بعدَ شهرٍ كاملٍ، أخيرًا تمكَّنَ من النطقِ بصوتٍ لم يكن طبيعيًّا بالطبع.
 
ومع ذلك، كان مجرَّدَ النطقِ إنجازًا بحدِّ ذاتهِ.
 
“رنايا فيليت.”
 
هذهِ المرة، خرجَ صوتُهُ أقلَّ تَشَقُّقًا.
 
ربما سَمِعَت رنايا اسمَها، إذ تَجَعَّدَ جَبينُها النائمُ قليلًا.
 
ضَحِكَ هيرديان ضحكةً خفيفةً وهوَ يضغطُ بأصبعهِ برفقٍ على جَبينِها.
 
استَرَخَت تَجَاعيدُ جَبينِها، وعاد تَنفسها الهادئُ المنتظم.
 
كم يُدهشُ أن يشعرَ الإنسانُ بالراحةِ والسعادةِ فقط من مشاهدةِ شخصٍ نائم!
 
كلما طالَ بقاؤُهُ هكذا، زادَ تردُّدُهُ في المغادرةِ.
 
لقد عاشَ حياتَهُ يوميًّا في توتُّرٍ دائمٍ وسطَ الأعداءِ المتربِّصين.
 
لذا، كانَ يعرفُ جيدًا كم هيَ نادرةٌ هذهِ الراحةُ.
 
‘ربما يجبُ أن أشكرَهُم.’
 
ما زالَ يشعرُ بالغضبِ والاشمئزازِ حينَ يفكِّرُ في خيانةِ المقرَّبينَ وعمِّهِ.
 
لا يعني هذا أنَّهُ يغفرُ لهم، لكنَّ شعورًا بالامتنانِ يتسلَّلُ إليهِ.
 
لو لم يحاولوا قتلَهُ، ولو لم يصلْ إلى هذة قريةِ لوكل مصابًا بجروحٍ بالغةٍ، لما التقى برنايا أبدًا.
 
قبلَ لقائِها، كانَ يعيشُ في قاعِ حفرةٍ، ينتظرُ الموتَ بلا أملٍ.
 
لكن الآن، وبعدَ لقائِها، أصبحَ لديهِ رغبةٌ طموحةٌ:
 
أن يعيشَ حياةً إنسانيّةً على نفسِ الأرضِ التي تطأُها، تحتَ نفسِ السماءِ.
 
لتحقيقِ ذلك، عليهِ الآنَ أن يخرُجَ من هذهِ الحفرةِ النتنةِ.
 
“أعتذرُ، لقد كذبتُ عليكِ طوالَ هذا الوقتِ.”
 
لم يندمْ هيرديان قطُّ على إخفاءِ اسمهِ الحقيقيِّ وهويتِهِ.
 
لكنَّهُ شعرَ بأسفٍ حينَ فكَّرَ فيما إذا كانَ سيأتي يومٌ يُصحِّحُ فيهِ كذبتَهُ.
 
الأرجحُ أنَّهُ لن يلتقيَها ثانيةً.
 
وحتى لو التقيا، شعرَ أنَّ رنايا قد تنساهُ.
 
فماذا يعني رجلٌ لم تعرفهُ سوى شهرٍ واحدٍ؟
 
‘ربما يكونُ النسيانُ أكثرَ أمانًا.’
 
ضحكَ هيرديان ضحكةً خافتةً وهوَ يرفعُ يدَهُ من شعرِ رنايا.
 
شعرَ بأسفٍ يتسلَّلُ إلى أطرافِ أصابعِهِ.
 
“نمي جيدًا.
عندما تستيقظينَ، سيعودُ كلُّ شيءٍ إلى مكانِهِ.”
 
لا رجلٌ مختبئٌ في المخزنِ، ولا إقطاعيٌّ يُزعجُ القريةَ.
 
ستعودُ رنايا فيليت، الفلاحةُ التي تعيشُ في قريةٍ هادئةٍ مسالمةٍ.
 
بعدَ يومٍ كاملٍ، كانَ جيربال ما زالَ في مزاجٍ سيِّئٍ.
 
