“……هاه.”
نهضتْ رنايا بصعوبة، ووجَّهت نظرها نحو المرآة.
كانت الهالات السوداء تحت عينيها عميقةً، ووجهها شاحبٌ بلا حياة.
‘لا يُمكنني أن أُري ليليا وجهي بهذا الشكل.’
سكبت الماء البارد على رأسها.
خرجتْ بعد الاستحمام، فوجدتْ هيلدي وحدها في غرفة الجلوس، تحتسي كوبًا من الشاي الدافئ.
“……جدّتي.”
“هل تشعرين بتحسُّن؟ لقد كنتِ مغمًى عليكِ في منزل السيّدة غريويل، فطلبتُ المساعدة من عمدة القرية وأحضرناكِ.”
“أنا بخير. آسفة لأنّني سبّبتُ القلق.”
جلستْ على الكرسي المقابل، ثمّ أخذتْ تتلفّت قليلاً قبل أن تسأل.
“……أين ليليا؟”
“إنّها نائمة في غرفتي.
ظلّت تبكي طويلًا حتى غلبها النعاس، والآن لا تبدو أنّها تنوي الاستيقاظ قريبًا.
ذ ربّما لأنّ الضغط النفسيّ أثقلها، وهي ما تزال صغيرة.”
‘ربّما كان هذا أفضل.’
فهي لم تُفكّر بعدُ كيف ستُخبر ليليا بكلّ ما جرى.
“……لقد طلبتْ منّي أن أعتني بليليا.”
“…….”
“تركتِ الطفلة ورحلتْ على ما يبدو.”
لقد تخلّت سيلين عن ليليا.
تخلّت عنها وذهبتْ.
لم يخطر ذلك في بال رنايا، ولم تُرِد حتى التفكير به.
بدتْ لها الأمور كلها وكأنّها كابوس.
وفيما خيّم الصمت الثقيل على المكان، فُتِحَ الباب بلَطْف، وظهرتْ ليليا.
رفعتْ رنايا نظرها ببطء.
كانت عينا الطفلة منتفختين من شدّة البكاء، ووجهها محمرًا.
“……أين أمّي؟”
كان صوتها العذب مبحوحًا من كثرةَ البكاء.
نهضتْ رنايا واقتربتْ منها، وهي تعضّ باطن شفتَيها.
ركعتْ أمامها وأمسكتْ بيديها الصغيرتين، اللتين كانتَا ترتجفان بخفّة.
كانت رنايا تعرف جيّدًا كم تحبّ ليليا أمّها.
كانت الطفلة الطيّبة التي لم تشتكِ يومًا من الطعام أو أيّ شيء آخر.
رأتها تكبر أمام عينيها، فكيف لا تعرفَها!
ولهذا السبب، كان من الأصعب عليها أن تُخبرها بالحقيقة.
لم تكن تريد لها أن تشعر بأنّ أمّها قد تخلّت عنها.
شدّت رنايا على شفتيها، ثمّ أجبرت نفسها على الابتسام.
“ليليا، أمّكِ حصل لها أمرٌ مفاجئ، وعليها أن تذهب إلى مكان بعيد لبضعة أيّام.
لقد قالت إنّها ستترككِ عندي، لكن يبدو أنّها نسيتْ أن تُخبرني.”
“……أين ذهبتْ أمّي بالضبط؟”
“إلى مكان بعيد قليلًا.
ستُسافر عبر البحر، لذا قد تستغرق رحلتها وقتًا.
لكنّ ليليا الصغيرة ستأكل وتنام جيّدًا، وتنتظر عودتها، أليس كذلك؟”
“…….”
“لو ظللتِ تبكين، فستعود أمّكِ وتحزن لرؤيتكِ هكذا.”
كانت تعرف أنّ الكذب ليس حلًا، لكن لم يكن لديها الشجاعة لتُواجه طفلة صغيرة بالحقيقة القاسية.
‘فقط حتى تهدأ قليلًا.’
‘فقط حتى تكبر قليلًا.’
‘فقط إلى أن يحين الوقت المناسب.’
لكنّ رنايا غفلتْ عن أمرٍ مهمّ.
وهو أنّ الأطفال، في بعض الأحيان، يكونون أكثر ذكاءً من الكبار.
منذ ذلك اليوم، حبستْ ليليا نفسها في الغرفة، ولم تخرج منها.
توقّفتْ عن الأكل، وصارت تتصرّف بعصبيّة.
“قلتُ إنّي لا أريد الأكل!”
تكسّر الصحن على الأرض، وانتثر قطعًا صغيرة.
حدث ذلك أثناء رفضها للطعام الذي جلبته هيلدي.
أسرعتْ رنايا إلى الغرفة عند سماع الصوت، وتجاوزتْ الشظايا نحو ليليا.
