لم يكن فينتين يعرف ما إذا كان قد شاهد الأوبرا بعينيه أم سمعها بأذنيه.
كما أنه لم يكن يعلم كيف عاد من دار الأوبرا إلى قصر كاليـنوس.
عندما وصل إلى مكتبه، حمل الأوراق من جديد.
بعد محادثته مع تلك المرأة، شعر وكأن أفكاره قد اختلطت وتشوهت تماماً.
‘تباً، ما الذي فعلتْه بي بالضبط؟’
إنها امرأة فاتنة للغاية.
ومع أن كل ما حدث بينه وبينها لم يتعدَّ تشابك الأيدي، إلا أن بعض المشاهد من الماضي بدأت تومض في ذهنه.
‘ما نوع هذه الذكريات؟ عليّ أولاً أن أرتب الأمور…’
حين لا يستطيع الاحتمال، عليه أن يدون محضراً فورياً.
كما لو أنه يكتب مذكرات تجربة.
أخرج بسرعة حزمة أوراق من الدرج.
وكما يليق بشخص يدوّن كل شيء في أي وقت ومكان، كان قد بدأ كتابة سجل يومياته منذ لحظة اكتشف فيها أنه فقد ذاكرته.
‘إذن، كانت هذه بعض اللقطات المتناثرة التي تذكرتها…’
[سجل ذكريات فينتين كاليـنوس:
1. ذاكرة عن تقبيلي لتلك المرأة. تباً، لماذا أتذكر شيئاً كهذا؟
2. ثوبها المصنوع من أكياس القمامة. يبدو أنني وقعت في حبها من النظرة الأولى هناك. اللعنة…
3. ليلتي معها… أعني، تباً!]
كَوَّرَ فينتين الورقة بعنف.
‘أيها المنحرف القذر. يا له من خيال مجنون…’
لكن، هل كان ذلك مجرد خيال فعلاً؟
‘تلك المرأة فاتنة للغاية.’
شعر بيقين أنه يجب عليه تجنب لقائها لفترة من الزمن.
صحيح أن لقاءه بها كان يثير في داخله ذكريات مبعثرة شيئاً فشيئاً.
لكن…
ما كان يتذكره من تلك اللقاءات لم يكن سوى مشاهد شديدة الإثارة والإغراء.
‘…كفى. لا حاجة لي بمثل تلك الذكريات.’
غسل وجهه بخشونة من جديد.
وبعد أن انتهى من تفكيره تحت الدش البارد، بدأ يشعر أن أثر تلك المرأة قد بدأ يتلاشى قليلاً.
ما إن هدأ ذلك الشعور وكأنه كان يحلم طوال الوقت، حتى بدأ عقله يعمل أخيراً.
‘لماذا على وجه للأرض…’
قيل له إنه أجرى العديد من التجارب سابقاً. ومع ذلك، لم يتذكر أيًّا منها.
كل ما كان يحدث له عند رؤيتها، أن قلبه يبدأ في الخفقان بعنف.
وما لا يستطيع نسيانه، مهما حاول…
‘أنني قضيت الليل معها…’
فينتين كاليـنوس في سن الثامنة عشرة لم يكن قد مرّ بأية تجربة حب، ولا حتى أول قبلة.
فاحمرّ وجهه احمرار الطماطم.
‘أحتاج لبعض الوقت لأفكر بهدوء وحدي.’
نهض من مكانه.
الدش البارد لم يكن كافياً.
عليه أن يستحم بماء مثلج.
***
بعد ساعة من “التكفير” وسط الجليد، عاد فينتين إلى مقعده.
أغلق على نفسه في المكتب ورفض استقبال أي أحد.
‘الآن فقط بدأت أستعيد القليل من رزانتي.’
فتح سجل ذكرياته مجدداً، وبدأ بترتيب بعض النقاط كما لو كانت سجل تجارب.
[أعاني من فقدان الذاكرة.
حالياً أبلغ من العمر ثمانية عشر عاماً.
قيل إن جسدي تجاوز الثلاثين.
أي أن هناك فجوة لا تقل عن اثني عشر عاماً.]
غاصت نظرات فينتين إلى الأرض.
عندها فقط، تذكّر حقيقة كان قد نسيها بسبب “تلك المرأة”، جيزيل.
‘لم أرَ شقيقي حتى الآن.’
لم يكن فينتين غبياً.
لقد جاءه الكثيرون عندما عرفوا أنه فقد ذاكرته.
لكن شقيقه لم يظهر بينهم..
ولم يكن هذا هو الأمر الوحيد الغريب.
فالناس ظلوا ينادونه بلقب “دوق كاليـنوس”.
والمعنى الضمني لذلك…
‘ما دمت أملك شقيقاً، لا يمكن أن أكون أنا الدوق.’
وبحسب طبيعته، من غير المعقول أن يتخلى عن حياته كعالم في المختبر ويتسلم منصب الدوق طوعاً.
‘أخي…’
وفي تلك اللحظة، خطرت له فكرة.
‘ما لم يكن قد أصابه مكروه، فلا بد أنه كان سيأتي لرؤيتي.’
أمسك القلم وسجّل ملاحظة.
[كما أن أيًّا من الناس، حتى الآن، لم يذكر شيئاً عن أخي.]
في سن الثامنة عشرة، كان عالم فينتين كله يدور حول التجارب.
والشخص الوحيد الذي شكّل له أملاً وسط ذلك كله… كان أخاه.
لكن في تلك اللحظة بالذات…
فُتِح الباب بهدوء.
