“…حسنًا… ماذا؟”
“أأصبتَ بالصَّمم؟ لَمْ أضربك بعدُ.”
توقَّع جيربَال أنَّ زيارة هيرديان تتعلَّق بأمرٍ يخصُّ رئيس عائلة روتشستر، لكن عندما ذُكرت القرية فجأةً،
اتَّسعت عيناه بدهشةٍ.
“…أين تقع قرية لوكلير؟”
“ألا تعرف حتّى اسم القرية التي زرتَها بالأمس؟”
“لا، ليسَ كذلك. سأتوقَّف عن التدخُّل في شؤون قرية لوكلير!”
لم يبدُ أنَّ قريةً صغيرةً كهذه تهمُّ، لكن جيربَال هزَّ رأسه بعنفٍ.
كان عليه أنْ يتجنَّب التفكير ليحافظ على حياته.
“يبدو أنَّكَ تعبتَ كثيرًا وأنتَ تجول القرية لجمع الضّرائب، بل وحتّى تبحث عن جثّتي.”
“لا، ليسَ كذلك. تعبٌ؟ هذا لا يُعقل.”
“كيف حال عمّي؟”
“….”
“لمَ لا تجيب؟ هل ظننتَ أنّني لا أعلم أنَّكَ تبحث عن جثّتي بأمرٍ من رئيس العائلة؟”
شعرَ الجميع في الغرفة، باستثناء هيرديان، وكأنَّ سكّينًا مُسلَّطًا على أعناقهم، فلم يجرؤوا على التنفُّس.
كان شعورهم بالرّهبة ينبع من قدرة شخصٍ واحدٍ على فرض هذا الضّغط الهائل.
كيف استطاع مثل هذا الرّجل أنْ يبقى مختبئًا في الشّمال طوال هذا الوقت؟
ارتجف جيربَال بأسىً وأجاب:
“…يبدو أنَّ السّيّد روتشستر كان قلقًا عليكَ.”
“عمّي قلقٌ عليَّ؟”
تمتم هيرديان لنفسه، ثمّ ضحك بصوتٍ عالٍ.
لكن الجميع عرفوا أنَّ ضحكته ليست نابعةً من الفرح، فتجمَّدوا من الخوف ولم يضحكوا معه.
“ظننتُ أنَّ البارون مضحكٌ بمظهره فقط، لكن يبدو أنَّ لديكَ موهبةً للإضحاك بالكلام أيضًا.”
“…شكرًا.”
“لأجل بارونٍ موهوبٍ مثلكَ، أعتقد أنّني يجب أنْ أساعدكَ بشيءٍ ما.”
“ماذا تقصد؟…”
“إذا أبقيتَ كلَّ ما رأيته وسمعتَه اليوم سرًّا، أقسم باسمي أنّني سأحافظ على حياتكَ.
حتّى لو حاول عمّي التخلُّص منكَ لاحقًا، يمكنني أنْ أحمي حياةً واحدةً على الأقلّ.”
ابيضَّ وجه جيربَال.
ابتلع ريقه بصعوبةٍ ولمسَ عنقه، ثمّ ضربَ جبهته بالأرض بقوّةٍ.
“شكرًا، السّيّد روتشستر!”
“لا أظنُّ أنَّ عقلكَ الأحمق سيفكّر بالخيانة… لكن من الأفضل أنْ تحذر، أيُّها البارون.”
“بالطّبع!”
“نجوتُ.”
هكذا فكَّر جيربَال، وابتسامةُ ارتياحٍ بدأت تظهر على وجهه.
لكن في تلك اللحظة، قال هيرديان:
“حسنًا، لننتقل إلى الموضوع التّالي.”
“…ماذا؟”
“كانت تبكي.”
“…أنا؟”
برقت عينا هيرديان بنيةٍ قاتلةٍ.
“متى قلتُ إنّني أتحدَّث عنكَ؟
أتحدَّث عن المرأة التي أسأتَ إليها بالأمس.”
دارت عينا جيربَال وهو يتذكَّر رنايا أخيرًا.
