“آسفةٌ يا هير، تأخرتُ قليلًا بسبب بعضَ الأمور.
أنتَ جائع، أليس كذلك؟”
ابتسمت رنايا بصفاءٍ، وكأن شيئًا لم يكن، ثم أظهرتَ سلةً مليئةً بالخبز.
تفوح رائحة الخبز المحمص من السلة، فتملأ المخزن.
لكن هيرديان لم يُلق نظرةً واحدة إلى الطعام.
كما في لقائهما الأول، اقترب منها بوجه بارد، يحدق بها بنظرات ثاقبة.
أراد أن يسأل عن كل شيء.
ما الذي حَدث؟
من فعلَ هذا؟
لم يُرد أن يفوته شيء.
كانت تعرف ما يريد قولهُ حتى دون أن ينَطق، فقدَ كان ذلك واضحًا على وجههِ.
لكنها تظاهَرت بعدمِ المعرفَة، ووضعَت سلةَ الخبزَ على الطاولة وهي تبدأ الحديث:
“هير، أنا لستـ طبيبةً، لكنني أعرَفُ كيف أعالجَ الجروحَ نوعًا ما.
ومن وجهة نظري، يبدو أنك قد تعافيت بما فيهِ الكفاية.”
“….”
“لذلك، لتغادَر غدًا يا هير.”
ساد صمت طويل بينهما.
لم تفارق عينا هيرديان رنايا قَط.
بينما لم تستطع رنايا إبقاء عينيها في مكان واحد، كمن أذنب.
أطرقتَ رأسها تلقائيًا، وهي تنظَرُ إلى الأرضيةِ الَباليةِ وتكمل:
“سأكون مشغولة من الغد، لذا لن أستطيع الاعتناَء بكَ جيدًا بعد الآن.
وأنت قلت إنك ستغادرُ بمجردِ تعافيكَ، لذا أعتقد أن الآن هو الوقت المناسَب.
سأساعدكَ لتغادر دون أن يراكَ أهل القَريةِ.”
كذب.
كل كلمة نطقتَ بها كانَت كذبًا.
خلال الليل، فكرت رنايا في آلاف الاحتمالاتُ لكَيفيةِ حمايةَ القرية وأحَبتها.
كان الحَل واحدًا.
أن تُباع هي للورد القبيِح.
‘غدًا عندما أغادر، لن يكون هناك من يعتنَي بهير، لذا يجبُ أن أجعلهُ يُغادرَ.
وسأطلب من سيلين حماية القريةِ.’
كان هذا هو الأفضل.
لم يكن هناكَ خِيار آخر.
واصلت رنايا الحديَث دون تردد، مطمئنةً في داخَلهِا أنهُ لن يكتشفَ كذبها.
لكن عندما رفعَت رأسها وتقابلتَ عيَناها مع عينيهِ، شعرت بقلبها يهوي فجأةً وهي تَشهقُ.
كان ينظر إليها بعينين مجروحتين مرةً أخرى.
“…هير؟”
كانت قد رأت تلك النظراتَ من قبلٍ.
كانت مشابهةً لنظرات سيلَين المجروحةَ عندَما اقترحَت عليها الرحيَل.
لم تستطع رنايا فتَح فمَها أكثرَ.
كانت تخشى أن تسبَب له جرحًا لا يمكنَ تداركهُ إن تكلمت.
‘هل هو مجروحٌ لأني طلبَت منه الرحيل؟’
ألم يَقل إنه سَيغادرُ بمجرد تعافيهِ؟
بينما كانتَ رنايا في حيرةٍ كبيرةٍ، اقتربَ هيرديَان وسحَب ذراعها برفقٍ ليُجلسِها على الكرسَي.
ثم جلبَ صندوقَ الأدوَيةِ وبَدأ بفحصُ يدهاَ.
“لماذا فجأةً…”
أدركت حينها فقط أن كف يدها في حالة دمارٍ.
خليطٌ من الدماء.
كانت قد أمسكت قبضتها بقوة، لدرجة أن الجروح ولدتَ في كفها وسال مَنها الدم.
كانت مشدودةً بسببِ القلقِ طوالَ الوقت.
لم يسأل هيرديان.
لم يسأل لماذا أُصيبت يدها الرقيقة، أو لماذا كانتَ خدّاها مليئةً بآثار الدموعِ.
فقط عالج كفها بصمتٍ.
كانت يدهُ حذَرةً وهو يَضعُ الدواءَ.
لم تكن الإصابةُ كبيرة، لكن اهتَمامهُ بها جعلَ قلبَ رنايا يُدغدغِها.
كان يعبَس طوال الوَقتِ وكأنهُ هو المصَاب.
بعد أن وضع الدواء، لف يدها بضمادةٍ، وإن لم يكن متقنًا جدًا.
“…هل أنتَ غاضَب؟”
سألت رنايا بحذرٍ.
