كانت الجملة الدافئة التي كتبها تتناقض تمامًا مع ملامحه الباردة.
ربما لو رآها الآخرون لما شعروا بأيَ حرارةٍ فيها،
لكن رنايا… شعرت بها بوضوحٍ.
“……هل من المفترض قولُ مثل هذهِ الأمور؟”
“……؟”
“كنتُ أظن أنّك لا تحب الحديث عن نفسكَ.”
[بما أنّكِ أخبرتِني، فاعتبريهٍ مقابل ذلك.]
خيانة، إذًا… الآن أفهم لماذا بدا حادًّا بذلك الشكل.
لم يكن إنسانًا سيئًا، بل فقط أصبح حادًّا بسبب كثرة ما تلقّاه من جراحٍ..
يكفي أنه قدّم لي المواساة، وهذا وحده يكفي لأدركَ داخلهُ أطيبُ ما يكونَ.
بفضل كلماته، هدأت زوبعة المشاعر المضطربة داخلها.
وقفت رنايا من مكانها، وأخذت شهيقًا عميقًا.
بعد المطر، كانت رائحةُ العشبِ والترابِ أكثر كثافةً ورطوبة من المعتاد.
“هل لدى هير شيء يُحبّه؟ سواء كان شيئًا أو مكانًا أو حتى شخصًا.”
“…….”
“بالنسبةُ لي أنا… فلي الكثيرُ. بل رُبما أكثرُ من أنَ أعدّه.
أنا أحب هذه الأرض التي أقفُ عليها،
وأحب السماء الصافية التي تظهرُ فَيها النجومُ بوضوح،
وأحب هذا الريفِ الصغيرَ والعادَي،
وأحب الأشخاص الذين من حولي.”
نظر إليها هيرديان وكأنّه لا يفهم لمَ تقولَ هذا الآن.
لكن رنايا، وقد كان ضوء القمر خلف ظهرها، ابتسمتَ له ابتسامة صافيةً ومشاكسةً.
ولدهشته، شعر بأنفاسه تُحبس في صدره من تلقاء نفسه.
“ومن الآن فصاعدًا، سأُدرج اسمك أيضًا في قائمة الأشيَاء التي أحبّها.”
فجأة، تذكّرت اللحظة التي تمسّكت فيها بيد سيلين قبل ست سنوات حين كانت على سيلين وشكِ الرحيل.
رغم أنّ الطريق الأسهَل كان واضحًا أمامي،
إلّا أنني تعمّدت اختيار الطريقَ الأصعب.
لم أستطع تجاهل من يحتاجُ إلى المساعدةٌ.
كما لم أحبّ أن أضع مسافة بيني وبين من لم يؤذني.
قد يعتبر البعَض ذلك تصرّفًا غبيًّا…
لكن هذه أنا، ولا أستطيع أن أتصرّف بغير هذا الشكل.
“بإمكانك أن تثقَ بي.
الفلاحون لا يُجيدون الكذب، كما تعلَم.”
حسنًا… فليكن إنسانًا غريبًا أو مشبوهًا، لا يهمّ.
طالما أنه ليس شخصًا سيئًا، فهذا يكفيني.
لكن المطر لم يتوقّف إلا لبرهةٍ قصيرة.
فبمجرّد أن غطّت الغيوم القمر، انهمرت الأمطار الغزيرة مجددًا.
أمسك هيرديان بمعصم رنايا بسرعةٍ، وسحبها نحو المخزن.
“مـ-مهلًا…!”
وبينما كانت تُساق على عجل، وصلت معه إلى المخزن وهي تلهث.
رغم أنّ جراحه قد شُفيت إلى حدّ كبير، إلّا أنّ خطواتهُ السريعة أدهَشتها.
شعرها البنيّ المبلّل التصق بخدّها،
فقطّبت جبينها من الانزعاجِ.
حينها، وضع فوق رأسها قطعة قماَش نظيفةً.
“أنا بخير، لذا أنت مَن عليه أن يتنشّف أوّلًا.
ماذا إن أصابكَ البرد؟”
كانت رنايا تملك مناعة قوية،
حتى في عزّ الشتاء لم تكن تُصاب بالزكامِ،
لذلك كانت واثقة من قدرتها على التحمّلِ،
ومدّت إليه قطعة القماش ليَستخدمها بدلاً منها.
