.:
الفصل 102
مرّةً في الأسبوع، كانت خادمة سيلين تملأ ماء الاستحمام وتنثر فيه بتلات الزهور، ثم تُلبسها قميص نومٍ أرقَّ من المعتاد.
كان ذلك يعني أنّ كاين قد عاد إلى القصر، وأنّه يُناديها.
‘هل مضى نصف عامٍ فعلًا…؟’
كم يمضي الزمن سريعًا. لم تكن سيلين تُصدّق أنّ نصف عامٍ قد مرّ منذ أُضيف اسم “روتشستر” إلى اسمها.
وخلال تلك المدّة، لم تفعل شيئًا يُذكر سوى صعودها إلى الطابق العلوي حين يستدعيها كاين.
كانت تمضي أيامها تحدّق في النافذة، كما لو كانت قد اختارت سجنها بنفسها.
بعد ليلة زفافهما الأولى، حاولت الفرار.
لكن حين همّت بالمغادرة لم تجد وجهةً تقصدها، فاستسلمت في النهاية.
فحتى لو عادت إلى بيت عائلتها المنهار، فلن يُرحِّب بها أحد، وإنْ غادرت لتتشرّد بلا مال، فحتفُها في الطرقات محتوم.
تذكّرت أستاذتها التي حاولت ردعها حين قالت إنّها ستترك الأكاديمية لتتزوّج.
يا لسذاجة جوابها في ذلك الحين!
‘السعادة؟ يا له من حلمٍ بعيد.’
صعدت الدرج، اجتازت الممرّ الطويل واستدارت عند الزاوية، لتصل إلى غرفة نوم كاين.
ما إن دخلت، حتّى لمعت عينان حمراوان وسط الظلام.
“تعالي إلى هنا.”
قادها صوته الخفيض نحوه.
كان عبق الدم يحيط به دومًا. لم تسأله يومًا عمّن قتل أو عمّن سفك دمه الليلة.
“غدًا علينا حضور حفلةٍ، فاستعدّي.”
“……حفلة؟”
“نعم، حفلةٌ أحضرها أنا أيضًا.”
كانت أوّل مرةٍ يخرجان فيها معًا.
بينما أشرق وجه سيلين قليلًا، بدا كاين منزعجًا وضجرًا.
“عجائزُ مزعجون. لا أدري لِمَ يهتمّ الناس كثيرًا بزواجي.”
أدركت سيلين أنّ الأمر لم يكن برغبته، بل بضغوطٍ خارجيّة.
فتراجعت ابتسامتها شيئًا فشيئًا.
“……حسنًا، سأستعدّ.”
وما إن أنهت كلامها، حتّى انقضّ كاين عليها كما لو كان ينتظر تلك اللحظة.
أغمضت عينيها بلا وعي.
وفي الصباح، كما في كلّ مرّة، وجدت جانبها خاليًا وباردًا.
الدفء الذي غمرها في الليل اختفى كأنّه لم يكن.
تكورت بصمتٍ تبكي دون صوت.
كان عليها ألّا تُحبّ قاتلًا باردًا لا يعرف معنى العطف.
كان الأجدر بها أن تموت جوعًا في الخارج على أن تبقى هنا حتى تتعلّق به قلبًا وروحًا.
اختنق صدرها. أحسّت كأنّ أحدًا يخنقها.
‘أهكذا قصدت أمي؟’
قالت لي إنّني إن لم أتعلّق بشيءٍ فسأعيش.
لكن ما إن رغبتُ في حبّه حتّى صار العيش عذابًا.
فقد كانت تعلم أنّه لن يرمقها يومًا بعينِ الحنان.
بعد بكاءٍ طويل، نهضت سيلين مرهقة وغادرت غرفته.
كانت الخادمة تنتظرها أمام الباب، لكنها بدت مترددة على غير عادتها.
“ما الأمر؟”
سألتها سيلين بأنفاسٍ متعبة.
تنهدت الخادمة، ثم قالت أخيرًا:
“يبدو أنّ عليكِ الذهاب إلى قصر غريويل، يا سيدتي الصغيرة.”
وفي ذلك اليوم، توفّي والدا سيلين.
انتحرا سويًا، بعد أن تناولا السمّ.
جرت الجنازة بهدوءٍ شديد.
قلّةٌ فقط رافقوا آخر أيام عائلة غريويل المنهارة.
