.:
الفصل 100
عندما تُروى مثل هذه القِصص، غالبًا ما تكون ردود الفعل متشابهة:
“يا له من أمر جميل! يبدو أنّ البارون والبارونة يُحبّان ابنتهما كثيرًا!”
الناس كانوا يظنّون أنّ سيلين، وإن كان جسدها ضعيفًا، فقد نشأت مدلّلة بين والديها، تنال منهما ما يكفي من الحنان والعناية.
لكنّ الفتاة لم تستطع يومًا أن تُنكر أو تُصحّح تلك الفكرة علنًا، فكانت تكتفي بابتسامةٍ مُرتبكةٍ كلّما سُمِع مثل هذا الحديث.
‘في الحقيقة… ليس الأمر كذلك أبداً.’
لم يكن سبب بقاء سيلين في المنزل هو منع والديها لها من الخروج، بل الخوفُ الراسخُ في أعماقها منذ تلك الحادثة القديمة.
حين كانت طفلة صغيرة خرجت خلسةً من البيت، فسقطت في الطريق مغشيًّا عليها، وعندما رآها والدَاها بعد ذلك، كان في عيونهما شيءٌ ما كسر قلبها إلى الأبد.
قال والدها آنذاك:
“لقد جلبتِ لنا العار، لم أعد أستطيع رفع رأسي بين الناس!”
أمّا والدتها فلم تنطق بكلمة، واكتفت بزفرةٍ طويلةٍ موجعة.
سقطت ابنتهم المريضة في الطريق، ومع ذلك لم يُبْدِ أيٌّ منهما قلقًا أو حنانًا، بل طعناها بكلماتٍ جارحةٍ كالسكاكين.
لقد تعبا من طفلةٍ لا تشفى رغم الأطباء المشهورين والأدوية الثمينة التي أُنفقت عليها.
ومنذ ذلك اليوم، لم يعُد أحد يمنع سيلين من الخروج، بل هي التي منعت نفسها.
كانت ترغب في الخروج، لكنّها لم تُرد أن ترى مجددًا تلك النظرة التي تُعاملها كعبءٍ ثقيلٍ على كاهل والديها.
“آنستي، حان وقت الدواء.”
“…شكرًا.”
بعد الغداء بنصف ساعةٍ تمامًا، كانت الخادمة تُحضِر لها الدواء المغلي.
ومنذ أن بلغت سنّ الوعي، أصبح شربُ الدواء بعد كلّ وجبة عادةً يوميّة لا تتخلّف.
لكنّها، رغم ذلك، لم تُصبح أكثر صحّة.
صارت الأمراض البسيطة تقلّ، لكنّها إن مرضت مرّةً واحدةً، فإنّها لا تشفى بسهولة.
طعمُ الدواء كان مُرًّا كالعَلْقم.
وفيما كانت تَعبس وهي تتجرّعه، وقعت عيناها على عربةٍ مألوفةٍ تقف خارج النافذة، فشهقت وفتحتها على عجل:
“الأستاذة إيلينور!”
إيلينور ويفريد، مُدرّستها الخصوصيّة منذ خمس سنوات، وأستاذةٌ في أكاديميّة كليرفور.
ركضت سيلين إلى الطابق الأول، واستقبلتها بعناقٍ حار.
“مرحبًا، سيلين. سمعتُ أنّكِ مريضة. هل أنتِ بخير الآن؟”
“نعم، لا بأس. المرض يزورني يومًا أو يومين، ليس بالأمر الغريب.”
“الحمد لله على سلامتكِ. إذن، لنراجع نتيجة اختبارك الأخير معًا؟”
أخرجت إيلينور ورقةَ الاختبار المُصحّحة من حقيبتها.
كان مستوى الأسئلة بمستوى التعليم العالي في الأكاديميّة، لكن سيلين كالعادة حصلت على العلامة الكاملة.
كانت سيلين طالبةً مُجتهدة بالفطرة، لا تدرس كثيرًا، لكنّ نتائجها دائمًا مُبهِرة.
كانت توصفُ بكلمةٍ واحدة: موهوبة.
لكن ما الفائدة؟ لا أحد يعلم شيئًا عن ذكائها أو نبوغها.
إيلينور التي كانت تشعر بالأسى لذلك، أخرجت ورقةً أخرى وقدّمتها لها.
كانت “رسالة توصية للالتحاق بأكاديميّة كليرفور”.
“سيلين، ما رأيكِ بالالتحاق بالأكاديميّة؟”
“ماذا؟ أنا؟!”
