.:
الفصل 101
كان على سيلين أن تقبل شرطًا واحدًا لتُصبح زوجةً لابنِ كونتِ روتشستر:
“أنْ تتركَ أكاديميّة كليرفور.”
وكان ذلك يعني ألّا تخرج بعد اليوم إلى الخارج، وأنْ تُكرّس حياتها كلّها لزوجها في قصر الكونت لا غير.
ولأنّ سيلين لم تكن تهتمّ بالدراسة كثيرًا، فقد تجاهلت محاولات أستاذتها لثنيها عن القرار، وقرّرت ترك الأكاديميّة.
ولم يكن غريبًا أنْ يُبدي أساتذتها امتعاضهم من قرارها، فهي كانت تُلقي وراءها كلَّ ما بنته خلال سنواتٍ من الجدّ.
ومع ذلك، لم تتراجع سيلين.
قالت وهي تبتسم لمعلّمتها:
“لا بأس يا أستاذة، أشعر أنّني سأعيش حياةً سعيدة.”
وكانت صادقةً في تلك اللحظة.
فمن ذا الذي لن يسعد حين تأتيه فرصة الزواجِ بمن أحبّه من النظرةِ الأولى؟
لم تكن سيلين تعلم لِمَ أرسل آلُ روتشستر عرضَ الزواج إلى عائلتها المتواضعة، لكنّها رأت في الأمر مجرّدَ حظٍّ نادرٍ لن يتكرّر.
شعرت حينها بسعادةٍ حقيقيّة، وآمنت أنّها ستستطيع الحفاظ على ذلك الشعور طويلًا.
لكن لم يكن هناك حفلُ زفافٍ على الإطلاق.
ولا حتى مائدةٌ تجمعُ كبار العائلتين.
كان عليها فقط أنْ تتوجّه في اليوم المحدّد إلى قصرِ الكونت روتشستر.
في ذلك اليوم، كان والدها مخمورًا لدرجة أنّه لم ينظر إليها وهي تغادر.
أما والدتها فقالت بكلمةٍ واحدة:
“يا ابنتي، إنْ لم ترجِي شيئًا ستستطيعين العيش.”
لم تفهم سيلين المعنى يومها، وظنّت أنّ أمّها تقولها شفقةً لا أكثر.
قالت وهي تُنحني:
“أبي، أمّي… كونوا بخير. سأزوركما حين تسنح لي الفرصة.”
ثم غادرت قصر غريوِيل، دون أنْ تدري أنّ تلك كانت آخرَ كلماتها مع والديها.
كان الانطباعُ الأوّل عن قصرِ روتشستر باردًا للغاية.
فقد بدت أجواؤه موحشةً كأنّها خاليةٌ من الحياة.
حتى الخدم لم تكن على وجوههم ابتسامة، وكانوا يتحرّكون بحذرٍ شديد، يتجنّبون أنْ يُلفتوا أنظارَ أسيادهم.
قالت إحدى الخادمات وهي تُشير إلى غرفةٍ فخمة:
“هذه الغرفة ستكونُ من الآن غرفةَ السيّدة الصغيرة. إنْ احتجتِ شيئًا فاسحبي هذا الحبل.”
كانت الغرفة أجمل بكثيرٍ من تلك التي كانت تملكها في بيت والدها، فسيحةً ونظيفةً وتلمع كلّ أركانها.
غير أنّها لم تُشبه أبدًا غرفةَ زوجين.
سألت سيلين بخفوت:
“هل سنستخدم غرفًا منفصلة؟”
فأجابتها الخادمة:
“نعم يا سيدتي الصغيرة. السيّد الصغير يستخدم الطابق العلوي بأكمله بمفرده، ولا يُسمح لكِ بالصعود من دون إذنٍ صريح.”
لم يكن الأمر غريبًا جدًا على سيلين؛ فوالداها أيضًا كانا ينامان في غرفٍ منفصلة منذ صغرها، فاعتادت ذلك.
قالت في نفسها:
‘بل هو أمرٌ مريح، لو كنا في غرفةٍ واحدة لما استطعت النوم من شدّة الارتباك.’
قالت الخادمة قبل أن تغادر:
“لقد أُعدّ العشاء يا سيدتي الصغيرة.”