توقفت يد هيرديان وهو يرتب صندوق الأدوية، ثم أخرج نفسًا هادئًا.
غاضبَ؟
نعم، كان غاضبًا.
غاضبًا منها لأنها تبتسم رغم أن هناكَ شيئًا واضحًا يحدث.
وغاضبًا من نفسهِ لأنه لم يفَعل شيئًا بينما كانَت هي تتألمُ.
لم يُرد أن يُظهر غضبه بطريقةٍ قبيحة.
لكن مع المشاعر التي تتصاعد أحيانًا، لم يجد بدًا من أن يمسكَ القلم.
اعتقد أنه من حسن الحظ أن صوته لا يخرج، وإلا لكان قد استجوبها نصف استجواب.
[ماذا أنا بالنسبة لكِ يا رنايا؟]
“…ماذا؟”
[هل ما زلت أُشعركِ بالضيقِ إلى هذَا الحَد؟]
كان خطه كالمعتاد، أنيقًا ومرتبًا.
لكن في عيني رنايا، بدا اليوم وكأن الخط غاضب قليلًا.
‘إنه غاضب بالفعل’، فكرت رنايا وهي تجيب:
“هير… أنت صديق.
لا أعتقد أنكَ تُشعرني بالضيق.”
[يبدو أنكِ تخفين الكثير إن كنت تعتقدَين حقًا ذلك عنيَ.]
“…”.
[يبدو أني لست جديرًا بالثقة.]
“ليس الأمرُ كذلكَ…”
تلعثمت رنايا ولم تستطع إكمال كلامها.
كانت دائمًا تميل إلى حل كل شَيء بمفردها، لذا كانت فكرة الاعتمادُ على أحٍد غريبةً بالنسبةِ لها.
رنايا فيليت، النشيطة والمَفعمةُ بالحيويةِ.
كان ذلك الوجهُ الذي صنعَتهُ بجهدٍ كبير.
في الأصل، لم تكن نشيطةً ولا مفعمةً بالحيَويةِ.
لكن لأن جدتها التي تحبها، كانت تحب تلك الشخصية، بذلت جهدًا شاقًا لتغيير نفسَها.
لم تُظهر رنايا ضعفها أبدًا للآخرين.
عندما كانت تريد البكاء، كانت تبكي خلسةً تحتَ الأغطيةِ.
لم يكن هناكَ من أشار إليها بذلكَ.
فقط لأنها كانت واعية بكونها طفلة متروكة، لم تُرد أن تسبب الإزعاج لأحد.
[سأستمعُ إليكِ.]
شعرتْ بالرقةِ في تلك الجملةِ القصيرةِ.
سقطتْ دمعةٌ كانتْ متجمِّعةً في عينيها على ظهرَِ يدها.
كانتْ تعلمُ أنَّه من الأفضلِ عدمَ إخبارِ أحدٍ من الخارجِ بأمورِ القريةِ، لكنْ فمَها تحرَّكَ تلقائيًا.
مع نفسٍ خفيفٍ، بدأتْ تتحدَّثُ:
“…لقد زارَ اللوردُ القريةَ اليومَ.”
روتْ ما حدثَ في النهارِ، وما يجبُ أنْ تفعلَه غدًا.
تحدَّثتْ بصوتٍ ممزوجٍ بالبكاءِ.
لم ينطقْ هيرديان بكلمةٍ حتّى انتهتْ.
كانتْ تعابيرُه تُصبحُ مخيفةً أحيانًا، لكنَّها لم تُلاحظْ ذلكَ لأنَّها لم تُقابلْ عينيهِ أثناءَ الحديثِ.
“كانَ ذلك الرجلُ يبحثُ عنكَ يا هير.
لا أعرفُ لماذا يبحثُ عنكَ، لكنْ بالتأكيدِ ليسَ لأمرٍ جيدٍ.
لذلكَ طلبتُ منكَ الرحيلَ بسرعةٍ قبلَ أنْ يُكتشفَ أمرُكَ.”
[قد يكونُ اللوردُ يبحثُ عني لأنِّي ارتكبتُ خطأً، فهل ستُساعدينني على الهروبِ؟]
“بالطبعِ.
أنا أثقُ بكَ يا هير، لأنَّكَ صديقٌ.”
“…”.
“وحتّى لو كنتَ قد ارتكبتَ خطأً يستوجبُ العقابَ، لا أريدُ أنْ يقبضَ عليكَ اللوردُ.
أنا أعرفُ جيدًا أنَّه رجلٌ أسوأ بكثيرٍ مهما كان ما فعلتهُ أنتَ.”
لم يكنْ هيرديان راضيًا عن هذا الوضعِ الذي تُظهرُ فيه رنايا قلقَها عليهِ.
كانَ هو القلقُ عليها، وليسَ العكسُ.
[وماذا عنكِ يا رنايا؟]
“…”.
[هل ستنفذينَ ما يريدهُ اللوردُ؟]
أغلقتْ رنايا فمَها بإحكامٍ.