تفاجأت سيلين بشدّة.
هي؟ إلى الأكاديميّة؟
لم يكن بوسعها إلا أن تتخيّل أنّها ستسبّب المتاعب للآخرين.
قالت المعلمة بابتسامةٍ هادئة:
“خلال خمس سنواتٍ علّمتُكِ كلّ ما أعلمه. لكن ألا تشعرين أنّ أمامكِ المزيد لتتعلميه؟”
“أنا… لا أعلم.”
لم تكن سيلين تُحبّ الدراسة بحدّ ذاتها، لكنّها كانت تُحبّ ذلك الشعور الغريب حين تملأ المعرفة فراغ روحها.
لن يفهم أحدٌ ذلك أبدًا. أن تدرس لتملأ فراغًا داخلك، لا طموحًا ولا رغبةً.
“لكنّني إن خرجتُ… سأُصبح عبئًا. ووالداي لن يرضيا أبدًا…”
“دعيني أتولّى الأمر. فقط قولي لي إن كنتِ ترغبين أم لا. الباقي سأهتم به أنا.”
ارتجف قلب سيلين. كانت كلمات أستاذتها مليئةً بالعطف والإيمان بها.
عندها أدركت أنّها تقف أمام أول مفترق طرقٍ في حياتها.
ربّما لن تتاح لها فرصةٌ أخرى للخروج من هذا المنزل.
فمدّت يدها وأمسكت بيد إيلينور بقوّة.
“أستاذة… أريد الالتحاق بالأكاديميّة.”
قضت إيلينور أسبوعًا كاملًا تُحاول إقناع والديها.
قالا إنّ الأكاديميّة للأولاد الذين يبدؤون من الثامنة ويتخرّجون في السادسة عشرة، فما الجدوى من ذهابها الآن؟
ومن سيتحمّل فتاةً تسقط في كلّ حين؟
حين كانت سيلين تسمع كلمات أبيها القاسية تتسرّب من بين باب مكتبه، كانت تبتسم بمرارة.
‘فلأترك فكرة الأكاديميّة. أنا لستُ مؤهّلة لأيّ شيء.’
كانت على وشك الاستسلام، لكن إيلينور لم تكن من الذين يستسلمون.
“أنا أتحمّل مسؤولية سيلين. وإن لم تُحقّق أيَّ نجاحٍ في الأكاديميّة، فسأُعيد لكم كلَّ راتبي الذي تقاضيته خلال خمس سنوات.”
لم تُدرِ سيلين ما الذي حرّك قلب أبيها أكثر، وعدها بتحمّل المسؤولية أم المال الذي ستُعيده؟
لكن المهم أنّه في النهاية قال ببرود:
“…افعلي ما تشائين.”
وهكذا، التحقت سيلين بالأكاديميّة في الخامسة عشرة من عمرها، وهو سنٌّ متأخّر، ومع ذلك حصدت المراتب العليا في كلّ عام.
وانتشر الكلام بأنّها ستكون خليفة أستاذتها إيلينور ويفريد في التدريس هناك.
* * *
في الثامنة عشرة من عمرها، وقفت سيلين أمام المرآة بعد أن تزيّنت لأوّل مرّةٍ في حياتها.
شعرٌ أسود مرفوعٌ بعناية، مساحيقُ تُخفي وجهها الطبيعيّ، وثوبٌ ضيّقٌ يُقيد حركتها.
كلّ شيءٍ بدا غريبًا عنها.
“سيلين، إن كنتِ جاهزة فانزلي حالًا!”
نادتها أمّها من الطابق الأول.
أمسكت سيلين بطرف فستانها ونزلت على عجل.
رمقها والداها بنظراتٍ ممتعضةٍ من أعلى إلى أسفل.
“مهما حدث اليوم، لا تجرئي على السقوط أمام الناس. ولا تتحدثي كثيرًا. وإن لم تعرفي ماذا تقولي، فاكتفي بالابتسام.”
“…نعم، يا أمّي.”
كان اليوم أوّل ظهورٍ رسميٍّ لسيلين في المجتمع المخمليّ.
طوال السنوات السابقة لم تُشارك بسبب مرضها، لكنّ الوقت حان لعرضها أمام الخطّاب.
اعتلت سيلين العربة بوجهٍ كئيب. كانت الحفلة في قصر آل روتشستر، إن لم تخطئ السمع.
‘يا للإنهاك…’
لم يهمّها من سيحضر، ولم ترغب في الحضور أصلًا.
