!”
في وقتٍ متأخّرٍ من اللّيل، كانت رنايا تمشي ذهابًا وإيابًا أمام المخزن خلف البيت، ممسكةً بشعرها بضيق.
لم تكن تذهب إلى هذا المكان عادةً، لكن بينما كانت تفكّر في هيرديان، وجدتْ نفسها تتّجه إليه بشكلٍ طبيعيّ. وقفتْ تنظر إلى المخزن بوجهٍ متجهّم.
“هيرديان كان من عائلة روتشستر…”
كان من المفترض أنْ يموت مبكّرًا، لكن بسببي ظلَّ على قيد الحياة ووصل إلى هنا، حاملًا اسم روتشستر بكلّ جرأة.
منذ عامين، لم يعد هذا العالم هو الرّواية <سيلين غريويل> التي كنتُ أعرفها.
لكن رغم ذلك، عندما تحدث أمورٌ محيّرةٌ كهذه، يعود ذهني دائمًا إلى الرّواية.
في الرّواية، لم يكن هيرديان شخصيّةً ذات أهمّيّةٍ كبيرة.
بعد مقتل والده على يد أخيه، طُرِدَ هيرديان الصّغير إلى الشّمال القاسي.
عاش هناك بهدوءٍ كالميّت، ثمَّ قُتِلَ لاحقًا على يد كاين وخرج من القصّة.
بمعنى آخر، كان شخصًا لم يكن حتّى خصمًا يُذكر لكاين.
“لهذا كان ينظر إليَّ بتلك العينين عندما التقينا أوّل مرَّة.”
عينان تجعلان النّاظر إليهما يشعر بالألم.
تذكّرتْ صورته وهو يقف وحيدًا في الشّتاء البارد، كحيوانٍ جائعٍ في الجبال.
في تلك الأيّام، لم يكن هيرديان شخصًا سيّئًا. لكن الماضي ماضٍ، والحاضر حاضر.
طالما أنَّه قد يشكّل خطرًا على القرية وعائلتي، لا يمكنني الحفاظ على العلاقة ذاتها التي كانت بيننا.
“…هذه مشكلةٌ كبيرة. لم أقرّر بعد ماذا سأفعل مع ليليا.”
لم تجد رنايا إجابةً بعد. هل تنتظر قدوم البطل وتكشف عن هويّة ليليا؟ أم تخفيها وتربّيها في الخفاء؟
بينما كانت غارقةً في التفكير وتطلق تنهيداتٍ متألّمة، استدارتْ لتعود.
في تلك اللحظة، فُتِحَ باب المخزن المغلق بإحكام، وامتدَّت ذراعٌ فجأةً وسحبتْ رنايا إلى الدّاخل.
“آخ!”
اصطدمتْ رنايا بشيءٍ صلبٍ وأطلقتْ صرخةً.
أُغلِقَ الباب خلفها، وفي الظّلام، تحقَّق شخصٌ ما من وجهها.
تقابلتْ أعينهما تحت ضوء القمر. عينان زرقاوان تلمعان حتّى في الظّلام، فابتلعتْ رنايا أنفاسها دون وعي.
“…هير.”
“هل أصبتِ؟”
كانت تودّ تجنّب الوجود معه وحدَهُما قدر الإمكان، لكن بمجرّد التفكير في ذلك، وجدتْ نفسها معه وحدَهُما.
شعرتْ بالانزعاج، لكن بعيدًا عن ذلك، كان الأمر مثيرًا للفضول أيضًا.
كأنَّ هذه اللحظة تعيد إليها ليلةً هادئةً منذ عامين.
الفرق الوحيد عن ذلك الوقت هو أنَّ هيرديان أصبح الآن قادرًا على الكلام.
“بالمناسبة… أنتَ الآن تستطيع الكلام.”
“بفضلكِ.”
كان صوت هيرديان أعمق وأنعم ممَّا توقَّعت، ممتعًا للسَّمع.
شعرت بإحساسٍ غريبٍ عندما سمعتْ أخيرًا الصَّوت الذي طالما أرادتْ سماعه.
“…هل يمكنكَ أنْ تتركني؟”
أسرعتْ رنايا بالخروج من حضنه. أدركتْ أنَّ ما اصطدمتْ به كان صدره، فشعرتْ بحرارةٍ طفيفةٍ في وجهها.
أخذتْ نفسًا قصيرًا لتهدئة نفسها، مذكّرةً إيَّاها أنَّ الشَّخص أمامها ليس صديقًا، بل مجرَّد سيّد القرية.
“لماذا أنتَ هنا، سيّدي؟”
أظلمتْ عيناه الزَّرقاوان.