لكنّه تجاهلها وأدار ظهرهُ،
فلم تجد بدًّا من أن تجفّف نفسها أولًا.
كلما عرفتُه أكثر، زادت دهشَتها.
باستثناء تهديده بالسيف يوم لقائهما الأوّل،
كان يتصرّف دائمًا بلُطف واحترام، وكأنّ ذلك جزءٌ من طبيعته.
وحين أنهت تجفيَف نفسها، ناولها ورقة كُتب فيها بخط جميل:
[ناديني براحةٍ.]
“……تقصد أن أناديك ‘هير’ فقط؟
هل هذا مناسب؟”
[ولِمَ لا يكون كذلك؟]
“كنت أظنّك صارمًا في هذه الأمور…
لكن فجأةً أصبحت مرنًا؟”
ربما الحديث بينهما خفّف من حذره…
تأمّلته رنايا بابتسامة،
وشعرت بأنّه يطلب منها أن تقترب أكثر.
فكّرت بخفة: هل من الممكن أنّه يرغَب بأن نصبحَ أقرب؟
ضحكت خفية، ثم قالت:
“حسنًا، سأُناديكَ براحةٍ.
وأنت أيضًا، نادِني براحة.
قُل فقط: رنايا.”
أومأ هيرديان برأسه بابتسامة خفيفة.
كانت تلك أوّل مرة تراه فيها يبدو مرتاحًا وغير متألم.
فكّرت أنّه من حسن حظّها أن ترى تلكَ الابتسامةَ قبل أن يرحل.
مرّت بضعة أيّام،
وكانت جراح هيرديان قد تعافت بالكاملِ تقريبًا.
قامت رنايا بتحضير قدر ضخم من الأعشاب المفيدة لتعافي الجسم،
استخدمت فيه أجود الأنواع، وحرصت على ألا تحترق أثناء الغليان.
كانت تُمسك المغرفة بكلتا يديها وتقلبَ المزيجَ بعنايةْ حين..
“رنايا!”
صوت السيدة لوسن العالي تردّد خلف الباَب وهي تطرقهُ بقوّة.
كان صوتها مُستعجلًا، فهرعت رنايا للخارجِ.
“ما الأمر، خالة؟”
“النبيل الحاكمُ في طريقه إلى القرية!
أسرعي واستعدّي، العمدة ونائبه ينتظرانهُ عند المدخل بالفعل.”
“……السيد؟ لماذا يأتيَ فجأة؟”
“لا أعلم، لكن وجه العمدة كان متجهّمًا جدًا.
أسرعي يا ابنتي واذهبي!”
قالت ذلك وهرعت لتنبيه بقيّة أهل القرية.
عادت رنايا إلى المطبخ تنظر إلى القدر الذي يغلي.
كانت في مزاج جيّد قبل لحظات، لكنّه انقلب رأسًا على عقب.
شعرت بقلقٍ لا تفسير له.
عند مدخل قرية لوكلير، بدأ الناس يتجمّعون بعد أن وصلهم الخبر.
وجوههم كانت ممتلئةً بالحيرة والقلق.
انضمّت رنايا أخيرًا، وانحنت أمام شيوخ القرية،
ثم اقتربت من جدّتها.
“جدّتي.”
“أوه، رنايا. لقد وصلتِ.”
“ما الذي يجري؟
سمعت أنّ الحاكم قادم فجأة…”
كانت قد رأته مرة واحدة فقطَ في طفولتها، من بعيد.
مرّ مرور الكرام من أجل تفقد الأرض، ولم ترَ منه غير عينيه.
الحكّام نوعان:
من يديرون الأراضي بأنفسهم،
ومن لا يكترثون بشيء سوى جمع الضرائب.
وحاكم لوكلير… كان من النوع الثاني.
“سأشرح لاحقًا، فقط التزمي الهدوَء.”
أومأت رنايا وتراجعت.
تفقّدت الحشد، فلم ترَ سيلين ولا ليليا.
هل بقيتا في البيت؟
في تلك اللحظة، دوّى صوت حوافر وخشخشة عجلات العربة.