“آه، انتظري لحظة.”
أسرعت سيلين نحو المرآة تُرتّب شعرها وثوبها، تُفكّر: هل تترك شعرها الأسود الطويل منسدلًا أم تربطه؟
لكنّ الخادمة أضافت بنبرةٍ جامدة:
“ستتناولين العشاء بمفردك.”
توقّفت سيلين في حركتها وسألت مذهولة:
“ماذا؟”
“ليس اليوم فقط، بل في كلّ الأيام المقبلة.”
أنزلت يديها ببطءٍ عن شعرها.
“هل الجميع مشغولون ولا يتناولون العشاء في الوقت نفسه؟ ومتى أُقدّم التحية إذًا؟”
“قالوا إنّه لا داعي للتحية أيضًا.”
غادرت الخادمة، وجلست سيلين على السرير الواسع تحدّق في الفراغ.
‘هناك شيءٌ غريب…’
بدأت تشعر أنّها كانت مخدوعةً بانفعالها الأوّل.
فكلّ شيءٍ في هذا الزواج كان غامضًا منذ البداية.
دخل عرضُ الزواج في الوقتِ نفسه الذي كادت فيه عائلتها تنهار، ما جعلها تُوقن أنّ بين والدتها وقصر روتشستر صفقةً ما.
‘ربما قبلوني فقط بسبب تلك الصفقة.’
لهذا لا يريدون رؤيتي ولا تناول الطعام معي.
ابتسمت بمرارةٍ ثم تمتمت:
“لا بأس… لم أتوقّع الكثير أصلًا.”
كانت تحاول إقناع نفسها أنّ حياتها بدأت للتوّ، وأنّها ستُثبت بمرور الوقت أنّها تستحقّ مكانها بينهم.
فهي لم تكن ممّن يستسلمون بسهولة.
على الأقل… في بداية زواجها.
* * *
مرّ شهرٌ واحد بسرعة.
بدأت سيلين تعتاد على إضافة “روتشستر” إلى اسمها، غير أنّها لم تتعرّف بعد على أيٍّ من أفراد الأسرة.
لم ترَ أحدًا منهم منذ دخلت القصر!
‘هل يمكن أنْ يحدث ذلك فعلًا؟’
كانت تتعمّد البقاء طويلًا في الحديقة، أو تأخذ وقتها أثناء تناول الطعام، على أمل أنْ تُقابل أحدًا.
لكن دون جدوى.
إلى أنْ حدث التغيير ذات ليلةٍ من ليالي الشهر الثاني.
دخلت خادمتها تحمل قارورةَ عطرٍ ورديّة اللون وقالت:
“الكونت أرسلها إليكِ، يا سيدتي الصغيرة.”
“الكونت؟ أبي؟”
“قال إنّها ستُفيدك.”
تأمّلت سيلين القارورة باستغراب، ثم رشّت قليلًا على معصمها.
فاحت رائحةٌ عذبة، زهرية، أقوى من أيّ عطرٍ استخدمته من قبل.
ابتسمت قائلةً:
“أخبريه أنّني شاكرة.”
فقالت الخادمة بعد لحظة:
“كما أنّ السيّد الصغير قد عاد اليوم.”
“حقًّا؟!”
اتّسعت عينا سيلين بفرحٍ كبير.
لم ترَ كاين منذ زواجهما، فقد كان مشغولًا بالعمل خارج القصر.
الآن فقط ستراه من جديد.
هرعت نحو الباب وهي تقول:
“شكرًا لإخباري!”
صعدت الدرج بخطًى سريعة نحو الطابق العلوي.
كانت تتذكّر أنّه من الممنوع الدخول إلى هناك من دون إذن، لكنّها لم تُفكّر كثيرًا.
كلّ ما أرادته هو لقاؤه، فقط رؤيته.
‘بماذا أبدأ الحديث؟ ربما أذكّره بأنّنا التقينا العام الماضي.’
كان قلبها يخفق بقوّة وهي تسير في الممرّ الطويل.
لكن فجأةً شعرت أنّها وطئت شيئًا رطبًا.
“ماء؟”
انحنت لتتأكّد، لكنّ الضوء الخافت لم يسمح لها بالرؤية.
رفعت رأسها… وتجمّدت في مكانها.