“…هذا مكانٌ يحمل ذكريات. وأنتِ، لماذا جئتِ؟”
“لم أكن أنوي الدّخول. أنتَ من سحبتني إلى هنا.”
“كلامكِ فيه حدَّة. هل هذا بسبب الإحراج من لقاء صديقٍ بعد وقتٍ طويل؟”
تجنَّبتْ رنايا عمدًا الرّد على سؤاله.
لم تتوقَّع أنَّ مجرَّد تبادل الكلام سيكون محرجًا لهذه الدَّرجة.
في الماضي، كانت هي من تتحدَّث بمفردها، وكان هو يومئ برأسه أو يكتب ردودًا مختصرةً على ورقة.
لذلك لم تكن تعلم. لم تكن تعلم أنَّه عندما يتحدَّث، ينظر إلى الشَّخص الآخر مباشرةً.
شعرتْ بالإحراج وأشاحتْ بنظرها.
“اذهبْ بسرعة. ماذا لو رآكَ أحدهم هنا؟”
“هل وجود السَّيّد في إقطاعيّته مشكلة؟”
هذا صحيح.
نسيتْ للحظة أنَّه لم يعد ذلك الشَّخص الذي تسلّل إلى القرية سرًّا قبل عامين. عضَّتْ رنايا شفتيها وتنهَّدتْ.
“إذًا، ابقَ هنا، سيّدي. سأذهب أنا.”
“أعتذر عن خداعكِ.”
“…؟”
“كنتُ أريد أنْ أعتذر باستمرار. كان يجب أنْ أقول هذا منذ اللحظة التي التقينا فيها.”
تحرَّكتْ الغيوم التي كانت تحجب القمر، فتسرَّب ضوء القمر عبر النَّافذة. عندها فقط رأتْ وجه هيرديان بوضوح.
كان يبدو مضطربًا للغاية، كجروٍ قلقٍ بعد ارتكاب خطأ.
دون وعي، شدَّتْ قبضتيها. حاولتْ رنايا تهدئة قلبها المتقلّب وتحدَّثتْ ببرود:
“لا داعي لأنْ يعتذر السَّيّد. من البداية، ليس من المنطقيّ أنْ يكشف شخصٌ في مقامكَ كلَّ شيءٍ لشخصٍ مثلي.”
“رنايا، أنا…”
“وأعتذر عن جهلي سابقًا عندما كنتُ أتحدَّث عن الصداقة وما إلى ذلك.”
بينما كانت تنحني برأسها وتستدير، وقفت ذراع هيرديان في طريقها. تجنَّبتْ رنايا النظر إليه عمدًا.
“اتركني أمرّ.”
“…هل انتهيتِ من قول كلّ شيء؟ إذًا، استمعي إليَّ الآن.
”
“…؟”
“أنا آسفٌ لإخفاء هويّتي. في ذلك الوقت، كنتُ أخشى أنْ يعرّضكِ معرفة هويّتي للخطر.”
كانت رنايا تفهم جيّدًا سبب اضطراره لإخفاء هويّته. في ذلك الوقت، كان تهديد كاين يلوح في الأفق.
لذلك، لم يكن هناك داعٍ لتبريره بهذا الشَّكل. كانت تفهم ذلك جيّدًا، ولم تكن غاضبةً من كذبه أصلًا.
“مهما قلتِ، سأظلّ أعتبركِ صديقة. وأنتِ من جعلتني أوّلًا جزءًا من الأشياء المهمَّة بالنّسبة لكِ.”
“لو كنتُ أعرفُ أنَّكَ شخصٌ رفيع المقام، لما قلتُ ذلك أبدًا.”
لو كنتُ أعرفُ أنَّه هيرديان روتشستر، لما قلتُ تلك الكلمات أبدًا.
اخترتُ أنْ أرتبط بسيلين لا محالة، لكنني لم أكن أريد حتّى أنْ أمرَّ بظلّ عائلة روتشستر الكونتيّة.
“هل تندمينَ على إنقاذي؟”
في ذلك اليوم أيضًا، سألني نفس السّؤال.
هل أندم؟ كان الجواب سريعًا هذه المرَّة، لكنَّه مختلفٌ عن ذلك الوقت.
“نعم.”
رفعتْ رنايا رأسها، وعيناها خاليتان من أيِّ اهتزاز.
✧───── ⋆⋅☆⋅⋆ ─────✧
ستجدون الفصول دومًا متقدمةً لهذهِ الرواية في واتباد وقناة الملفات،
حَسابي واتباد : _1Mariana1
( حسابي السابق قد حُذف)
وستجدون إعلانات تنزيل الفصول قبل هيزو في الرابط المثبت أول التعليق ~ ❀
التعليقات