كان وجهها شاحبًا جدًّا.
“ليليا، هل أصبتِ؟ دعيني أرى.”
“آسفة… أنا آسفة…”
“لا بأس. أنا أيضًا كسرتُ أطباقًا كثيرة من قبل. لكن الأكل مهمّ، أليس كذلك؟ حتى تنمَيْ بسرعة.”
وظلّت عينا ليليا معلّقتين بالأرض، حتى أنهتْ رنايا تنظيف القطع.
لقد خسرتْ الكثير من وزنها، وصارت منطوية.
غابت عنها الحياة منذ أن رحلتْ سيلين.
كانت تبكي في كلّ فجر.
بالكاد تنام في الليل، ثمّ تصحو فزعًا من الكوابيس.
ورنايا، التي كانت عادةً لا تستيقظ بسهولة، أجبرت نفسها على البقاء في نومٍ خفيف، كي تُسارع لاحتضانها كلّما سمعتْ بكاءها.
وبعد دقائق، كان البكاء يهدأ، ويعلو صوت تنفّسها الهادئ.
كانت ليليا طفلةً طيّبة.
والطفل الطيّب هو مَن يُطيع الوصيّ، ويُراعي مشاعره.
ومَن يُراعي مشاعر من حوله، يكون ذكيًّا بما يكفي لقراءة الأجواء.
‘……ربّما ليليا تعرف الحقيقة أصلًا. أنّ سيلين لن تعود.’
عانقتْ رنايا الطفلة النائمة بقوّة، تكاد تبكي.
في حياتها السابقة، قرأتْ النهاية الحقيقية للرواية.
كان أغلب التعليقات تقول: “سيلين كانتْ مسكينةً”.
وحين تتأمّل حياة سيلين، ربّما يكون ذلك مبرَّرًا.
لكن رأي رنايا كان مختلفًا.
الشخص الأكثر حزنًا في القصّة لم يكن سيلين، ولا البطل “كاين”، بل كانت ليليا.
كانت مجرّد طفلة تتألّم بين والدين لا يملكان أدنى مؤهّلات الأبوّة.
مسحتْ دموع ليليا الجافّة على خدّها، وأغمضتْ عينيها.
‘……لن أترككِ وحدكِ، أبدًا.’
مرّتْ أيّامٌ أخرى، ولم تعد سيلين.
ليليا كانت تحدّق من خلف النافذة كلّ يوم، بوجه شاحب.
تنتظر أمّها التي لم تعد.
حتى هيلدي، لم تتمالك نفسها، وصارت تمسح دموعها خلسةً.
رنايا كانت تحاول أن ترفع من معنويات الطفلة، وتبقى قربها، لكن دون فائدة.
وفي أحد الأيّام، بينما كانت رنايا تعمل، وأخذتْ هيلدي غفوة قصيرة، اختفت الطفلة.
حين أدركتا الأمر، بدأتا البحث في كلّ أرجاء المنزل.
“ليليا! أين أنتِ؟!”
فتّشتا كلّ الأماكن التي قد تختبئ فيها، لكن لم يكن هناك أثرٌ للشعر الأشقر.
وقفتْ رنايا مذهولة، ثمّ توجهتْ بخوفٍ إلى المنزل المجاور.
كان الباب، الذي كان دائمًا مغلقًا، مفتوحًا هذه المرّة.
دخلتْ، فرأتْ ليليا تحزم حقيبتها الصغيرة بيديها الصغيرتين.
كانت تجَمع بعض الملابس وبعضَ الأغراض الشخصيّة.
تنفّستْ رنايا بارتياح، واقتربتْ منها.
“ليليا، ماذا تفعلين هنا؟! لقد بحثنا عنكِ طويلًا.”
“……أنا ذاهبةٌ للبحث عن أمّي.”
“…….”
“يبدو أنّها لم تَجد الطريق. ولهذا لم تَعُد للمنزل.”
“ليليا…”
“سأذهبُ لاستقبالها. هكذا، ستعود أسرع، أليس كذلك؟”
كان صوتها يبدو قويًّا، لكنّه يرتجف.
كانت تُقاوم البكاء بشدّةٍ.
لأنّها تعلم أنّه لو بكتْ، فلن تتمكّن من الذهاب.
“ليليا…”
عانقتها رنايا بقوّة.
ولم تُقاوم الطفلة.
لكنّ الدفء الذي لم يكن يشبه أمّها، جعلها تذرف الدموع أخيرًا.
“أمّي… ههك… تخلّتْ عنّي…؟ ليليا… ههك… لم تَعُد مهمّة…؟”
كانت الطفلة أذكى من أقرانها.
في القصص، الأب والأم والطفل دائمًا ما يكونون معًا.
لكنها بلا أب.
