.:
الفصل 105
في مَقبرة عائلة روتشستر، كان يَعُمّ رائحة الدّمِ الحادّة المُنفرة.
اصطبغتْ الأرضُ العُشبيّة باللّون الأحمر، وعلى سطحها كان يتدحرج مَنْ بقيتْ فيهم بضعُ أنفاسٍ فقط.
وكان هيرديان في وسطهم، يَمسكُ سيفه وهو يُعيد ترتيب أنفاسه.
كان يبدو كما لو أنّه استحمَّ بالدّماء. معظمها دماء الآخرين، لكنّه لم يكن سليمًا تمامًا بلا أيّ جرح.
لسوء الحظّ، أُصيبَ ذراعه بجرحٍ عميق. حتّى لو غطّاه بملابسه، فإنّ رنايا ستكتشف الأمر فورًا.
فيما الدّم يتساقط قطرةً إثر قطرة، كان أوّل ما يقلقه هو أن تكتشف رنايا الأمر.
ثمّ شعر بنظرةٍ موجّهة إليه، فأدار رأسه.
“……هِييك!”
ما إن التقتْ أعينُهما حتّى أصدر ليبيد صوتًا غريبًا وتراجع إلى الوراء. مهما نظرتَ إليه، كان واضحًا أنّه خائفٌ جدًّا.
اقترب هيرديان بخُطًى واسعة.
“ابتعدْ، ابتعدْ عنّي……! يا لَكَ من وحشٍ. كيف يوجد مثل هذا الشّخص في عائلتنا……!”
منذ مدّة طويلة لم يسمع مثل هذا النّقد اللّاذع الصريح.
“هل تعلم؟ إنّ الشّخص الذي صنع هذا الوحش هو عمّي بالضبط.”
“…….”
“لقد طردتموني وأنا طفلٌ صغير إلى فيرمَاوين. وكأنّ ذلك لم يكفِ، دفعتموني إلى الخطّ الأماميّ.”
“…….”
“في مثل ذلك المكان، أليس من الغريب أن يبقى مَنْ كان يتشبّث بالحياة بكلّ شراسة إنسانًا عاديًّا؟”
هاها. شعر هيرديان فجأةً برغبةٍ في الضّحك.
كم تمنّى طوال هذه السّنوات أن يرى وجهه يتلوّى هكذا. لأجل هذه اللّحظة، ظلّ يتشبّث بالحياة رغم أنّه كان يريد الموت.
اقترب أكثر، وشدّ قبضته على مقبض السّيف.
سهلٌ عليه أن يمنع ليبيد الذي حاول متأخّرًا أن يشهر سيفه.
وأخيرًا، استقرّ نصل سيف هيرديان على رقبة عدّوه.
“أرْ، أَرجوكَ أَنْ تُنقذني…… أنا عمّك. أنا عمّك، أَليس كذلك……!”
كان والدي ووالدتي أذكياء جدًّا. ومع ذلك، السّبب الوحيد الذي جعلهما عاجزين تمامًا هو أنّهما كانا يثقان بليبيد إلى هذا الحدّ.
“إنّ سبب بقائي لعمّي حيًّا هو أنّني لا أريد أن أصبح شخصًا مثلكَ.”
“…….”
“من السّهل جدًّا أن أستولي على المكانة بالسّيف كما فعلت. لكنّني أنوي أن أستردّها بالطّريقة الشّرعيّة وفق قانون الإمبراطوريّة.”
“……قانون الإمبراطوريّة؟ هل تنوي أن تُحمِّلني تهمةً ما؟”
“لم يبقَ الكثير على ذلك. استمتع قدر ما شئت حتّى أستعيد ما هو لي، يا عمّي.”
مرّ النّصل الحادّ برفقٍ على رقبة ليبيد. مع ألمٍ لاسعٍ في العنق، تساقط خيطٌ رفيع من الدّم على طول النّصل.
أدرك ليبيد أنّها ليست مجرّد تهديد، فابتلع ريقه بصعوبة.
كان هذا كافيًا من التهديد. امتلأ رأس هيرديان برغبةٍ واحدة فقط: الخروج من هذا المكان الذي تفوح منه رائحة الدّم المُريعة إلى حدّ إصابة الرّأس بالصّداع.
ألقى السّيف الذي استولى عليه أثناء المعركة على الأرض، ثمّ تحرّك.
ترك وراءه أثرًا من بقع الدّم في كلّ خطوة مرّ بها.
‘بهذا الشّكل، من الصّعب أن أعود إلى البيت مباشرة.’
الجروح شيء ثانويّ، لكنّ رائحة الدّم تفوح من جسده كلّه وكانت مُقرفة.
لم يستطع أن يُظهر هذا المنظر المُرعب لرنايا، لذا بدا أنّ عليه أن يمرّ أوّلًا على القصر.
ركب هيرديان حصانه، ونظر للحظة نحو المقبرة، ثمّ أمسك اللّجام.
