في يومِ الحَصادِ المنتَظَر، كانَتْ ساحةُ بيتِ رئيسِ القريةِ هوبرت مُزدَحِمةً بالسُّكان.
تَمَّ تحضيرُ الطَّعامِ بعنايةٍ، ووُضِعَ على المائدةِ حتّى كادتْ تتكسَّرُ مِن كَثرتِه.
واجتمعَ الجميعُ لتناوُلِ العَشاءِ معًا.
في الوَسَط، رفعَ هوبرت كأسًا مَملوءةً بخمرِ التُّفاحِ عاليًا.
“لأجلِ قريةِ لوكلير!”
في أجواءٍ ودِّيَّةٍ مَرحة، كانتْ رنايا تَقطعُ اللَّحمَ بوجهٍ عابسٍ بعضَ الشَّيء.
لَمْ تَشعرْ بطَعمِ اللَّحمِ إطلاقًا.
في الحقيقة، لَمْ تَعرفْ حتّى إنْ كانَ اللَّحمُ يمرُّ بفمِها أو بأنفِها.
كانَ عقلُها مَشغولًا بصورةِ سيلينَ وهي تَبكي بحُرقةٍ في الزُّقاق.
في ذلكَ اليوم، عادتْ سيلينُ كأنَّ شيئًا لَمْ يَحدث، مُدَّعيةً أنَّ احمرارَ عينَيها كانَ بسببِ التَّعب.
“هيَّا، يا أمَّ الطِّفلة، كُلي بسرعة.
لَمْ تَتمكَّني مِن الأكلِ جيِّدًا بسببِ انشغالِكِ برعايةِ طفلتِكِ.
في مثلِ هذهِ المناسبات، يجبُ أنْ تَأكلي جيِّدًا.”
“…حسنًا.”
اختلطتْ سيلينُ بالسُّكان، وهي تَرفعُ كأسَ الخمرِ بتَرَدُّد.
كانتْ لا تُجيدُ الشُّرب، فما الذي جعلَها تَفعلُ ذلكَ اليوم؟
‘هلْ يُمكنُ أنْ أتركَها على هذهِ الحال؟’
في الرِّواية، كانتْ هناكَ مشاهدُ تَظهرُ معاناةَ سيلينَ مِن جروحِها بسببِ زوجِها.
لكنَّها، حتّى في أصعبِ لحظاتِها، كانتْ تَنهضُ بسرعةٍ وتُظهرُ أنَّها بخير.
كانَ ذلكَ لأنَّها لَمْ تَملكْ وقتًا لشفاءِ جروحِها.
لأنَّ هناكَ مَن تَعتني به إلى جانبِها.
…في الرِّواية، كيفَ تغلَّبتْ سيلينُ على جروحِها؟
بدأتْ رنايا تَسترجعُ أحداثَ الرِّوايةِ ببطء.
مرَّ الوقتُ حتّى أظلمَتِ السَّماء.
وفي هذهِ الأثناء، كانتْ ليليا جالسةً إلى جانبِ أمِّها، تَغفو بينَ الحينِ والآخر.
حاولتْ سيلينُ أنْ تَحمِلَ طفلتَها على ظهرِها بوضعيَّةٍ متَرَنِّحة.
وضعتْ رنايا اللَّحمَ الذي كانتْ تَأكلُهُ جانبًا، ثمَّ حملتِ الطِّفلةَ بدلًا مِنها.
“أنا―”
“دَعيني أحمِلُها.
هذا أسرعُ بكثير.”
كانَتْ رنايا أقوى مِن سيلينَ الضَّعيفةِ جسديًّا.
تردَّدتْ سيلينُ لحظةً، ثمَّ ابتسمتْ بلطفٍ وقالتْ إنَّها تَشكرُها.
“جدَّتي، سأذهبُ لإيصالِ ليليا.”
“انتبهي في طريقِكِ.”
بعدَ إذنِ هيلدي، غادرتْ رنايا معَ سيلينَ ساحةَ بيتِ رئيسِ القرية.
