“حسنًا، على كل حال، إذا عدتِ، فراسليني. هذا عنواني.”
عندما طلب مني أن أراسله، تسلمت الورقة التي كُتب فيها عنوانه.
“مع أني كتبت ‘الكونت سيهيرا’، لم تتفاجئي؟”
“لم تُخفه كثيرًا من البداية، أليس كذلك؟”
“أهكذا إذن؟ حسنًا، إن جئتِ إلى قصرنا، فالإقامة والطعام سيكونان مجانًا. اتفقنا؟”
“حسنًا… فهمت.”
على أية حال، سنصبح من أولئك الذين لن يستطيعوا اللقاء مجددًا.
بدأت الدموع تتجمع في عيني، فأدرت وجهي بعيدًا.
“إذًا، وداعًا.”
“حتى من دون راتب، كنتِ نافعة كمرتزقة. على كل، أنتِ…”
صاح خلف ظهري، بينما كنت أستدير وأسير بسرعة.
“لا تجعدي الورقة! عودي لاحقًا! سأعطيكِ هدية!”
…هدية، لم أتمكن من معرفة ما كانت.
وغادرتُهُ بذلك الشكل.
***
في تلك الليلة، انتهى سحر <تدفق الزمن>.
وبينما كنتُ أضغط على رأسي الدوّار، غُمر نظَري بالبياض.
فتحتُ عيني بهدوء.
لم أكن في فرقة المرتزقة قبل عشرين عامًا.
لقد عدتُ إلى بيت دوق كالينوس.
“كم من الوقت مضى؟”
“عندما تفقدتُ الساعة، كان قد مرّ ثلاثون دقيقة وثلاثون ثانية.”
“هكذا إذًا….”
نظرتُ إلى دوق كالينوس، الذي كان ممسكًا بيدي بقوة، وابتسمتُ بمرارة.
“جيزيل، هل أنتِ بخير؟ أشعر بالقلق. هل أستدعي الطبيب؟”
“لا، أنا بخير. فقط، في الوقت الحالي….”
“في الوقت الحالي؟”
“أرغب فقط بالراحة.”
في النهاية، لم أتمكن من تغيير المستقبل الذي فيه مات والديّ.
رغم أنني عدتُ إلى الماضي، إلا أنني لم أغيّر شيئًا.
حين فكرتُ بذلك، شعرتُ بضعف يسري في كامل جسدي.
“هل أنتِ متأكدة فعلًا أنك بخير، جيزيل؟”
رغم تكرار سؤاله، لم أشعر أنني على صلة بالواقع. بل، كأنني كنتُ عائمة في هذا العالم.
ومع كل تلك القيود…
بدأت أفكر، ماذا لو أن كل ما حدث كان مجرد حلم؟
لكن…
“حتى لو كان حلمًا، فإنني سعيدة لأنني التقيتُ بوالديّ. هل يبدو هذا غريبًا؟”
أسبوعي ذاك، لم يترك أثرًا ولو لحظة في حياة والديّ.
لكن مجرد حقيقة أنني التقيتُ بوالديّ الراحلين عبر الزمن… كانت تسعدني.
“أظنها حكاية رومانسية.”
حين قال ذلك رجل لا يعرف حتى معنى الرومانسية، انفجرتُ بالضحك الصادق.
ومن خلف دوق كالينوس، الذي بدا مشوشًا، سُمع صوت طرق على الباب.
“ادخل.”
“يا سمو الدوق، سيدتي. لقد حضر الكونت فلوريت على عجل.”
ومن خلف الخادم، ظهر الكونت فلوريت وهو يركض نحونا.
لوّح بيده نحوي وهو يصيح.
“جيزيل! جيزيل! لقد تم العثور على متعلقات جديدة تعود لكونت وكونتيسة سيهيرا! أليس هذا غريبًا؟ كنا قد بحثنا في كل شيء، فمن أين ظهرت؟”
“……”
“صحيح أنها بالية قليلًا، لكن، تعالي وانظري!”
وفور أن رأيت ما في يده، عجز لساني عن النطق.
***
جلسنا حول طاولة مستديرة: دوق كالينوس، والكونت فلوريت، وأنا.
“عجيب، عندما فتشتُ بنفسي، لم أجد شيئًا، لكنها ظهرت فجأة وكأنها ظهرت من العدم.”
“آه….”
