بمجرد أن هدأت آثار الحرب، صعد التجار الذين جمعوا الثروات إلى طبقة الجنتري، بل إن بعضهم اشترى ألقاب النبلاء.
بفعل هذا التأثير، بدأ حتى النبلاء في إنشاء شركات تجارية تحت أسماء مستعارة والدخول في مشاريع جديدة، وهكذا بدأ عصر جديد يتنافس فيه الجميع بجنون لجني الأموال.
“أخـ، أخيرًا وصل زبون.”
كان تصميم الشعار يوحي بتنين شرس ينفث النار، أما ورق الجدران المزخرف برموز الجماجم في كل زاوية وركن، وأرضية الرخام المصبوغة بلون أحمر قانٍ كأنها مغمورة بالدماء، فكلها تفاصيل كفيلة بأن تفقد أي شخص شهيته..
‘لكن هذا هو المكان الذي سيعيد شحن قلبي المانوي المستنزف!’
الخطوة الأولى للحصول على المانا!
حاولت التصرّف بأكبر قدر ممكن من الطبيعية، ثم أشرت إلى إعلان التوظيف المُلصق عند الباب وقدمت اقتراحًا..
“لستُ زبونة، لقد جئتُ بخصوص إعلان التوظيف. هل ما زلتم تبحثون عن موظفين؟”
“في الواقع، لم يكن هناك متقدّمون، فتخلّينا عن الفكرة تمامًا.”
…بالطبع. من قد يرغب في العمل بمطعم كئيب كهذا؟
“أنا أرغب في العمل هنا.”
أنا بالذات.
“همم، كما ترين، لسنا بحاجة إلى يد عاملة إضافية في الوقت الحالي. ثم إن أجواء مطعمنا ليست مناسبة لفتاة نبيلة ضعيفة لم تمر بمحن الحياة.”
فتاة نبيلة ضعيفة لم تمر بمحن الحياة؟
أنا؟
كتمتُ سخريتي بصعوبة، لكن بما أنه بدا مترددًا في توظيفي، قررت اتخاذ خطوة جريئة وقلت:
“لن أطلب أجرًا.”
“……؟”
“فقط جربني. ساعة واحدة لا أكثر.”
***
كان دوق كالينوس يسير في شارع روستري حيث يقع الفرع التجاري لعائلته، برفقة مستشاره..
“يا صاحب السعادة، هذا هو شارع روستري، حيث يقع المطعم المموَّل مباشرةً من رابطة كالينوس التجارية.”
بالنسبة إلى عائلة متخصصة في تقطيع الوحوش والتعامل مع السحر، ودراسة جرعات علاج الجروح، كان دخولهم مجال التجارة أمرًا ذا مغزى..
“آه، يا صاحب السعادة، لديّ تقرير مهم جدًا. إنها قائمة بمرشحات الزواج التي أرسلها الدوق السابق غارنو من القارة الشرقية قبل بضعة أشهر.”
“أخبرهم أن يمزقوها كلها.”
“لكن، كما تعلم، الدوق السابق لن يستسلم أبدًا، لا وألف لا! إنه مصمم هذه المرة على تزويجك مهما كلف الأمر!”
رفع الدوق يده إلى صدغه متعبًا وقال:
“طلبتُ منكِ جمع معلومات عن تلك المرأة صاحبة فستان القمامة.”
“آه، نعم. في الواقع، هذا هو السبب في أننا جئنا إلى هذا الشارع. تلقينا تقريرًا بأن تلك السيدة كانت هنا…”
وفجأة، مرّ بهم صوت مبهج بسرعة..
“تفضلوا بتذوّق هذا الخبز اللذيذ!”
وبطريقة غريزية، أخذ المستشار قطعة خبز.
قضم منها قليلاً ثم أمال رأسه بتعجب.
“أوه، تلك السيدة التي توزع الخبز… أليست مألوفة؟”
“… لا يُعقل.”
راقب الدوق تعابير وجهه للحظة، ثم عاد لمتابعة طريقه.
وبعد عشرين دقيقة…
كان دوق كالينوس ومستشاره لا يزالان يسيران في الشارع.
“مستشار.”
“نعم؟ اسمي بيترسون.”