ليليا، التي كانتْ تَغفو، ما لَبِثتْ أنْ نامتْ بعمقٍ بعدَ أنْ حُمِلتْ على الظَّهر.
لم يكنِ الطَّريقُ إلى بيتِ سيلينَ بعيدًا.
لكنْ، بالنِّسبةِ لرنايا، بدا اليومَ وكأنَّهُ طويلٌ جدًّا.
‘ماذا كنتُ أقولُ في السابق…؟’
كانتا تَتبادلانِ الأحاديثَ السَّخيفةَ عادةً، لكنْ منذُ زيارتِهما للسُّوقِ قبلَ أيَّام، أصبحَ الجوُّ بينَهما متَوتِّرًا.
كأنَّهما عادتا إلى أيَّامِ لقائِهما الأوَّل.
كانَ يجبُ أنْ تُبادرَ بشيءٍ للحديث، لكنْ عقلَ رنايا كانَ مَشغولًا.
في تلكَ اللَّحظة، كسرتْ سيلينُ الصَّمتَ أوَّلًا.
“رنايا، أنتِ حقًّا شخصيَّةٌ عجيبة.”
“…بأيِّ معنى؟”
“بمعانٍ كثيرة.
كنتُ أظنُّ أنِّي أعرفُ النَّاسَ جيِّدًا، لكنِّي ما زلتُ لا أفهمُكِ.”
هلْ هذا مَدحٌ أم ذَمّ؟
تردَّدتْ رنايا وهي تُفكِّرُ في معنى الكلام، ثمَّ فتحتْ فمَها.
“مثلي يُمكنُ أنْ تَجديهِ في أيِّ مكان، أليسَ كذلك؟”
“ليسَ من السَّهلِ إيجادُ شخصٍ مثلِكِ لا يَسألُ عن شيء.”
تَرَنَّحتْ رنايا للحظةٍ وكادتْ تَتعثَّرُ بقدمَيها.
دقَّ قلبُها بقوَّة.
توقَّفتْ لثلاثِ ثوانٍ، ثمَّ واصلتِ المشيَ كأنَّ شيئًا لَمْ يَكن.
لحُسنِ الحظّ، لَمْ تَستيقظْ ليليا مِن تَعثُّرِها الطَّفيف.
‘ما معنى هذا الكلام؟
هلْ لاحظتْ أنِّي كنتُ أراقبُها ذلكَ اليوم؟’
لم تَرتكبْ ذنبًا، فلماذا شَعرتْ بالتَّوتُّرِ هكذا؟
حافظتْ رنايا على الصَّمتِ حتّى لا تَقولَ شيئًا خاطئًا.
كانتْ لا تَسألُ لأنَّها تَعرفُ كلَّ شيءٍ عن سيلين:
ماضيها، وما سيَحدثُ لها في المستقبل.
لذا، لَمْ تَرَ داعيًا للسُّؤالِ عن أمورٍ تَعرفُها، فتُؤذيها بذلك.
في اللحظةِ التي حاولتْ فيها تغييرَ الموضوع، قالتْ سيلينُ شيئًا غيرَ متوقَّع.
“زوجي كانَ شخصًا قاسيًا.”
“…!”
“لم يَعرفْ كيفَ يُعطي عاطفةً للنَّاس. كانَ يَرى كلَّ البشرِ كأعداء.”
كانتْ هذهِ المرَّةَ الأولى التي تَتحدَّثُ فيها سيلينُ عن زوجِها.
توقَّفتْ رنايا عن المشي، ناظرةً إلى ظهرِ سيلينَ التي تَقدَّمتْ خطواتٍ قليلةً، ثمَّ توقَّفتْ هي الأخرى، مُكملةً حديثَها بنبرةٍ هادئة.
“كنتُ أكرهُه.”
“…سيلين.”
“جئتُ إلى هنا لأنِّي كرهتُه.
كنتُ دائمًا أفكِّرُ في الهروبِ مِنه.
ظننتُ أنَّ الهروبَ سيَجعلُني أنساهُ يومًا ما…
وأعيشُ فقط من أجلِ سعادتي.”