الطّريق إلى قصره وإلى بيت رنايا كانا متشابهين تقريبًا.
قالت رنايا ذات مرّة إنّ ذلك مجرّد مصادفة، لكنّ الحقيقة أنّها كانت مصادفة مُدبّرة بعناية.
البيت الذي جهّزته بنفسها كان بمساعدة بيليندا، والشّخص الذي تعامل مع بيليندا من وراء الكواليس كنتُ أنا بالضبط.
طلبتُ منها عمدًا أن تُبرم العقد في مكان قريب من قصري، فتذكّرتُ وجه بيليندا وهي تنظر إليّ بازدراءٍ واضح.
”……واو، أنتَ حقًّا الأسوأ.”
قالت بيليندا هذه الكلمة فقط ثمّ نفّذت العقد. كان المبلغ المُقدَّم مُغريًا جدًّا لترفض.
هل ستكرهني رنايا إذا علمت؟
كان عليّ يومًا ما أن أعترف بهذا، لكنّني لم أستطع فتح فمي بسهولة لأنّني ظننتُ أنّها ستكره الأمر.
كلّ أفكاري لا تتعلّق إلّا برنايا. بهذا المستوى، كنتُ مريضًا بشدّة.
وبينما كنتُ أُسرع الحصان لأنّني أريد رؤيتها، ظهرت ليليا فجأةً واقفةً وحدها في منتصف الطّريق، فتجمدتْ ملامحي.
يداها ورجلاها مُدمَيتان من الخدوش، ووجهها يبدو كأنّها على وشك البكاء، فانخفض قلب هيرديان فجأةً.
تحت وطأة الصّدمة، نسي حالته تمامًا، نزل عن الحصان واتّجه نحو ليليا.
“مَنْ فعل بكِ هذا؟”
انخفض صوته إلى درجةٍ لا يُمكن مقارنتها بما كان عليه قبل قليل. إلى هذا الحدّ كان هيرديان غاضبًا.
* * *
“يا آنسة، حان وقت العودة إلى البيت الآن. يجب أن نُعالج الجروح أيضًا.”
لم تهتمّ ليليا بكلام الفارس، وظلّت واقفةً في الطّريق لوقتٍ طويل. كان بصرها موجّهًا طوال الوقت نحو مدخل الزّقاق الذي دخلته سيلين.
‘لماذا كانت أمّي هنا؟ هل كانت عائدةً بعد لقاء مع أمّها رنايا؟’
إذا كان الأمر كذلك، فماذا تحدّثتا؟
كلّما توالت الأفكار واحدة تلو الأخرى، أظلمتْ ملامح ليليا أكثر. لأنّه كلّما فكّرتْ، لم يبدُ أنّ الحديث كان في اتّجاهٍ إيجابيّ.
‘أنا خائفة……’
كانت خائفة من أن تختفي كلّ السّعادة التي وجدتها بصعوبة.
غرقت ليليا في القلق، فلم تستطع فعل شيءٍ أو التّحرّك.
وبينما كان الفرسان خلفها يشعرون بالتّوتّر لرؤية حالة الطّفلة تزداد سوءًا،
“مَنْ فعل بكِ هذا؟”
التفتت ليليا فجأةً عند سماع الصّوت الذي تحبّه. كان هيرديان يقترب منها ملطّخًا بالدّماء من رأسه إلى أخمص قدميه.
عادةً، لرأى أيّ أحدٍ هذا المنظر لارتعب. لكنّ ليليا لم ترتعب، بل شعرتْ بالرّاحة بدلاً من ذلك.
وأخيرًا، انفجرت ليليا في البكاء الذي كانت تكتمه.
“هِييينغ…… عمّيي……”
ركضت ليليا نحو هيرديان وعانقتهُ بقوّة دون أن تهتمّ برائحة الدّم التي تفوح منه.
تذكّر هيرديان مظهره فارتجف مفاجأةً وحاول إبعاد ليليا.
“أنا متّسخٌ الآن، لا يجوز أن تعانقيني.”
عندما رأت ليليا الدّم يتساقط من ذراع هيرديان، انتفضتْ مذعورةً وسألت:
“مَنْ جرح ذراع عمّي؟!”
“أنا سألتُ أوّلًا. مَنْ جرحكِ أنتِ؟”
“ليليا……”
تحرّكت شفتا ليليا، ثمّ تلوّى وجهها بالحزن.
“عمي…… ليليا تتألمُ.”
“هل تتألمين كثيرًا؟ قولي لي مَنْ فعل ذلك.”
عند سماع ليليا تقول إنّها تتألّم، أصبحتْ هالة هيرديان مخيفةً جدًّا.
كلّ شيء كان يؤلم ليليا. كوعها وركبتاها المجروحتان من السّقوط على الأرض، وقلبها أيضًا. لم يكن هناك مكانٌ لا يؤلمها.