“حسنًا، بيتر… عندما تلقيتُ التقرير، قيل لي إن ذلك المطعم كان فارغًا تمامًا، أليس كذلك؟”
تبع المستشار نظره بذهول..
“هاه؟ لماذا هو مزدحم فجأة؟”
تمت إزالة الجدران الحمراء التي كانت تحيط بواجهة المطعم وتمنحه هالة قاتمة تتناسب مع اسم عائلة كالينوس.
ومن خلال النوافذ الشفافة، أمكن رؤية الصحون النظيفة والمناديل المرتبة بعناية..
لم يكن هناك ما يُنتقد من ناحية النظافة، لكن المفاجأة الأكبر كانت في المرأة بالداخل..
خرجت إلى باب المطعم، وبدأت بإيقاف المارة بشكل عشوائي وهي تلوّح بتذاكر بين يديها.
“يا إلهي! تهانينا، أيها الزبون! لقد فزتَ بتذكرة تتيح لك تناول العشاء مقابل 0.99 ذهب فقط!”
“ماذا؟! ظننتُ أن هذا المكان غالي جدًا! كنتُ أعتقد أن الأسعار تتجاوز قطعة ذهب على الأقل!”
“مستحيل! تفضل بالدخول!”
هل هذه هي المرة الأولى التي يواجه فيها العملاء أسلوبًا تسويقيًا عدوانيًا كهذا؟
انجذب الناس إلى المطعم كما لو أنهم فئران تتبع عزف مزمار سحري..
شعر بيترسون دون وعي أن قدميه تتحركان نحو المطعم، لكنه استعاد تركيزه في اللحظة الأخيرة..
“لكن لحظة… ألا تبدو تلك الموظفة مألوفة؟”
“…بالطبع.”
“هـ، هاه؟!”
اسمها جيزيل فلوريت.
رآها في الصباح في حفل اجتماعي للنبيلات، والآن في المساء تعمل كموظفة بدوام جزئي مثل عامة الشعب؟
ليس هذا فحسب، بل تؤدي دورها باحترافية تامة..
‘من تكون هذه المرأة؟’
كانت جيزيل تبتسم ابتسامة مشرقة وهي تتجه نحو المطبخ المفتوح، الذي يمكن رؤيته بوضوح من الشارع..
“أوه، أيها الصغير! هل تريد رؤية عرض ناري؟”
اشتعلت ألسنة اللهب فجأة في المقلاة التي أمسكت بها، وارتفعت ألسنة اللهب في الهواء.
اتسعت عينا الأطفال المتجمهرين حولها باندهاش.
جيزيل لم تكتفِ بمهارات البيع… بل كانت حتى تتقن فن الطبخ الاستعراضي!
حتى دوق كالينوس –رجل شهد أهوال الحروب ومختلف أنواع المصاعب– وجد المشهد نادرًا للغاية..
أحد الأطفال أخرج لسانه قليلاً وهمس متلعثمًا…
“عرض النار هذا سخيف!”
“حقًا؟ إذن، سأؤدي لك عرضًا في التلاعب بالأشياء! أعمل على رضا العملاء!”
أمسكت جيزيل بثلاث كؤوس زجاجية وأخذت تديرها برشاقة في الهواء كما لو كانت كرات..
مزيجٌ من الخفة والمهارة جعل الجميع في الشارع غير قادرين على إبعاد أنظارهم عن هذا الاستعراض الساحر.
لأول مرة في حياته، وجد دوق كالينوس نفسه متأثرًا بطاقة شخص آخر لدرجة أنه تراجع خطوة إلى الوراء..
“سـ، سيدي؟”
“إنها حقًا… مذهلة بشكل لا يُصدق.”
“عفوًا؟”
حدّق في جيزيل وكأنه يحفر صورتها في ذاكرته، ثم همس بصوت منخفض..
“هناك ما يجب علينا الاستعداد له. تحرك.”
استدار بخطوات هادئة، دون أن ينبس ببنت شفة.
أما المستشار بيترسون، الذي ظل يحدق في ظهره بذهول، فقد خطرت بباله فكرة غريبة..
‘ما به؟ كأنه وقع في الحب من النظرة الأولى!’
وفور أن فكّر في ذلك، قفز مرعوبًا.