حتى بعد انصراف المعزّين، ظلّت سيلين أيّامًا وليالي تحرس القبر وحدها.
لم تكن قد حظيت بحبٍّ غامرٍ من والديها، لكنّها رغم ذلك كانت تتّكئ عليهما نفسيًّا.
فقد كانا والديها، وتذكّرت نظراتهما الحنون حين كانت طفلة.
وبينما كانت جالسة تحدّق في الفراغ، همست الخادمة من خلفها:
“سيّدتي الصغيرة.”
“……”
“السيد يطلب حضورك.”
رغم ما حلّ بعائلتها، لم يُظهر كاين وجهه حتّى للحظة.
تمنّت لو جاء ولو قليلًا، لكنّه لم يُعرها اهتمامًا.
أن تُقيم امرأةٌ جنازةَ والديها وحدها بعد زواجها، كان أمرًا يفوق الوصف في البؤس.
وحين سألها بعض المعزّين بخجلٍ عن مكان زوجها، كانت تبتسم بمرارة وتجيب:
“إنّه مشغولٌ كثيرًا هذه الأيام.”
حقًا، كان كاين رجلًا مشغولًا، يغيب عن القصر طويلًا، وعديم العاطفة إلى حدٍّ لا يُطاق.
حاولت أن تتفهّم، إلى أن نطقت الخادمة بالكلمات التالية:
“قال إن لم تحضري، فسينقل قبرَ والديكِ.”
تجمّدت سيلين.
تحوّل وجهها الحزين إلى صدمةٍ مروّعة.
دفنت والديها في مقبرة عائلة غريويل على نفقتها الخاصة.
رأت أنّ هذا أقلّ ما يجب فعله احترامًا لهما بعد ما عاشاه كربٍّ وزوجةٍ لعائلة النبلاء.
“إنّها مقبرةُ عائلتنا! أبي كانَ الكونتَ وأمّي الكونتيسة، فأين يُدفنان إن لم يكن هنا؟!”
“……سيدتي الصغيرة.”
“ها… هاها، هاهاهاهاها!”
صرخت سيلين ثم ضحكت كمن فقدَ صوابه.
‘لم يعد يراني كإنسانة.’
كم بدت سخيفةً الآن محاولاتها السابقة لتنال إعجابه.
توقفت ضحكتها، وبقي في عينيها فراغٌ قاتم.
ومنذ ذلك اليوم، لم تعد سيلين تتطلّع إلى قلب كاين.
* * *
حين يفقد الإنسان ما يتّكئ عليه نفسيًّا، فماذا يحدث له؟
إمّا أن يجنّ، أو يبحث بجنونٍ عن شيءٍ آخر يتّكئ عليه.
وسيلين اختارت الخيار الثاني.
في البداية رغبت بإنجاب طفل.
بعد أن رحل والداها، تحوّل حنينها نحو فكرةِ أن يكون لها ابنٌ أو ابنة.
رغم مرور ستة أشهرٍ بلا حمل، لم تكفّ عن محاولة ذلك.
لكن الأمر انتهى حين قال لها الطبيب إنّ الحمل عسيرٌ عليها.
“إن لزمتِ الراحة التامة فربما… هناك أملٌ ضئيل.”
“……أي أنّه مستحيل تقريبًا.”
كان القصر مسرحًا للدماء؛ فمرّةً في الشهر تقريبًا، يقتل كاين أحد الخدم لأسبابٍ تافهة.
لهذا لم تفارق رائحة الدم المكان.
وقبل أيامٍ فقط، قتل خادمتها المقرّبة.
وحين سألته عن السبب، أجابها ببرودٍ:
“لأنّها بدت كأنّها تروق لكِ.”
“……”
“لا أحتمل أن يُعجب شيءٌ يخصّني بغيري.”
لم تعد سيلين قادرةً حتى على الغضب.
كانت تعلم أنّه لن يشعر بالذنب.
فاكتفت بإيماءةٍ واهنة.
أصبحت لا تنام إلاّ بالمنوّمات.
كان القلق ينهشها ليلًا ونهارًا، والسكينة حلمًا بعيدًا عنها.
وحين تخلّت عن فكرة الطفل، بدأت بالانحراف.
صارت تتسلّل ليلًا حين لا يستدعيها كاين، لتلتقي برجالٍ غرباء.