وأمّها، كانت تبكي سرًّا أحيانًا.
والعمّة في البيت المجاور تُحبّها، لكنّها تنظر إليها أحيانًا بعين القلق.
في ظلّ هذه الظروف، من الطبيعي أن تَشعُر الطفلة وتفهم.
“ليليا… هل أنا الآن بلا أمّ… وبلا أب…؟”
طفلة بلا والدين…
كانت رنايا تعرف شعور الحزن الناتجَ عن ذلك.
فهي أيضًا نشأت يتيمة.
أهل القرية يُعاملونها بلُطف الآن، لكنّ هذا لم يكن الحال في الماضي.
عندما كانت صغيرة، كانت تشعر بالقهر كلّما رأَت نظرات الرفض في أعينهم.
“ليليا، لا. أنتِ غاليةٌ جدًّا.”
“…….”
“أنا أعني ما أقول. أنتِ أغلى شخَص في هذا العالم. أنا متأكّدة من ذلك.”
كان من المفترض أن تكون سيلين هي مَن يقول هذا الكلام.
هي مَن كان يجب أن تُعانق الطفلة الآن.
ولو أنّها أخذتْ ليليا معها، لما كرهـتها رنايا.
حتى لو ماتتْ بسببَ المرض لاحقًا، كانت على الأقل ستتحمّل مسؤوليّتها للنهايةِ..
‘ما كان يجب أن تتخلّى عن الطفلةِ بهذه الطريقة…’
“……إذًا، لماذا تخلّيْا عنّي؟”
“…….”
“لماذا أبي وأمّي تخلَّيَا عن ليليا…؟”
“ليليا، لا. لم يتخلَّ أحدٌ عنكِ…”
لكن إنْ لم تكن تخلّتْ عنها، فكيف يُمكن تفسَير الأمر؟
لم تكن هناك طريقةٌ أخرى لتفسير ما حدث.
حرّكتْ رنايا شفتيها بصعوبة، ثمّ تمكّنتْ أخيرًا من النطق:
“……في الحقيقة، أمّكِ كان لديها ظروفٌ قاهرة. لم تتخلَّ عنكِ أبدًا…
كان هناك شيء جعلها مجبرة على الرحيل. لهذا السبب، هي الآن بعيدة، لكن حين تكبرين قليلًا… ستعود.”
“كان بإمكانها أن تأخذ ليليا معها، ههك…”
“صدقتِ… لكن، ما رأيكِ؟ حين تكبرين أكثر، هل نذهب سويًّا للبحث عن أمّكِ؟ لا، بل سأجدها أنا بنفسي، وأوبّخها كما تستحق. أعدكِ بذلك.”
عند حديث رنايا عن توبيخ الأم، ارتجفتْ ليليا بخفّة.
رغم الألم، لم تُرِد أن ترى أمّها تُعاقَب.
يا لها من ابنة طيّبة، تفكّر بأمّها حتى في وجعَها.
شعرتْ رنايا بالغصّة، وشدّت قبضتها للحظة، ثمّ تركتها.
هي تعرف أنّها لا تستطيع محو جراح ليليا تمامًا.
ولا تملكُ الثقة الكافية لفعل ذلك أصلًا.
لكنّها، في تلك اللحظة، عرفتْ ما الشيء الوحيد الذي يمكنها أن تُقدّمه للطفلة.
‘ربّما سأندم على هذا القرار لاحقًا…’
لكن، رغم ذلك، اختارتْ.
اختارتْ من أجل ليليا.
“لذلك، حتى نجد أمّكِ… سأكون أنا أمّكِ يا ليليا. لن أترككِ وحدكِ أبدًا، ولن أدَعكِ تشعرين بالوحدة.”
“…….”
“فلنعيش معًا، ليليا.”
“ههك… ههك… ههوووووه…!”
أومأتْ ليليا برأسها، ودفنتْ وجهها في صدرها.
عانقتها رنايا بشدّة، جسدها الصغير الذي يرتعش بين ذراعيها.
وفي ذهنها، مرتْ صورة النهاية الحقيقية لـ “سيلين غريويل”.
استعادتْ آخر لحظات ليليا المؤلمة في تلك النهاية، وتعهدتْ لنفسها:
‘لن أدَع الطفلة تنهي حياتها بالفراغ والوَجع.’
وهكذا، جعلتْ رنايا فيليت الطفلة ليليا غريويل ابنتَها.
✧───── ⋆⋅☆⋅⋆ ─────✧
ستجدون الفصول دومًا متقدمةً لهذهِ الرواية في واتباد وقناة الملفات،
حَسابي واتباد : _1Mariana1
( حسابي السابق قد حُذف)
وستجدون إعلانات تنزيل الفصول قبل هيزو في الرابط المثبت أول التعليق ~ ❀
التعليقات