عندما تكذبُ، لا تستطيعُ مواجهةَ العينينِ، وعندما يكونُ الكذبُ صعبًا، تُغلقُ فمَها.
تنهَّدَ هيرديان وهو يهمُّ بحركةِ القلمِ، لكنَّها فتحتْ فمَها الذي كانَ مغلقًا:
“لا يهمُّ ماذا سيحدثُ لي.
أنا خائفةٌ أنْ تتأذَّى جدَّتي.”
اشتدَّتْ قبضةُ هيرديان.
أمسكَ يدَه تحتَ الطاولةِ بقوةٍ حتّى برزتْ عروقُ يدهِ.
لم يكنْ بخيرٍ على الإطلاقِ.
كانَ يريدُ أنْ يذهبَ إلى اللوردِ الذي أزعجَها ويمزِّقَه حتّى لا يُعرفَ.
‘ما الذي تقصدينَه بأنَّكِ بخيرٍ؟’
كيفَ يمكنُ أنْ تكونَ بخيرٍ وجسدُها يرتجفُ هكذا؟
عضَّ هيرديان شفتَه بقوةٍ، ثمَّ مدَّ يدَه إليها.
جذبَ ذراعَها بيدهِ اليمنى، ولفَّ خصرَها النحيلَ بيدهِ اليسرى وضمَّها إلى صدرهِ.
تفاجأتْ رنايا وهي في أحضانهِ، وحاولتْ التملُّصَ منهُ دونَ وعيٍ، لكنَّ قوَّتهُ كانتْ أقوى من أنْ تستطيعَ الحركةَ.
“ماذا تفعلُ…”
كي يُهدِّئَها، ربتَ على ظهرِها بلطفٍ.
طق، طق.
يدٌ دافئةٌ تربتُ على ظهرِها، وصدرٌ صلبٌ واسعٌ يدعمُها، فانهمرتْ دموعُها.
كأنَّه يقولُ:
“لقد تعبتِ كثيرًا.
لقد صمدتِ جيدًا.
أحسنتِ.”
“هَكْ… هَكْ…”
لم تتوقَّفْ دموعُها التي انفجرتْ من الحزنِ.
أمسكتْ رنايا بطرفِ ثوبهِ وبكتْ حتّى نفدَتْ طاقتُها.
“في الحقيقةِ… أريدُ أنْ أعيشَ مع جدَّتي دائمًا…
هَكْ، لا أريدُ مغادرةَ القريةِ.
لو كنتُ قويةً بما يكفي لأحميَ الجميعَ…”
هل لأنَّه صديقٌ جديدٌ؟
أم لأنَّه غريبٌ لا يعرفُها جيدًا؟
لا تعرفُ السببَ، لكنَّ رنايا أظهرتْ ضعفَها لهيرديان، كاشفةً عما كانتْ تخفيهِ في قلبِها.
كانَ قولُ ذلكَ يتطلَّبُ شجاعةً في البدايةِ.
لكنْ بعدَ ذلكَ، تدفَّقتْ مشاعرُها كالماءِ الذي يفيضُ من زجاجةٍ.
عندما بدأتِ الشمسُ بالشروقِ تدريجيًا، هدأَ بكاؤُها.
وبدلًا من ذلكَ، أصبحَ صوتُ نفسِها الهادئِ المنتظمِ مسموعًا.
لقد بكتْ حتّى أنهكَها التعبُ فنامتْ في أحضانهِ.
حملَها هيرديان بحذرٍ حتّى لا يوقظَها ووضعها على السريرِ.
كانتْ آثارُ الدموعِ تملأُ خدَّيها تحتَ أشعةِ الشمسِ.
عندما مسحَ خدَّيها بقطعةِ قماشٍ نظيفةٍ، تحرَّكتْ قليلًا وأمسكتْ بيدهِ.
مرَّرَ يدهُ الأخرى بتردُّدٍ على شعرِها.
كانتْ تشتكي من شعرِها الجافِّ، لكنْ بالنسبةِ له، كانَ شعرًا ناعمًا جدًا.
“…رنايا.”
خرجَ صوتٌ متشقِّقٌ من حلقهِ الذي كانَ يُصدرُ أصواتًا ضعيفةً طوالَ الشهرِ.
✧───── ⋆⋅☆⋅⋆ ─────✧
ستجدون الفصول دومًا متقدمةً لهذهِ الرواية في واتباد وقناة الملفات،
حَسابي واتباد : _1Mariana1
( حسابي السابق قد حُذف)
وستجدون إعلانات تنزيل الفصول قبل هيزو في الرابط المثبت أول التعليق ~ ❀
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات. هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات. هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
يرجى إدخال اسم المستخدم أو عنوان بريدك الإلكتروني. سيصلك رابط لإنشاء كلمة مرور جديدة عبر البريد الإلكتروني.
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات لهذا الفصل " 13"