لم يتناولْ إفطارَهُ الدَّسمَ كعادتهِ، بل جلسَ مُتَرَاخيًا على الأريكةِ يُدَخِّنُ سيجارًا.
 
امتلأت الغرفةُ الواسعةُ بدخانٍ كثيفٍ.
 
تَسْحَبَ نفسًا، ثمَّ زَفَرَ.
 
بينما كانَ يُدَخِّنُ بهدوءٍ، تذكَّرَ ما حدثَ بالأمسِ، فانتفضَ غاضبًا.
 
ثمَّ مضغَ السيجارَ بعصبيّةٍ وبصقَهُ.
 
كانَ هناكَ سببانِ لِغَضَبِهِ.
 
الأوَّلُ: ما حدثَ في القريةِ، ذلكَ الإذلالُ الذي جعلَ الدمَ يغلي في رأسهِ.
 
‘أولئكَ العجائزُ اللعينون.’
 
عبَّرَ جيربال عن استيائِهِ بكلِّ جسدهِ وهوَ يضربُ الأريكةَ بقبضتِهِ بقوةٍ.
 
رغمَ أنَّهُ استحمَّ لأكثرَ من ثلاثِ ساعاتٍ بالأمسِ، ما زالَ يشعرُ برائحةِ العفنِ على جسدهِ.
 
كرهَ الرائحةَ، فأشعلَ سيجارًا جديدًا ليُغطيَها.
 
لم يزُلِ العفنُ بالاستحمامِ، فلا حلَّ سوى إخفائِهِ برائحةٍ أخرى.
 
نظرَ إلى السقفِ وهوَ يُدَخِّنُ لفترةٍ طويلةٍ، ثمَّ عَبَسَ ثانيةً.
 
تذكَّرَ السببَ الثانيَ الذي أثارَ غضبَهُ.
 
‘ذلكَ القاتلُ اللعين.’
 
كانَ جيربال يفكِّرُ في الضيفِ النبيلِ الذي زارَ الإقطاعيّةَ بالأمسِ، الكونتُ روتشستر.
 
قبلَ شهرٍ، تلقَّى جيربال أمرًا مُقَنَّعًا بطلبٍ منهُ:
 
البحثُ عن جثةِ ابنِ أخيهِ، هيرديان روتشستر.
 
حتى لو كانَ جيربال يعيشُ في الأطرافِ مُتَمَتِّعًا بالملذَّاتِ، فإنَّهُ لم يكن جاهلاً بأمورِ عائلةِ روتشستر.
 
عائلةُ روتشستر خاضت صراعاتٍ عائليّةً لسنواتٍ طويلةٍ.
 
وكما يعلمُ الجميعُ، انتهى الصراعُ قبلَ بضعِ سنواتٍ بانتصارِ ربِّ العائلةِ الحاليِّ.
 
الكونتُ ليبيد روتشستر، ذلكَ الرجلُ الذي قتلَ حتى أخاهُ الأكبرَ ليستوليَ على المركزِ.
 
‘لم يكتفِ بالاستيلاءِ على رئاسةِ العائلةِ، بل قتلَ ابنَ أخيهِ أيضًا.’
 
كانَ هيرديان روتشستر ابنَ ربِّ العائلةِ السابقِ.
 
نجا من الصراعِ العائليِّ، لكنَّهُ نُفِيَ إلى الأطرافِ، ذلكَ الشابُّ التعيسُ.
 
كانَ الجميعُ يعلمُ أنَّهُ يعيشُ بهدوءٍ في الأطرافِ.
 
لكن ليبيد، بقسوتِهِ، قرَّرَ استئصالَهُ نهائيًّا، مما أثارَ استغرابَ جيربال.
 
“لماذا يجبُ أن يحدثَ هذا في إقطاعيّتي؟”
 
لم يكن جيربال يهتمُّ إن عاشوا أو ماتوا في صراعاتِهم.
 
لكن لماذا يختارونَ إقطاعيّتَهُ الهادئةَ لمثلِ هذهِ المعاركِ؟
 
شعرَ بحرقةٍ في حلقِهِ، فتناولَ الخمرَ في وضحِ النهارِ.
 