هل يتحدَّث عن تلك الفتاة الجريئة ذات الوجه الجميل؟
“…حقًّا؟”
ما الذي يهمُّ إنْ كانت تبكي؟
لم يفهم جيربَال الموقف، فتلعثم في إجابته، ثمّ رفع رأسه.
لكن عندما التقى بعيني هيرديان المرعبتين، صرخ “هييك!” وضرب رأسه بالأرض مجدَّدًا.
“أنا آسف!”
“أظنُّ أنَّكَ تعتذر للشّخص الخطأ.”
“سأذهب إلى القرية اليوم لأعتذر…”
“أجننتَ؟
هل تنوي إدخال وجهكَ المقيت إلى القرية مجدَّدًا؟”
“إذن، كيف يمكنني…”
“عليكَ أنْ تشعر بما شعرتْ به.”
ابتسم هيرديان بمكرٍ.
نظر إليه أتباعه الذين كانوا يراقبون الموقف بحذرٍ، فابيضَّت وجوههم، وأشفقوا على سيّدهم في سرّهم.
“أرجوكَ، أنقذني…”
“لن أقتلكَ.”
قال هيرديان ذلك وأمسكَ بغمد سيفه.
ثمّ بدأ يضرب جيربَال ضربًا مبرّحًا، كما لو كان يقطّع لحمًا.
في قصر البارون إفردين، استمرَّت أصوات الضّربات المكتومة دون توقُّف.
استيقظتْ رنايا في منتصف النّهار.
عندما سقطت أشعَّة الشّمس الحارقة على وجهها، فتحتْ عينيها وهي تعبس بشدّةٍ.
بسبب بكائها الكثير في اللّيلة الماضية، تورَّمت عيناها.
أجبرتْ نفسها على فتح عينيها المغَلقتين بصعوبةٍ ونظرتْ حولها.
“…أين ذهب هير؟”
كانت وحدها في المخزن.
نظرتْ حولها ثمّ نهضتْ من مكانها.
في تلك اللحظة، لفتتْ انتباهها رسالةٌ موضوعةٌ على الطّاولة.
وبينما كانت تقرأ الرّسالة، اتَّسعت عيناها تدريجيًّا.
عندما أنهتْ قراءة الجملة الأخيرة، أمسكتْ بالرّسالة وخرجتْ من المخزن مسرعةً.
كان قلبها ينبض بسرعةٍ.
“…هير!”
هرعتْ رنايا نحو مدخل القرية.
ربّما فات الأوان بالفعل، لكنها ركضتْ على أمل أنْ تجده.
في تلك اللحظة، التقت عيناها بعيني رئيس القرية هوفارد الذي كان قادمًا من الجهة المقابلة.
بينما كانت تمرُّ به وهي تحيّيه بعينيها، سارع هوفارد ليقف أمامها وأمسكَ يديها بقوّةٍ.
“رنايا، شكرًا جزيلًا…!”
“…ماذا؟”
شكرًا؟
ظهرت علامات التساؤل في عيني رنايا.
“قرَّر السّيّد الحاكم تخفيض الضّرائب، ليسَ لهذا العام فقط، بل للأعوام القادمة أيضًا.
قال إنَّكِ أنتِ من أقنعته.
شكرًا جزيلًا، رنايا.”
“…أنا؟ لَمْ أفعل شيئًا…”
لم تفهم رنايا الموقف.
كلّ ما فعلته اللّيلة الماضيةُ هو البكاَء حتّى استنفدَت طاقتها ونامَت.
كان هناك شيءٌ غريبٌ.
وقفتْ رنايا مذهولةً، ثمّ فتحتْ الرّسالة المجعَّدة في يدها بعنايةٍ وقرأتها مجدَّدًا.
[‘آسفٌ لمغادرتي دون تحيّة.
سأعود لمقابلتكِ بعد انتهاء عملي، فانتظريني.’]
لم تكن هناك عبارة “اعتني بنفسكِ”.
حتّى الجملة الأخيرة لم تكن طلبًا بالانتظار، بل كانت أمرًا مباشرًا.
ضحكتْ رنايا بدهشةٍ.