كانت هناك فتاةٌ ممدّدةٌ على الأرض بزيّ الخدم، مضرّجةٌ بالدماء.
شهقت سيلين بصدمةٍ كادت تُفقدها صوتها.
أمسكت فمها بكلتا يديها كي لا تصرخ.
وعند رأس الجثّة وقف كاين، يُمسك بسيفٍ تقطر منه الدماء، ونظراته باردة كالجليد.
“من أنتِ؟”
قالها بهدوءٍ مرعبٍ لا يُشبه البشر.
تردّد صدى صوته في الممرّ الخالي، فشعرت سيلين أنّها تُواجه مخلوقًا لا روح فيه.
كانت تلك أوّل مرّةٍ ترى فيها إنسانًا يقتل إنسانًا أمام عينيها.
فارتجف جسدها كلّه.
قال ببرود:
“هل جئتِ أنتِ أيضًا لتغتاليَني مثلها؟”
هزّت رأسها مذعورة، وبدأت تتراجع خطوةً خطوة.
ابتسم بسخريةٍ قاتمة:
“أظنّكِ تظنين أنّكِ ستهربين؟ حسنًا، فلنرَ كم ستصمدين… فالليلةُ طويلة.”
لكن قدميها لم تُطاوعاها.
أيُّ حركةٍ أخرى وستُقطع رقبتها بتلك الشفرة اللامعة.
قالت بصوتٍ مرتجفٍ وهي تُمسك بثوبها:
“أ… أنا سيلين… سيلين روتشستر.”
“روتشستر؟”
“ألَا… تذكرني؟”
قطّب كاين حاجبيه، ثم تمتم بفتور:
“إذن، أنتِ تلك التي قالوا إنّها صارت زوجتي قبل شهر.”
“نعم…”
“ألم تُحذّرك الخادمة من الصعود إلى هنا من دون إذن؟”
“لكِن… قالوا إنّك عدتَ اليوم، وأردت فقط أنْ أراك.”
ضاقت عيناه قليلًا، وأخذ يُمعن النظر فيها.
كانت تنظر إلى الأرض بخجل، في حين انبعث من جسدها عبيرٌ زهريّ قويّ.
ثوبها الخفيف كشف عن تفاصيل جسدها بوضوحٍ خافتٍ تحت الضوء.
‘هل كانت تتصنّع البراءة؟’
فكّر كاين بذلك، وابتسم بسخريةٍ باردة، ثم أسقط سيفه أرضًا وجذبها نحوه بعنف.
صرخت سيلين في ذهولٍ وهي تُسحب دون مقاومة، ثم وجدَت نفسها مُلقاةً على السرير.
انحنى فوقها بعينين جامدتين وقال:
“لا داعي لتمثيلٍ أكثر، فكِلاَنا يعرفُ ما تريدين.”
“تتمثيل؟ لا أفهم ماذا تقصد…”
“ألم تريدي حملي بطفلي؟ هكذا فقط ستضمنين لنفسك مكانًا في هذا القصر.”
أحسّت سيلين بمرارةٍ حادّة في صدرها.
صمَتت طويلًا، ثم همس ببرود:
“احملي الطفل، وبعدها لا أريد أنْ أراكِ هنا مجددًا.”
‘طفل؟ الآن؟’
كانت تحلم أنْ تُنجب منه يومًا ما حين يقرّب بينهما الحبّ، لا بهذه الطريقة.
لكنها أدركت أنّ الهرب مستحيل.
إنْ حاولت، فستلقى مصيرَ تلك الخادمة البريئة.
كانت تلك الخادمة لطيفةً معها دومًا، ولا يُعقل أنّها حاولت قتل كاين.
لابدّ أنّ ثمّة خطأً ما.
أغمضت سيلين عينيها، ودموعها تنساب على وجنتيها.
امتزج عبيرُ العطر برائحة الدم المعدنية الثقيلة، فصار المشهدُ كابوسًا لا يُحتمل.
كانت تلك الليلةَ الأسوأ في حياتها،
ليلةً لم يبقَ فيها من شعورِ الحبّ الأوّل سوى ألمٌ عميقٌ ووحشةٌ لا تُحتمل.
التعليقات لهذا الفصل " 101"