فهي لم تفكّر يومًا بالزواج.
‘هل يمكنني أصلًا أن أتزوّج؟’
كانت تُفكّر كثيرًا في معنى “الحبّ” مؤخرًا.
في الأكاديميّة، كان هناك مكانٌ أسطوريّ: مدخل نفق الورود في الحديقة المركزيّة.
يقال إنّ من يسير فيه مع من يُحبّ ويعترف له، يتحقّق حبّه.
خلال أسبوعٍ واحد، تلقت سيلين عشر اعترافاتٍ هناك… ورفضتها كلّها.
حتى إنّ الناس قالوا إنّ أسطورة نفق الورود لم تعُد تعمل بسببها.
‘ما هذا الذي يسمّى حبًّا؟’
كانت تتذكّر عيون الذين اعترفوا لها.
تلك النظرات المتلألئة مثل الجواهر.
فهمت يومها أنّ عيون العاشق جميلة.
لكن حين رأت انعكاس عينيها في زجاج العربة، وجدتهما باهتتين كجوهرةٍ مكسورة.
دخلت قاعة الحفل وهي تُخفي اضطرابها.
“ابتسمي.”
قالت أمّها، فابتسمت سيلين قسرًا.
كانت ابتسامةً مُرتعشةً كابتسامة دمية.
“الآنسة سيلين غريويل، ابنة البارون غريويل!”
أضواء القاعة أبهرتها، وراحت تُحيّي أشخاصًا لا تعرف أسماءهم ولا وجوههم.
شعرت بنظراتٍ فاحصةٍ تسري فوق جسدها، لكنها كتمت امتعاضها.
الجميع كان يُقيّمها، كما لو كانت بضاعةً تُعرض للبيع.
ومع أنّها لم تعرف يومًا العالم الخارجيّ، إلا أنّها فهمت الإهانة.
وحين لم تعُد تتحمّل، تمتمت بحجّة المرض وغادرت القاعة بهدوء.
سارت بلا وجهة، فقط لتبتعد عن تلك الوجوه.
‘خائفة… خائفة… خائفة…’
لم يكن في تلك القاعة أحدٌ يراها على أنّها “سيلين” فقط، وهذا ما أخافها وأحزنها في آن.
تعثّرت بكعبها العالي وسقطت أرضًا، واصطدم وجهها بالأرض بشدّة.
‘إلى متى سأعيش هكذا؟’
ظنّت أنّ دخولها الأكاديميّة سيملأ فراغها، وأنّ تفوّقها سيجعل والديها يُحبّانها، لكنّ شيئًا لم يتغيّر.
ما زال قلبها فارغًا، ووالداها بعيدين عنها كالسابق.
نهضت بصعوبة، وإذا بخطواتٍ تقترب منها وصوتٍ منخفضٍ عميقٍ يقول:
“هل أنتِ بخير؟”
رفعت رأسها فرأت رجلًا ذا شعرٍ أشقرَ فاتحٍ وعينين تومضان بحُمرةٍ غامضةٍ ساحرة.
توقّف الزمن لوهلة.
مدّ يده المُغطّاة بالقفّاز نحوها.
أمسكتها سيلين بخفّةٍ، فساعدها على الوقوف.
خفق قلبها بعنفٍ، كأنّه يُريد أن يخرج من صدرها، ودوّى في رأسها صوتٌ كالرنين.
عيناها الذهبيّتان أشرقتا بوميضٍ ناعم.
حين تتذكّر ذلك اليوم، تُدرِك أنّها شعرت بـ”القدر”.
لقد وقعت في الحبّ من النظرة الأولى.
بـ”كاين روتشستر”.
* * *
في التاسعة عشرة من عمرها، أفلست عائلة غريويل.
كان والدها قد خسر نصف ثروته في القمار، وحين تراكمت الديون، باع الأثاث وصرف الخدم.
صار القصر خاليًا كقوقعةٍ فارغة.
الأب سكير، والأمّ حبيسة غرفتها.
وفي يومٍ من تلك الأيام البائسة، عادت أمّها من الخارج تحمل ظرفًا مختومًا بخاتم آل روتشستر.
“تهيّئي، ستذهبين إلى قصر آل روتشستر.”
“…ماذا؟”
لم يطل الوقت حتى فهمت سيلين أنّ محتوى الرسالة هو “عرضُ زواج” من ابن آل روتشستر.
التعليقات لهذا الفصل " 100"