لم تكن متأكّدةً، لكن من الواَضح أنَّه فعَل شيئًا لحلّ المشكلة.
وإلّا، كيف يمكن أنْ تحلَّ الأمور بهذاَ الحظّ الجيّد؟
“ما الذي فعلهُ هذا الرّجل…؟”
أومأت رنايا برأسها لهوفَارد، ثمّ عادتَ من حيثَ أتت.
استقبلها المخزن الفارغَ.
ربّما سيعود يومًا ما.
بحماسةٍ، قضتْ ذلك اليوم بأكمله تنتظره في المخزن، لكن حتّى اليوم التّالي، لَمْ يعد هيرديان….
* * *
في يومٍ توقَّف فيه المطر الغزير وأشرقت الشّمس، امتلأت مقبرة عائلة روتشستر التي دُفن فيها أفراد العائلة عبر الأجيال بالزّائرين المرتدين ملابس سوداء.
كانوا جميعًا قد جاؤوا لتأبين وفاة هيرديان روتشستر.
“آسفٌ يا ابن أخي.
وعدتُ أنْ أحميكَ نيابةً عن أخي، لكنّني لَمْ أستطع بسبب عجزي…”
شعرٌ أشقر باهت وعينان زرقَاوان باهتتان.
على صدره بروش يرمز إلى عائلة روتشستر، وكان يذرف الدّموع.
كان هذا ليبيد روتشستر، رئيس عائلة روتشستر الحالي.
أمام نعش هيرديان، قدَّم ليبيد أداءً تمثيليًّا متقنًا، وكأنَّه كان يحبُّ ابن أخيه ويعتزّ به.
أُخدع الزّائرون بتمثيله، فمسحوا دموعهم.
“…تشجَّع، أيُّها الوريث الصّغير.
السّيّد روتشستر بالتّأكيد في مكانٍ أفضل.”
راقب كاين روتشستر، الوريث الصّغير، المشهد بهدوءٍ وأومأ برأسه شاكرًا كلمات المواساة.
كانت عيناه الزّرقاوان الممزوجتان بلمحةٍ من الحمرة مليئتين بالسّخرية.
مسرحيّة هزليّة.
كان مضحكًا أنْ يقيم القتلة جنازة لضحيّتهم.
‘أبي يصبح أفضل في التّمثيل يومًا بعد يوم.’
الجثّة داخل النّعش لم تكن لهيرديان، بل لشخصٍ غريب.
بعد أكثر من شهرٍ من البحث دون جدوى عن جثّة هيرديان، قرَّروا إقامة الجنازة بجثّة شخصٍ آخر.
كان دفن جثّة غريبة في مقبرة عائلة روتشستر أمرًا مزعجًا، لكن ليبيد أصرَّ على المضيّ قدمًا.
ترك هيرديان في حالة مفقود كان مقلقًا له.
تلا الكاهن صلاةً أمام النّعش، وأغلق الزّائرون أعينهم وأحنوا رؤوسهم.
كانت الجنازة تُقام بهدوءٍ ووقار.
في تلك اللحظة، شعرت امرأةٌ بحركةٍ خلفها، فالتفتت وصرخت برعبٍ.
“هييك…!”
“هناك!”
كأنَّهم رأوا شبحًا، ارتجف بعض الأشخاص من الخوف.
عندما بدأ الاضطراب، عبس ليبيد وحوّل بصره.
“ما الذي يحدث…؟”
توقَّف ليبيد عن الكلام.
في نهاية نظرته، رأى هيرديان يدخل بأطرافٍ سليمة.
على الرّغم من الجوّ البارد الذي سبَّبه ظهوره، ابتسم هيرديان وهو يحيّي الجميع…
✧───── ⋆⋅☆⋅⋆ ─────✧
ستجدون الفصول دومًا متقدمةً لهذهِ الرواية في واتباد وقناة الملفات،
حَسابي واتباد : _1Mariana1
( حسابي السابق قد حُذف)
وستجدون إعلانات تنزيل الفصول قبل هيزو في الرابط المثبت أول التعليق ~ ❀
التعليقات