‘مستحيل! الدوق كالينوس يقع في حب شخص؟ لا، بل سيدة؟ هذه أغرب مزحة سمعتها في حياتي!’
***
“المـ، المبيعات ارتفعت بمقدار 200 ضعف…!”
نظر صاحب المطعم إلى الأرقام بفكٍّ يكاد يسقط على الأرض، بينما اكتفيتُ بابتسامة هادئة..
‘بعد أن أمضيتُ أكثر من عشر سنوات في العمل مثل الكلب منذ مراهقتي لسداد ديون العائلة وقروض الدراسة… هذا مجرد لعب أطفال.’
“سأدفع لكِ أجرًا مضاعفًا 200 مرة! آه… آه يا إلهي!”
“20′ ضعف؟ لموظفة مؤقتة؟ لقد جُنَّ هذا الرجل! ليس غريبًا أن يكون المطعم شبه مهجور.’
يبدو أنه مثالي تمامًا لدور المدير الساذج الذي سيدمّر تجارته بنفسه.
“لا داعي لذلك.”
ألقيتُ نظرة خاطفة على المخزن الذي كان يُستخدم لتخزين القمامة مؤقتًا..
‘ما أريده حقًا هو تلك الجرعات السحرية المهملة هناك.’
عائلة كالينوس، أسياد السحر والدماء..
بما أن أراضيهم تقع على حدود أراضي الوحوش، فقد أصبح من المعتاد لهم التعامل مباشرة مع هذه المخلوقات.
بفضل ذلك، تطوّرت لديهم تقنيات متقدمة في صناعة الأسلحة والدروع والجرعات السحرية.
لكنهم كانوا يعانون من أسوأ ذوق في التسمية وأفشل استراتيجيات التسويق.
لذلك، بينما كانت أسلحتهم تُباع بشكل غير رسمي بسبب شهرتها، لم يكن أحد يعرف حتى أين تُباع جرعاتهم السحرية.
‘ووفقًا لأحداث القصة الأصلية، هناك كمية من الجرعات السحرية المهملة في هذا المخزن.’
لكن من المشبوه أن تأتي فتاة فجأة وتطلب الحصول على جرعات ملقاة في المخزن..
لهذا السبب، كنتُ أضع خطة مسبقة لجعل طلبي يبدو بريئًا.
“أوه؟ هناك جرعات غريبة في الداخل!”
“آه، تلك؟ كنا سنرميها. لماذا؟ مهتمة بها؟”
“ليس تمامًا، لكن الزجاجات تبدو جميلة جدًا، وكأنها فاخرة.”
تظاهرتُ بالتحديق في الزجاجات مرارًا وتكرارًا بانبهار مصطنع، فظن صاحب المطعم أنني مغرمة بالشكل الفاخر للزجاجات أكثر من محتواها..
‘حسنًا، تصرفاتي قد تبدو مريبة بعض الشيء، لكنني ضمنتُ إخضاعه بفكرة دفع 200 ضعف كأجر لي.’
“إذن، اجعل أجر عملي يشمل تلك الجرعات في المخزن.”
“همم؟ حسنًا، صحيح أن الزجاجات جميلة… حسنًا، خذيها. سأكون ممتنًا إذا تخلّصتِ منها بدلاً مني!”
***
‘آه، هذا هو الشعور الذي أبحث عنه.’
في زقاق مظلم.
بعد التأكد من عدم وجود أحد، فتحتُ عشر زجاجات جرعات وسكبتُ محتوياتها جميعًا دفعة واحدة في حلقي..
‘طعمه مثل مياه الصرف الصحي ممزوجة بعصير الملفوف العضوي… أسوأ من طعم القمامة!’
جرعة “مخلب التنين”، التي طورتها عائلة كالينوس، كانت تعمل على تحفيز إمكانيات المانا الخاملة داخل الجسد.
تمت تجربتها في البداية من قبل بعض سحرة العائلة، ثم تم تطويرها إلى منتج للاستخدام العام، لكنها باءت بالفشل بسبب سوء التسويق وتم إهمالها..
‘أخيرًا أشعر بتدفق المانا في داخلي!’
التعليقات لهذا الفصل " 5"