“هل أبدو غير لائق؟ لا، فقط من شدة الدهشة!”
في يده كانت بروش على شكل تفاحة، وقطعة ورق مجعّدة.
وكان خط والديّ ظاهرًا عليها.
ربما لأنني رأيت والدي للتو… لم أجرؤ على فتحها، واكتفيت بالتحديق في الفراغ.
لكن الكونت فلوريت حثني بلطف.
“جيزيل، تعالي وتأكدي. يبدو أن لديهم صديقة تحمل اسمكِ. اسمك مكتوب على ظرف الرسالة من الخارج!”
[إلى جيزيل]
وما إن رأيتُ الغلاف، حتى فتحت الظرف وكأنني مسحورة.
خرجت منه ورقة قديمة وبالية.
[مرحبًا، جيزيل.
قضيتِ وقتًا ممتعًا برفقتي، أليس كذلك؟
تُرى، هل سيأتي يوم أتمكن فيه من إرسال هذه الرسالة إلى عنوان منزلكِ؟
على كل حال، لم ألتقِ مرتزقة مثلِك من قبل.
فكّرت حتى في أن أجعلكِ تلميذتي، لكن روحك الحرّة لا بد أن تذهب في رحلة إلى البراري.
أتمنى أن تكوني بخير.
ملاحظة: هذه هدية.
لم أخبرك من قبل، لكن وجهك كان يحمرّ كثيرًا حين تشربين الخمر، حتى حسبتكِ تفاحة!
ولهذا، حين رأيت بروش على شكل تفاحة في محل المجوهرات، تذكرتك فورًا.
صحيح أنه ليس باهظ الثمن، لكني اخترته بعناية مع خطيبتي، لذا ارتديه حتى الموت.]
“قالوا إنها رسالة تم إسترجاعها من منطقة أديليا.”
“آه…”
يا له من أبٍ ساذج، صدّق هوية مزيفة وأرسل الرسالة.
وهكذا، ربما كانت هذه الورقة ما كان يحاول أن يوصله إليّ في النهاية.
‘بروش التفاحة قديم بعض الشيء، لكن…’
كان البروش صدئًا وباليًا.
ومع ذلك، لم أستطع كبح تلك الأحاسيس العارمة التي انفجرت داخلي فجأة.
‘لقد التقيتُ بهما فعلًا، أمي وأبي.’
أنا سافرت عبر الزمان، والتقيت بأمي وأبي.
كان ذلك كأنني أعيش حلمًا.
وذلك الحلم الذي ظننتُ أنه انتهى، عاد إليّ عبر الزمن.
وتساقطت دموع من عيني على الورقة الرقّية القديمة.
“آه يا عزيزتي، لماذا تبكين؟”
نظر إليّ الكونت فلوريت بقلق وارتباك.
“أنا آسف، يبدو أنني لم يكن عليّ إحضار هذا…”
“لا، أنا سعيدة. أبكي من الفرح فقط.”
على كل حال، الذكريات تبقى دائمًا.
تلك العبارة المكتوبة في دليل <تدفق الزمن>.
‘<تدفق الزمن> يستجيب للرغبات الخفية…’
عندها فقط، أدركت أنني كنت أفتقد والديّ طوال تلك السنوات الطويلة.
“آه… هاها…”
“جيزيل، هل أنتِ متأكدة أنكِ سعيدة؟ وجهك يبدو شاحبًا للغاية…”
“جيزيل فقط غمرتها المشاعر. أظن أنها بخير فعلًا.”
أجاب دوق كالينوس آليًا على قلق الكونت فلوريت، ثم جذبني إلى صدره وضمني.
وبين ذراعيه، بكيت طويلًا.
حتى لو أن الكونت فلوريت، وكذلك الخادم الواقف عند الباب، لم يتمكّنا من فهم مشاعري…
“هذا بروش جميل فعلاً، أليس كذلك؟”
…كان هناك رجل واحد فقط بجانبي، يعلم ما في قلبي.
همس لي بصوت منخفض.
“نعم.”
ثم همس مجددًا وهو يثبّت البروش على فستاني:
“يناسبكِ تمامًا، جيزيل.”
تمسّكت بالبروش الذي ثبّته لي بقوة وقلت:
“لذا… لدينا مكان يجب أن نذهب إليه.”
“…مكان نذهب إليه؟”
أمسكت بيد دوق كالينوس وقلت.