من يسقطُ من جرفٍ ويبقى حيًّا؟
 
هذا مستحيلٌ.
 
لم يعثروا على الجثةِ حتى الآن، فلا بدَّ أنَّها أصبحت طعامًا للأسماكِ.
 
ومع ذلك، اضطرَّ جيربال للبحثِ عنها بسببِ أوامرِ ليبيد، مما جعلَ حياتَهُ مملةً ومزعجةً.
 
“آه، كم هوَ مُزعجٌ، كلُّ شيءٍ مُزعجٌ.”
 
“هل يوجدُ أحدٌ بالخارجِ؟”
 
دخلَ أحدُ أتباعِهِ الذي كانَ ينتظرُ عندَ البابِ.
 
كانَ لديهِ كدمةٌ زرقاءُ حولَ عينهِ اليمنى بسببِ تفاحةٍ فاسدةٍ أصابتْهُ بالأمسِ، فأحنى رأسهُ.
 
كانت رائحةُ العفنِ لا تزالُ تملأُ غرفةَ النومِ. تأثيرُ التفاحِ الفاسدِ كانَ مذهلاً حقًّا.
 
“ناديتني، سيدي جيربال؟”
 
“سنذهبُ اليومَ لتدميرِ تلكَ القريةِ، فاستعدوا لذلكَ. سأحضرُ تلكَ المرأةَ التي رأيتُها بالأمسِ.”
 
“القريةُ التي تقصدها هيَ لوكلير، أليسَ كذلكَ؟”
 
أظهرَ التابعُ تعبيرًا منزعجًا. 
 
فكرةُ استنشاقِ رائحةِ العفنِ مرةً أخرى جعلتْ أنفَهُ يشعرُ بالخدرِ مسبقًا.
 
كانَ متأكِّدًا أنَّ أهلَ القريةِ سيعيثونَ فوضىً، فهل يمكنُ حقًّا تدميرُ القريةِ؟
 
“وماذا تنتظرُ؟”
 
“حسنًا… سأُعدُّ كلَّ شيءٍ!”
 
تحتَ نظرةِ جيربال الحادةِ، خرجَ التابعُ مسرعًا من الغرفةِ.
 
بينما كانَ جيربال يهمُّ برشفةِ الخمرِ مجدَّدًا، سمعَ صوتَ ارتطامٍ من جهةِ الشرفةِ.
 
ظنَّ أنَّ طائرًا هبطَ، فنظرَ إلى هناكَ. لكنَّ ما رآهُ لم يكن طائرًا، بل رجلٌ قويُّ البنيةِ لم يرَهُ من قبلُ.
 
أسقطَ جيربال الكأسَ من يدهِ مصدومًا. 
 
عينانِ زرقاوانِ مملوءتانِ بالقتلِ حدَّقتا في عنقِهِ ببريقٍ مخيفٍ.
 
شعرَ بعرقٍ باردٍ يجري في ظهرِهِ.
 
كانَ هيرديان يتكئُ على درابزينِ الشرفةِ، ينظرُ حولَهُ بلامبالاةٍ. 
 
فكَّرَ أنَّ جيربال كانَ يعيشُ برفاهيةٍ في مكانٍ نظيفٍ، مما أثارَ غضبَهُ.
 
تحدَّثَ بهدوءٍ: “هل هذهِ أوَّلُ مرةٍ نلتقي فيها؟”
 
‘مجنون!:
 
صرخَت غريزةُ جيربال.
 
“يا لهُولاءٌ ! ألا يوجدُ أحدٌ بالخارجِ؟”
 
هرعَ الأتباعُ إلى الداخلِ. سحبوا سيوفهم بسرعةٍ، لكنَّهم ارتعشوا من هالةِ القتلِ الثقيلةِ التي أحاطتْ بهم.
 
فكَّ هيرديان ذراعيهِ وأومأ برأسهِ قليلًا، كأنَّهُ يقولُ: “هيا، هاجموني.”
 