كانت تلك الليالي تمنحها لحظاتٍ من الوهم بالسعادة.
فهم لا يُهينونها، ويهمسون بكلماتِ حبٍّ ولو كانت كاذبة.
وفي أحد تلك الأيام، وبينما كانت منهكةً نائمةً طوال النهار، رأت حلمًا غريبًا.
رأت نفسها تائهةً في معبدٍ عظيم، يغمرها نورٌ ساطع.
“……آه!”
استيقظت بفزع، لكنها أدركت فورًا شيئًا واضحًا:
أنّ حياةً جديدة تنبض في رحمها.
لم تحتج إلى طبيبٍ لتعلم ذلك، كانت تشعر به.
وضعت يدها على بطنها المستوي وهمست.
لمّا كانت تتوق للحمل لم يُكتب لها، أمّا الآن بعد أن يئست… ها هو المعجز يحدث.
لم تكن متأكدةً ممّن هو الأب.
قد يكون أحد أولئك الرجال العابرين… أو لعلّه ابن كاين نفسه.
لكنها لم تُبالِ.
كانت تعلم فقط أنّها لا تريد إنجاب الطفل في قصر روتشستر.
فإن نشأ في هذا الجحيم، فمصيره لن يكون إلّا مظلمًا.
وهكذا قرّرت الهرب أخيرًا، وهي تُخفي حملها عن كاين.
* * *
بعد شهرين.
استقرّت سيلين في قرية لوكلير.
كانت تخيط بيديها غطاءً أبيضَ لرضيعها القادم،
تُزيّنه بالتطريز بعنايةٍ مذهلة جعلت صديقتها “رنايا” تندهش.
[ليليا]
“لكن لماذا تخيطين غطاءً واحدًا فقط؟ الاسم يبدو لفتاة، ألن تُعدّي آخرَ لصبيّ أيضًا؟”
“……فقط لأنّي أحببت هذا الاسم.”
أجابت سيلين بخفة، لكن الحقيقة أنّها لم تفكر قط بإنجاب صبيّ.
كانت تؤمن أنّ طفلها يجب أن تكون فتاةً لا غير.
ففي عائلة روتشستر، كان الدم نقيًّا قويًّا.
ومع أنّ كاين لم يكن ذا نسبٍ خالص، إلاّ أنّ ابنًا ذكرًا منه سيحمل طباعه القاسية حتمًا.
فمجرد تخيّل ذلك أرعبها.
“واااه!”
صرخت الصغيرة عند ولادتها، وكانت فتاةً.
لكنّها لم ترث شيئًا من سيلين؛ لا الشعر الأسود، ولا العيون الذهبيّة.
ومع مرور الوقت، أخذت ليليا تشبه كاين أكثر فأكثر.
كانت تقف أمام النافذة تنظر إلى القمر، تمامًا كما كان يفعل هو.
‘ليليا مختلفة، إنّها فقط تشبهه قليلًا في المظهر… لكنّها طيبة.’
كانت طفلةً لطيفة، مبتسمة دائمًا، تطيع أمّها وتحبّ الناس.
لكنّ ملامحها، للأسف، كانت مرآةً لذاك الرجل.
ومع تدهور نفسية سيلين شيئًا فشيئًا، بدأ عقلها يضعف.
كانت تكره طفلتها حينًا لأنّها تذكّرها بكاين، ثم تبكي ندمًا على كرهها لها.
‘يا إلهي، أأكره ابنتي حقًّا؟’
وحين بلغت حافّة الانهيار، شدّت ليليا طرف ثوب أمّها وقالت بخفوت:
“أمي… ستكون ليليا فتاةً جيّدة، فلا تكرهيني….”
كانت كلماتٍ بريئة، لكنها جعلت سيلين تدرك القرار الذي تهرّبت منه طويلًا:
أنّ عليها الرحيل لأجل ابنتها.
لحسن الحظ، كان هناك من تثق بها لتعتني بالطفلة.
رنايا فيليت، جارتها المزارعة وصديقتها الوحيدة.
خلال السنوات التي قضتها بجانبها، تأكدت سيلين أنّ رنايا امرأة طيّبة القلب.
لذلك لم تحتج إلى شرحٍ طويل، وكتبت في ورقةٍ قصيرة:
[أُوكِل إليكِ ليليا.]
التعليقات لهذا الفصل " 102"