“…!”
“لكنِّي كنتُ مخطئة.
ما زلتُ أكرهُه، وما زلتُ أشعرُ أنِّي محاصرةٌ في تلكَ اللحظات.”
تنفَّستْ سيلينُ بعمقٍ في نهايةِ كلامِها.
لَمْ يَبدُ ذلكَ شكوى، بل استسلامًا مِن شخصٍ يَئِسَ مِن كلِّ شيء.
‘لا أستطيع الكلام.’
شَعرتْ رنايا أنَّ عليها قولَ شيء، لكنَّ شفتَيها لَمْ تَتحرَّكا.
هلْ تَقولُ لها: “ستَكونينَ سعيدةً قريبًا، فاصبري قليلًا”؟
أم: “الماضي ماضٍ، فتغلَّبي عليه”؟
كلُّ الكلماتِ بدتْ فارغةً وغيرَ مُقنِعة، حتّى بالنِّسبةِ لها.
“أتمنَّى ألَّا تَأخذي كلامي بجدِّيَّةٍ زائدة.
أنا حقًّا أُحبُّكِ، رنايا، وكنتُ أريدُ أنْ أشاركَكِ هذا يومًا ما.”
فجأةً، تذكَّرتْ رنايا الجملةَ التي زيَّنتْ الصفحةَ الأولى مِن روايةِ “سيلين غريويل”.
كانتْ حياةُ سيلين غريويل مليئةً بالنَّحس.
الآنَ فقط، أدركتْ أنَّ تلكَ الجملةَ كانتْ إشارةً قويَّةً إلى مضمونِ الرِّواية: حياةُ سيلينَ المليئةُ بالنَّحسِ، وصراعُها الشَّديدُ معَ العالم.
كانتْ رنايا تُحبُّ تلكَ الرِّواية، وتُحبُّ سيلينَ بطلتَها.
أُعجِبتْ بشخصيَّتِها القويَّةِ التي تَصمدُ أمامَ كلِّ المصائبِ التي تُصيبُها.
‘لكنْ الآن…’
سيلينُ الآنَ تبدو مختلفةً عن تلكَ التي عرفتْها في الرِّواية.
قبلَ ستِّ سنوات، عندما جاءتْ إلى القريةِ لأوَّلِ مرَّة، كانتْ عيناها الذَّهبيَّتانِ مَليئتَينِ بالحياة.
أمَّا الآن، فقدْ خَبا بريقُهما.
“رنايا، يجبُ أنْ تَكوني سعيدة.”
بدا كلامُها وكأنَّها تَقولُ إنَّها هي نفسُها ليستْ سعيدة.
“وماذا عنكِ، سيلين؟ ألستِ سعيدة؟”
“لا أعرف. هلْ أنا سعيدة؟
جئتُ إلى هذهِ القريةِ من أجلِ السَّعادة، لكنْ هلْ أنا سعيدةٌ الآن؟”
“…لديكِ ليليا.”
شَعرتْ رنايا بدفءِ ظهرِها حيثُ كانتْ ليليا.
على الرَّغمِ مِن ضجيجِ الحديث، لَمْ تَستيقظِ الطِّفلة، بل ظلَّتْ نائمةً بعمق، تَتمتمُ “أمي…” بصوتٍ خافتٍ في نومِها.
كانتْ طفلةً محبوبةً تَبحثُ عن أمِّها حتّى في أحلامِها.
ومعَ ذلك…
ابتسمتْ سيلينُ بمرارةٍ بدلَ الرَّدّ.
كانَ ذلكَ آخرَ حديثٍ بينَهما.
* * *
مَرَّ أسبوعٌ مِن يومِ الحَصاد.
في تلكَ الفترة، غادرتْ سيلينُ القرية، تاركةً ليليا وراءَها.
في ذلكَ اليوم، كانَتْ رنايا في حالةٍ سيِّئةٍ مِنذُ الصَّباح.