“اقتلوهُ الآنَ!”
 
أمرَ جيربال.
 
اندفعَ الأتباعُ بوجوهٍ شبهَ باكيةٍ. حركاتُهم كانت ضعيفةً لدرجةٍ لا تُطاقُ مشاهدتُها.
 
تنهَّدَ هيرديان وهوَ يتفادى سيوفهم بحركاتٍ قليلةٍ. ثمَّ بدأَ يُسقطُهم واحدًا تلوَ الآخرَ.
 
أمسكَ برأسِ الأقربِ وضربَهُ بالحائطِ، ثمَّ ركلَ ساقَ آخرَ فأسقطَهُ على ركبتيهِ وضربَ ذقنَهُ. كانَ يقاتلُ بيديهِ العاريتينِ طوالَ الوقتِ.
 
“أرجوكَ… أنقذني…”
 
“لن أقتلَكُم. القتلُ ليسَ هوايتي.”
 
لكنهُ لم يَعِدْ بتركِهم سالمينَ.
 
أمسكَ هيرديان ذراعَ آخرِ تابعٍ ولواها، ثمَّ ركلهُ بعيدًا.
 
لم يستغرقْ إسقاطَ عشرةِ رجالٍ أكثرَ من ثلاثِ دقائقَ.
 
“هل أنتَ مستعدٌ للحديثِ الآنَ، يا بارونَ إفردين؟”
 
لم يكن جيربال غافلاً تمامًا. لاحظَ غمدَ السيفِ الأزرقَ ونمطَ سيقانِ الوردِ المتسلِّقةِ عليهِ، وهوَ شعارُ عائلةِ روتشستر بلا شكٍّ.
 
أدركَ جيربال من يكونُ خصمُهُ، فركعَ وأحنى رأسَهُ.
‘هيرديان روتشستر.’
 
ذلكَ الرجلُ الذي يعودُ حيًّا من ساحاتِ الحربِ حتى لو دُفِعَ إلى الموتِ.
 
* * *
 
في لحظةٍ، تغيَّرَ الموقفُ. جلسَ هيرديان على الأريكةِ التي كانَ جيربال يتكئُ عليها قبلَ قليلٍ، متقاطعَ الساقينِ.
 
بينما ظلَّ جيربال وأتباعُهُ راكعينَ على الأرضِ، يترقَّبونَ نظراتِهِ.
 
كانَ جيربال بارونًا، بينما هيرديان مجرَّدُ شابٍّ من عائلةِ كونتٍ.
 
من حيثُ الرتبةِ، لم يكن يجبُ التصرُّفُ بوقاحةٍ، لكن هذا لم يكن موقفًا رسميًّا، فلا حاجةَ للقلقِ.
 
بالنسبةِ إلى هيرديان، كانَ هذا المكانُ ساحةَ قتالٍ ضيِّقةً، وجيربال ليسَ سوى عدوٍّ.
 
‘يا إلهي… من كانَ ليظنُّ أنَّ هناكَ من يسقطُ من جرفٍ ويبقى حيًّا؟’
 
شعرَ جيربال وكأنَّهُ يرى شبحًا. كيفَ يمكنُ لإنسانٍ سقطَ من جرفٍ أن يكونَ بهذا الصحةِ والقوةِ؟
 
بينما كانَ يتصبَّبُ عرقًا باردًا، يتمنَّى لو يمرُّ هذا الوقتُ بسرعةٍ، تحدَّثَ هيرديان الذي كانَ صامتًا حتى الآنَ:  
 
“ابتعدْ عن قريةِ لوكلير.”
 
 
✧───── ⋆⋅☆⋅⋆ ─────✧
 
ستجدون الفصول دومًا متقدمةً لهذهِ الرواية في واتباد وقناة الملفات،
 
حَسابي واتباد : _1Mariana1
( حسابي السابق قد حُذف)
 
وستجدون إعلانات تنزيل الفصول قبل هيزو في الرابط المثبت أول التعليق ~ ❀
             
			
			
		
		
                                            
التعليقات لهذا الفصل " 14"
وناسهه اشكركك