.:
الفصل 104
جلست رنايا على الكرسيّ كأنّ روحها غادرتها، تحدّق بشرودٍ عبر النافذة.
السماءُ قد اكتست بلون الغروب، يكسوها وهجٌ برتقاليّ خافت.
”…أنا أقيم الآن قرب ميناء كالْديس. سأنتظر تواصلكِ.”
يبدو أنّ سيلين كانت تنوي بصدق أن تأخذ ليليا معها.
لكن هذه المرّة قالت إنّها ستسأل ليليا عن رأيها، ولن تفرض عليها شيئًا كما اعتادت.
في اللحظة التي رأت فيها سيلين تغادر بملامح مرتاحة، شعرت رنايا بالعكس تمامًا؛ صدرها ضاق حتى كاد يختنق.
‘هذا أمرٌ جيّد، أليس كذلك؟ أم أفاقت أخيرًا، وتريد أن تأخذ ابنتها.
والابنةُ، بطبيعة الحال، ستفضّل أمّها الحقيقية على أمٍّ لا يجمعها بها دمٌ واحد.’
كانت رنايا قد اعتادت الوداع.
فخلال إقامتها في قرية لوكلير رأت كثيرين يرحلون منهم من تعلّقت بهم، ومنهم من مرّوا دون أثر.
ولأنّها مرّت بمثل تلك الوداعات، أقنعت نفسها بأنّ فراق ليليا هذه المرة لن يكون مختلفًا…
ربما ستحسّ بفراغٍ بسيط، لا، بل كبيرٍ قليلًا… لكن يمكنها احتماله.
ومع ذلك، إن رحلت ليليا مع سيلين، فماذا سيبقى لها هنا؟
لقد تركت القرية واستقرّت في العاصمة لأجل ليليا.
فإن رحلت الفتاة، فلِمَ البقاء أصلًا؟
“سيّدة فيليت!”
كان ذلك صوتًا مألوفًا يناديها من خلف الباب.
فتحت رنايا دون تردّد، لتجد أحد الفرسان الذين رافقوا ليليا صباحًا إلى الأكاديميّة.
نظرت حوله فلم ترَ ليليا.
سألت مستغربة:
“وأين ليليا؟ لِمَ أتيت وحدك؟”
“الآنسة طلبت أن أُسلّمك هذا.”
“ليليا أرسلت؟”
ناولها ورقةً صغيرة بخطّ ليليا المتعجّل:
[أمي، ليليا ستبيت الليلة في منزل العمّ. أحبّكِ ♥]
لقد استلمت رسالةً مشابهة من قبل.
تذكّرت حين أمضت ليليا أسبوعًا كاملًا في بيت هيرديان آنذاك.
‘ربّما بقيت هناك أطول لأنّها كانت تراعي مشاعري… لكن الآن؟’
طعجت الورقة بقبضتها وهي تقول بحدة:
“أصبحتْ تبيت خارج البيت كلّ حين؟”
لا بدّ من تذكيرها ببعض التربية قبل الفراق.
الطفلة يجب أن تعود إلى البيت بعد المدرسة، لا أن تبيت حيث تشاء!
أحسّ الفارس بجوٍّ مرعبٍ حول سيّدته، فابتلع ريقه بتوتّر.
“أين هي الآن؟”
“إنّها في قصر اللورد روتشستر…”
“فلنذهب.”
“عـ…عفوًا؟”
“قلتُ فلنذهب.”
بدأ العرق يترقرق على جبين الفارس.
“لكن… الآنسة قالت إنّها تودّ أن تقضي الليلة وحدها مع اللورد…”
“وهيرديان؟”
“اللورد روتشستر قال الأمر نفسه…”
“إثنان معًا! جميل…”
ليليا لا تزال صغيرة، يمكن تفهّمها.
لكن هيرديان الذي يسايرها في كلّ شيء؟ هذا غير مقبول.
“حقًّا؟”
“سوف تعود غدًا، لذا لعلّكِ…”
“لكن ما العمل؟”
ابتسمت رنايا ابتسامة باردة،
بينما كانت عيناها الخضراوان تتّقدان كاللهيب.
“أنا أنوي أن ننام نحن الثلاثة معًا الليلة.”
* * *
قبل أن تتلقّى رنايا تلك الورقة بقليل.
كان هيرديان في مقبرة عائلة روتشستر.
حين لمح رجلاً يقف أمام قبر والده، تجمّد وجهه في صلابة.
ذلك الرجل لم يكن سوى عمّه — ليبيد.
“عمّي.”
التفت ليبيد بعد أن ظلّ ينظر إلى القبر طويلاً كمن يحدّث الميت، واستقبل ابن أخيه بوجهٍ هادئ:
“مرّ زمنٌ طويل يا هيرديان.”
“…”
“آه، لا، في الحقيقة التقينا في العاصمة مؤخرًا.”
“أكان لا بدّ أن تستدعيني إلى هذا المكان بالذات؟”
“اليوم ذكرى وفاة أخي.
أما يجدر بالعائلة أن تؤدّي تحيّةً واحدة معًا؟”
ضحك هيرديان ضحكةً جافة.
كيف يمكن لمن قتل والده أن يقف أمام قبره بكلّ هذا الهدوء؟
لو كان والده حاضرًا لرأى المشهد، لما كتم غضبه.