“كلّ شيء يؤلمني……”
أدرك هيرديان أنّ ليليا ليست على طبيعتها، فلم يستطع دفعها بعيدًا في النّهاية.
كان يزعجه أن تتلطّخ ملابسها الجميلة بالدّم، لكنّه لم يملك خيارًا فرفعها بين ذراعيه. ثمّ زجر الفرسان الذين كانوا ينظرون بدهشة:
“منذ متى أصبح رجالي عاجزين عن حماية طفلةٍ واحدة إلى هذا الحدّ؟”
“……نعتذر.”
انحنى الفرسان بعمق. عندها شدّت ليليا ملابس هيرديان.
“عمي، هؤلاء الفرسان الأعمام ليسوا مخطئين. لقد ركضتُ ليليا لوحدي فسقطتُ.”
“كان عليهم أن يوصلوكِ إلى البيت بأنفسهم، فلماذا…… هاا، لنذهب إلى البيت أوّلًا. سنعالج الجروح أو نفعل ما نفعل―”
“لا!”
انتفضت ليليا المذعورة، وأمسكت بقوّةٍ بشعر هيرديان بيديها الصّغيرتين.
“إذا ذهبتَ بهذا الشّكل، ستقلق أمّي!”
“إذا لم تعودي إلى البيت، ستقلق أكثر.”
“قُلْ إنّني سأنام في بيت عمي اللّيلة.”
ضيّق هيرديان عينيه. شعر أنّه سيكون في ورطة لأنّ الطّفلة أصبحت ذكيّةً جدًّا باكرًا.
“يجب أن نأخذ إذن أمّكِ.”
“ليليا كبرت الآن، ولا زلتُ بحاجة لإذن أمّها؟”
“……”
“عمي، أنت تكره أن تنام مع ليليا الآن فتختلق الأعذار، أليس كذلك؟”
“……ليس صحيحًا. هيّا نذهب إذًا.”
شعر بهذا من قبل، لكنّ رنايا لا تحبّ أن تبيت ليليا خارج البيت. طبيعيّ كأمّ، لكنّ المشكلة الأكبر أنّها تبدو غير قادرة على النّوم لوحدها.
‘……يومٌ واحد سيكون بخير.’
فضلًا عن أنّني إذا قابلتُ رنايا بهذا الشّكل الآن، لن أسمع كلامًا طيّبًا على الأرجح.
“لنخبر أمّكِ. قولي إنّكِ ستنامين في بيت عمكِ اليوم.”
“نَعَمْ!”
هزّت ليليا رأسها راضيةً أخيرًا.
يا لها من طفلة. ضحك هيرديان رغمًا عنه، ومسح خدّ الطّفلة المتّسخ بالدّموع.
* * *
الآن أصبح قصر هيرديان بالنّسبة لليليا كبيتها تمامًا.
استحمّت ليليا في ماءٍ دافئ، ووضعت الدّواء على جروحها، ثمّ تجوّلت في الرّواق بملابس النّوم.
ثمّ رأت هيرديان في الحديقة، فاتّجهت إليه فورًا.
“عمي!”
ركضت ليليا بقدميها القصيرتين بجهدٍ كبير وعانقت هيرديان مجدّدًا.
كان قد أزال رائحة الدّم، فحملها دون تردّد.
“لماذا لم تنامي؟”
“ولماذا عمي لم ينم؟”
“لأنّ النّوم لا يأتيني.”
“ليليا أيضًا لا يأتيها النّوم.”
“إذا نمتِ متأخّرة، لن تكبري.”
“لا بأس.”
هزّت ليليا كتفيها. الطّول لم يكن سببًا كافيًا ليجعل ليليا تريد النّوم مبكّرًا.
“حتّى لو كنتُ قصيرة، يوجد عمي الطّويل، فلا بأس. الأشياء الموضوعة في الأماكن العالية سيُنزلها عمي، وإذا لم أرَ شيئًا لأنّني قصيرة، سيحملني عمي.”
جوابٌ وقحٌ غير لائق بطفلة.
لكنّه كان جوابًا لائقًا جدًّا بالنسبه لـ ليليا.
“متى قلتُ إنّني سأُنزل لكِ أو أرحملكِ؟”
“……إذًا عمي لن يساعد ليليا؟”
عندما تسأل هكذا، لا يبقى لديه ما يقوله. ابتلع هيرديان تنهيدته، وحمل الطّفلة وجلس تحت شجرةٍ كبيرة.
“نبقى معًا قليلًا ثمّ ندخل، حسنًا؟”
“نعم!”
ابتسمت ليليا بسعادة. في الهواء اللّطيف البارد للّيل، تنفّست الطّفلة بعمق، وهدّأت قلبها الثّقيل.
بعد صمتٍ طويل، فتح هيرديان فمه بحذر:
“كنتُ آسفًا قبل قليل.”
التعليقات لهذا الفصل " 105"