“نعم. مكان علينا زيارته لا محالة.”
“إلى أين؟”
“…هذا سر.”
رغم أن تعابير وجه الكونت فلوريت كانت تنضح بالقلق، إلا أنني كنت بخير حقًا.
***
“أوه، أهلًا بكم!”
…يا لها من مفارقة، أن أرى صاحب النزل الذي رأيته قبل يوم واحد فقط من منظور زمني.
رغم أن مظهره تغيّر كثيرًا، وشاب شعره بسبب تقدّمه بالعمر بأكثر من عشرين عامًا، إلا أن حيويته أثناء استقباله لنا في النزل لم تتغير.
“أهلًا بكم! هل ستقضون الليلة هنا؟”
“لا. نريد فقط الجلوس في الحانة.”
عرض علينا صاحب النزل الجلوس إلى طاولة البار بحماسة وقال:
“تفضلوا هنا! وهذه قائمة الطعام!”
طلبنا كأسين من الجعة، وجلست أراقب المكان حولي.
“الجبل اختفى تمامًا.”
“نعم، لقد اختفى تمامًا. في الواقع، منذ عشرين عامًا، نقل الكونت سيهيرا وفرسانه الجبل! ومنذ ذلك الحين لم نرَ أي أثر للوحوش هنا!”
“…آه.”
“حتى إن الجبل الآن صار مكانًا نقيًا تمامًا. الناس ينتقدون لماذا نُقل الجبل، لكن لو لم يُنقل، لما انقرضت الوحوش تمامًا. الكونت سيهيرا كان يملك بُعد نظر!”
“آه، حقًا.”
“آه، هل كنت أتحدث كثيرًا؟ أعتذر. على الأرجح أنتم من العاصمة ولا تهتمون بحكايات قديمة منسية….”
“آه…. لا، لست غير مهتمة. بل على العكس، أنا مهتمة كثيرًا.”
نظرت إليه بوضوح وأنا أقول ذلك، فتوقف وقد بدا عليه الذهول وهو يحدق في وجهي.
“وجهك مألوف… كأنك تشبهين أحد أفراد فيلق المرتزقة ذاك. ذاكرتي مشوشة قليلًا بسبب الكِبر، لكن…”
…شعرت بوخزة في قلبي.
ربما تركتُ أثرًا في هذا الرجل، حتى ولو بسيطًا.
‘رغم أنه من غير الممكن أن يتعرّف عليّ فعلًا… عليّ أن أهرب.’
شربت كأس الجعة دفعة واحدة وسألته:
“ذلك الجبل الذي نقله الكونت سيهيرا، أين هو الآن؟”
أشار صاحب النزل إلى الاتجاه المقابل وقال:
“هناك.”
سرت في الاتجاه الذي أشار إليه، واستغرق الوصول إليه مع دوق كالينوس ساعة من المشي، حتى ظهر أمامنا جبل أخضر.
“لا أثر للوحوش أبدًا.”
“نعم، ولا حتى أي علامة على قطع الأشجار.”
“ولا يوجد مرتزقة كذلك…”
شعرت بشيء من الحزن في صدري.
وقفت أمام الجبل الغريب الذي التقيت فيه والديّ لأول مرة، وأغمضت عيني ثم فتحتهما بهدوء.
أبي وأمي لم يكونا هنا.
كنت وحدي.
لكن…
“جيزيل.”
“نعم؟”
“لا تظهري ذلك الوجه الحزين.”
“…..”
هل كان وجهي يبدو كذلك فعلًا؟
“فقط…. أشعر بالوحدة لأن كل شيء اختفى.”
“لكن، لم يختفِ كل شيء.”
“و مالذي تبقَّى؟”
عندما أنزلت نظري بهدوء، لمس دوق كالينوس البروش المعلّق على فستاني برفق وقال.
“هنا… هذا الأثر هو دليل على محبة الكونت وزوجته لكِ.”
ابتسمت بخفة ولمست البروش بيدي.
“أنت على حق، مثل الذكريات التي تبقى رغم مرور الزمن…”
وبمجرد أن أنهيتُ كلامي، هبّت نسمة هواء ناعمة على وجنتي تعانقني كأنها تغمرني بالدفئ..
<نهاية الجزء الأول من القصة الجانبية، يتبع في الجزء الثاني>
التعليقات لهذا الفصل " 156"