ظن أنها جيزيل، لكن من دخل كان طفلاً صغيراً يبدو ضعيفاً جداً.
شعر أشقر، وعينان زرقاوان… طفل صغير للغاية.
ومع ذلك، جعل جزءاً من قلبه ينبض بألم خفيف… صغير ورقيق…
“قالوا إن عمي الدوق مريض…”
كان ابن أخيه، ويشبه أخاه كثيراً.
وحين رآه، أدرك فينتين على الفور.
هذا الطفل أمامه، لا يمكن أن يكون سوى…
“هل أنت ابن أخي؟”
***
بيينتين جلس وجهاً لوجه مع ابن أخيه الذي يراه لأول مرة، والذي كان طفلاً ناضجاً.
بدأ ابن أخيه يعبث بيديه ثم ألصق بلصقة صغيرة على يده.
“عمي… سمعتُ أنك مريض، فسأضع لك لاصقاً.”
“فقداني للذاكرة لا يُعالج بوضع لاصقة على يدي، هذا لا فائدة منه على الإطلاق.”
“آه…”
اتخذ الفتى الأشقر ذو العينين الزرقاوين تعبيراً حزيناً فوراً.
“إذاً، كيف يمكن أن نُعالجك؟”
“أنا نفسي لا أعلم. ما زلت أحاول أن أكتشف الأمر.”
رغم أن وجه الطفل ظل يحمل شيئاً من التردد والخوف، إلا أن عينيه كانتا مليئتين بالقلق.
لهذا السبب، حاول فينتين أن يبتسم وهو يلوّح بيده.
طبعاً، مهما حاول أن يبتسم ابتسامة مشرقة، فإن من يراه سيظن أن زوايا فمه ترتجف لا أكثر…
‘الجو أصبح هادئاً.’
يبدو أن الحفاظ على علاقة حميمة مع الآخرين لا يناسبه حقاً.
“إذاً، سأدخل في صلب الموضوع مباشرة.”
تلاقى نظره لأول مرة مع ابن أخيه.
وبينما ينظر إلى تلك العينين الزرقاوين العميقتين، سأل فينتين بحذر أكثر ما كان يريد أن يعرفه.
“بالمناسبة، أين أخي؟ وأين زوجته؟”
“هذا….”
“آه، بالنسبة لي هما أخي وزوجته، لكن بالنسبة لك هما والداك. هل ذهبا في رحلة ما مثلاً؟”
أخذ ريويس نفساً عميقاً..
ذلك المشهد بدا وكأنه لحظة ما قبل إصدار حكم بالإعدام، مما جعل فينتين يحبس أنفاسه قليلاً.
هذا غير ممكن.
لا يمكن أن يكون…
“ربما ذهبا في رحلة طويلة. أو ربما كانت المسؤوليات مرهقة جداً فقرّرا التقاعد وترك الأمر لي.”
أخوه لم يكن من النوع الذي يتهرب من المسؤولية.
على أية حال، يبدو أن الوقت الحالي وقت سلام وهدوء.
كلما طال الصمت، حاول فينتين يائساً أن يفكر في شيء إيجابي.
وفي تلك اللحظة، تمتم ريويس بجملة واضحة.
“لقد توفيا. كلاهما….”
***
في هذه الأثناء، كان الخادم في قصر كالينوس يشعر وكأنه يمشي على جليد رقيق هذه الأيام.
‘كان هذا القصر في السابق يعج بالحب والمشاعر المجنونة.’
لكن الآن، منذ أن فقد فينتين ذاكرته، عاد القصر إلى أجوائه الصارمة الجافة.
‘ومع ذلك، يجب أن أؤدي المهمة التي أوكلت إليّ من سيدتي.’
قرر الخادم، الذي كان يخدم دوق كالينوس عن قرب، أن يؤدي واجبه بالكامل.
لكن في تلك اللحظة بالذات، استدعاه دوق كالينوس وسأله مباشرة.
“على فكرة، لدي سؤال أود طرحه.”
“نعم، يا صاحب السمو الدوق.”
الخادم، الذي تلقى أمراً من جيزيل بأن يعامل فينتين وكأنه مصنوع من الزجاج، اتخذ تعبيراً محايداً.
“أجواء القصر مريبة جداً.”
“مريبة؟ أي نوع من الريبة تعني، سيدي؟”
قالت له جيزيل أن يجعل الأمور مملة، لمنعه من افراز الدوبامين مما سيساعد على ‘تحفيزه’ بفاعلية أكبر.
لأن ما ستقدمه هي سيكون أكثر إثارة إذا كانت الخلفية مملة ومطفأة.
وكان الخادم يحاول الالتزام بذلك… لكن…
“أين أخي؟”
…وخرج ريويس من خلفه بتعبير حزين.
“هل تقصد…”
“هل مات؟”
فكر الخادم ووجهه قد ازداد سواداً في لحظة.
‘ك، كيف أقول له ذلك؟’
لم يستطع أن يجيب، وظل يفتح فمه ويغلقه دون صوت.
عندها، رأى الخادم اليأس وقد غمر وجه دوق كالينوس.
“لا، ليس بذلك القدر من اليأس.”
فينتين لا يزال في مرحلة الإنكار.
استدار على الفور وتوجه نحو الطابق العاشر من القصر، حيث كان شقيقه يقيم.
المكان الذي كان فيه وريث العائلة يؤدي واجباته.
وهناك…
التعليقات لهذا الفصل " 160"