بعدَ الحَصاد، كثُرتْ الليالي التي قضتْها ساهرةً، فأصبحَتْ عيناها مُحاطتَينِ بهالاتٍ سوداء.
تَثاءبتْ بعمقٍ وهي تَنظُرُ مِن النَّافذة.
كانَ المطرُ يَهطلُ بغزارةٍ مِنذُ الصَّباح.
في الجنوب، المطرُ أمرٌ مألوف، لكنَّهُ في مثلِ هذا اليومِ جعلَ مزاجَها أسوأ.
استلقتْ على السَّرير، دافنةً وجهَها في الوسادة.
كانتْ مُتعَبةً، لكنَّها لا تَستطيعُ النَّوم.
‘شيءٌ ما يَبدو خاطئًا.’
كانَ سببُ أرقِها هو الحديثُ معَ سيلينَ قبلَ أسبوع.
عندما عادتْ إلى البيتِ تلكَ الليلة، قضتْ ساعاتٍ تَكتبُ تفاصيلَ الرِّوايةِ على الوَرَق، خشيةَ أنْ تَنسى شيئًا.
لم يكنْ هناكَ خطأٌ في ذاكرتِها.
الخطأُ الوحيدُ كانَ في تصرُّفاتِ سيلينَ التي اختَلَفتْ عن الرِّواية.
في الرِّواية، لَمْ تَكُنْ سيلينُ تَكرهُ زوجَها فقط.
لقد أحبَّتْهُ بصدقٍ في البداية، لكنَّ حبَّها تحوَّلَ إلى كراهيةٍ بعدَ أنْ لَمْ يُبادِلْها المشاعر.
كانَ من الواضحِ مِن بدايةِ الرِّوايةِ أنَّها أحبَّتْه.
على الرَّغمِ مِن هروبِها مِنه، لَمْ تُغيِّرْ اسمَها، لأنَّها كانتْ تأملُ أنْ يَجدها يومًا ما.
‘حتّى الآنَ لَمْ تُغيِّرْ اسمَها، مما يَعني أنَّ حبَّها لزوجِها ما زالَ موجودًا…
فلماذا أشعرُ بهذا الإزعاج؟’
أصدرتْ رنايا أنينًا خافتًا.
التَّفكيرُ دونَ إجابةٍ جعلَ رأسَها يَكادُ يَنفجر.
فجأةً، سَمِعتْ صوتَ طرقٍ بينَ صوتِ المطر.
بدا وكأنَّهُ طرقٌ على الباب.
‘هلْ هو صوتُ الرِّيح؟’
ربَّما.
في مثلِ هذا المطر، لا يُمكنُ أنْ يَأتي زائر.
ظلَّتْ رنايا مُستلقيةً بهدوء.
لكنَّ الصَّوتَ تَكرَّرَ مرَّةً أخرى.
شَعرتْ بالغرابةِ، فنهضتْ مِن السَّريرِ ببطءٍ، وتوجَّهتْ نحوَ الباب.
“مَن… ليليا؟!”
عندما فتحتِ البابَ قليلًا، رأتْ ليليا مُبلَّلةً بالمطرِ تمامًا.
هرعتْ رنايا لإدخالِها إلى الدَّاخل، ثمَّ جَلبتْ منشفةً لتَجفيفِ شعرِها المُبتلّ، وانحنتْ لتَكونَ في مستوى عينَيها.
كانتِ الطِّفلةُ تَبكي بصمتٍ.
✧───── ⋆⋅☆⋅⋆ ─────✧
ستجدون الفصول دومًا متقدمةً لهذهِ الرواية في واتباد وقناة الملفات،
حَسابي واتباد : _1Mariana1
( حسابي السابق قد حُذف)
وستجدون إعلانات تنزيل الفصول قبل هيزو في الرابط المثبت أول التعليق ~ ❀
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات. هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات. هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
يرجى إدخال اسم المستخدم أو عنوان بريدك الإلكتروني. سيصلك رابط لإنشاء كلمة مرور جديدة عبر البريد الإلكتروني.
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات لهذا الفصل " 19"