“اقترب. حان أن يحيّي الابن أباه كما يليق.”
“لا حاجة. لطالما أحيّيته بطريقتي الخاصة.”
“من دون أن تضع زهرةً واحدة أمامه؟”
نظر هيرديان إلى باقة الأقحوان البيضاء الموضوعة أمام القبر.
“أبي لم يكن يحبّ الزهور.”
كان مصابًا بحساسية حبوب اللقاح.
لذا كان فناء قصر روتشستر أيامه خاليًا من الأزهار تمامًا،
وكم كانت أمّه تحزن لذلك.
ولا شكّ أنّ عمّه يعرف هذا جيّدًا،
ومع ذلك أصرّ على جلب الأزهار — في إهانةٍ واضحة لذكراه.
تجمّدت عضلات ليبيد حين شعر بهالة القتل التي فاضت من ابن أخيه.
“أما زلت تكرهني إلى هذا الحدّ؟”
“أكرَهُ؟”
“كفّ عن هذا يا هيرديان.
مللتُ رؤية أبناء العائلة يوجّهون سيوفهم إلى بعضهم.”
لو كان الكره وحده، لكان الأمر أسهل.
لكن ما في قلبه كان أشدّ —
غضبًا، كراهيةً، يأسًا من نفسه الضعيفة،
دوّامة من المشاعر التي كادت تبتلعه يومًا.
ولولا لقاؤه برنايا، لربّما هلك في تلك الدوامة منذ زمن.
“لو أنّك لم ترفع سيفك منذ البداية، لما وصلت الأمور إلى هنا.”
رأى في وجه عمّه الهادئ أثر قلقٍ مكتوم.
فحال عائلة روتشستر تزداد سوءًا،
والإمبراطوريّة لم تعد توليهم اهتمامًا،
وجعله هيرديان الآن يضيق عليه الخناق أكثر فأكثر.
كان العمّ يومًا يبدو له جدارًا لا يُقهر،
أما اليوم فلم يره إلاّ كحيوانٍ ضعيف محشور في زاوية.
ولم يستطع كبح السؤال الذي طالما أرّقه:
“لماذا قتلتَ أبي وأمي؟”
“لم أقتل!”
“عمّي!”
“قلتُ لم أقتل!
كان والدي من دفعنا إلى حمل السيوف!
لم أكن أريد هذا!”
صرخ بصوتٍ مبحوح،
وجهه يتشنّج من الغضب والمرارة.
“أتعلم ماذا يعني أن تعيش منبوذًا، لا يلتفت إليك أحد، مهما اجتهدت؟
أبوكَ لم يمنحني كلمة مديح واحدة!”
يا لها من أعذارٍ بائسة.
حتى بعد كلّ الدم الذي أراقه، ما زال يحمّل غيره المسؤولية.
“أتظنّ أنّ اعتذارك الآن سيغيّر شيئًا؟
أتظنّ أبي سيعود إلى الحياة؟”
صرّ هيرديان على أسنانه.
“لقد حاولتَ قتل من يخصّني أيضًا، عمّي.”
“كان مجرّد تحذير…”
“تحذير؟ دفعتَ رنايا إلى حافّة الجرف، وتسميه تحذيرًا؟!”
قبض قبضتَيه بشدّة حتى برزت العروق في يده.
“أريد أن ننسى الماضي ونعيش كالسابق…”
“أتخشى أن أسلبكَ مكانكَ؟”
“…”
“غريب، توقّعت منك أن تخطّط لقتلي مجدّدًا لا أن تتوسّلني.”
تنفّس ليبيد بعمق وقال:
“إذاً لا نية لكَ في التراجع؟”
لو أنّه خضع وعدّل خطأه، لربّما غفر له.
لكنّ رجلاً كهذا، لا يرى ذنبه أصلًا، لا يستحقّ سوى النهاية.
“أنت من جلب هذا على نفسكَ يا هيرديان.”
وما إن قالها حتى ظهر من بين القبور رجالٌ يلوّحون بسيوفهم.
جنود ليبيد الشخصيّون.
“كنتَ تنوي هذا منذ البداية؟
أتسفك الدم أمام قبر أبي؟”
“أخي سيتفهّم.
لقد حاولتُ، لكنك لا تترك لي خيارًا يا هيرديان.”
توقّع هيرديان أنّ عمّه سيلجأ إلى هذا يومًا،
لكنّه لم يظنّ أن يفعلها في المقبرة نفسها.
‘كم هو يائس إذًا…’
العدد كان كبيرًا.
قطّب هيرديان حاجبَيه بضجر.
تحسّس خصره غريزيًّا، لكنه لم يجد سيفه —
فهو لا يحمله عند زيارة قبور العائلة.
لو كان مسلّحًا، لما استطاع هؤلاء خدشه.
لكنّه الآن وحيد، من دون رجاله،
وكلّهم منشغلون في مهامّ أخرى —
حراسة قرية لوكلير، مراقبة كاين روتشستر، وحماية آل فيليت.
تذكّر كلمات أتباعه حين أصرّوا على أن يصحبوه عددًا منهم:
”لا تذهب وحدك، يا سيدي.”
‘…قلتُ لهم ألّا أعود مصابًا، لكن يبدو أنّي سأخلف الوعد هذه المرّة.’
التعليقات لهذا الفصل " 104"