دخلت عربة فاخرة إلى القرية،
فانحنى الجميع بعمق.
حتى رنايا، رغم ترددها، انحنت معهم.
“مرحبًا بقدومكَ، سيدي الحاكم.
نتمنّى أن لم يكن الطريق متعبًا.”
ردّ الحاكم بإيماءةٍ كسولة فقط.
رفعت رنايا رأسها قليلًا لتتفحّصه.
رأسٌ أصلع، بطنٌ بارز، وعرقٌ يتصبّب.
كان مشهدًا يُثير الشفقة.
قطّبت حاجبيها وأعادت رأسَها للأسفل.
بدا مشابهًا قليلًا للحاكم السابق الذي سمعت أنه مات بالمرضِ،
ويبدو أنّ هذا هو ابنه.
ما كان اسمه؟ كان فيه كلمة “بال” أو شيء كهذا؟
حاولت أن تتذكّر، رغم أنّ اسمه ليس له قيمة تُذكر.
“سنقودكَ لمكان تستريحَ فيهِ يا سيدي.”
“لا داعي.
لا أظنّ أنّ في هذه القرية القديمة ما يستَحقّ أن أرتاح فيه.”
سخر الحاكم بازدراءٍ.
نعم… القرية قديمةٌ ومتواضعةٌ.
لكن أن يتحدث بهذا الشكل من لا يسكنها؟
كان ذلك مستفزًا جدًا لرنايا.
“قيل لي إنّ والدي كان يولي هذه القرية اهتمامًا كبيرًا.”
“……نعم، لقد كان سيّدي الراحل يهتمّ بقريتنا.
ولهذا، نحن –سكان القرية– ممتنّون له دومًا.”
قال العمدة كلمات مجاملةٍ لم يقصدها.
شعرت رنايا برغبةٍ في الضحك.
أيّ اهتمام؟
حتى حين ضربَهم الجفاف أو اجتاحَتهم العواصف،
لم يلتفت إليهم سيد هذه الأرضِ قط.
بالنسبة له، قرية لوكلير كانت مجرد نملٍ يدفعُ الضرائَب لا أكثر.
“سِيِّدي جيربال.”
اقتربَ أحدُ التّباع، بعد أن راقبَ الأجواءَ حوله، وهمسَ في أُذن البارون.
جيربال. وما إن سمعت رنايا ذلك الاسَم حتّى استعادَت في ذهنها الاسمَ الكاملَ للحاكم.
‘البارونُ جيربال إفردين.’
في الرّواية، بعد أن يكتشفَ البطلُ مدى بؤس القرية التي تسكنُها سيلين،
يتوجّه إلى الحاكم ويبرحُه ضربًا حتّى شفا حافّة الموت، من دون أن يجرؤ الأخير على أدنى مقاومة.
ذلك الحاكمُ لم يكن سوى جيربال.
ربّما كان من المفترض أن يثير المشهدُ شفقةً، لكنّ خِسّة جيربال جعلت رؤيةَ ضربه مُفرِحةً على نحوٍ غريب.
كتمت رنايا غضبَها وهي تستحضر صورةَ جيربال في المستقبل وهو يتلقّى تلك الضربات.
في تلك اللحظة، تغيّرت ملامحُ جيربال فجأةً بعد أن همس له تابِعُه بشيء، وأخذ يُطيل النّظرَ في وجوهِ القرويّين كمن يبحثُ عن أحدٍ ما.
“……سيِّدي البارون؟”
“همم… أفي هذه القريةِ رجلٌ ذو شَعرٍ أشقرٍ؟”
✧───── ⋆⋅☆⋅⋆ ─────✧
ستجدون الفصول دومًا متقدمةً لهذهِ الرواية في واتباد وقناة الملفات،
حَسابي واتباد : _1Mariana1
( حسابي السابق قد حُذف)
وستجدون إعلانات تنزيل الفصول قبل هيزو في الرابط المثبت أول التعليق ~ ❀
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات. هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات. هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
يرجى إدخال اسم المستخدم أو عنوان بريدك الإلكتروني. سيصلك رابط لإنشاء كلمة مرور جديدة عبر البريد الإلكتروني.
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات لهذا الفصل " 10"