أمي، التي قابلتها لأول مرة في حانة الطابق الأول من النزل، كانت، كيف أقول…
“آه، مرحبًا! سمعتُ أنك تبرزين في فرقة المرتزقة.”
كانت تبدو مفعمة بالحيوية للغاية.
‘كأنها شخص حي.’
…بالطبع، هي حية بالفعل.
نظرتُ إليها بصمت بنظرة مدهوشة، وتمتمت:
“نعم، مرحبًا… بكِ.”
ثم قُدّمت البيرة على الطاولة، وبدأنا بتعريف أنفسنا بشكل بسيط.
كانت أمي أول من بدأ الحديث.
“من أي طبقة نبلاء قلتما إنكما جئتما؟”
….لقد نسيت.
عندها، تحدث فينتين، الجالس بجانبي مباشرة، بنبرة متيبسة:
“نحن من منطقة صغيرة تدعى أديليا، تبعد حوالي 150 كم عن العاصمة، وتقع في منطقة بروفانس.”
كيف يمكنه الكذب بهذه السلاسة؟
‘بحثه في المعلومات خارق وذاكرته حديدية.’
في الحقيقة، أنا نفسي نسيت تمامًا ما كانت هويتي المزيفة.
لكن كانت هناك مشكلة أخرى لديه.
على عكسي، ورغم توتري، كنتُ طبيعية نسبيًا، بينما هو بدا كأنه جاء لمقابلة عمل.
“هاهاها.”
“.…؟”
“لماذا يبدو السيد فينتين متيبس الجسد هكذا؟”
كان يشبه تمامًا….
‘نعم، لقاء عائلي!’
كأنه جاء للقاء أهل عروسه.
رفع دوق كالينوس كأسه وقال.
“ها، دعوني أملأ لكم كأسا من النبيذ. تفضلوا.”
فأخذت أمي الكأس بوجه مرتبك وقالت:
“هذا عصير فواكه، سيد فينتين.”
‘…سأجنّ.’
نظرتُ إلى دوق كالينوس الذي كان يبذل قصارى جهده لكسب رضا والديّ.
‘صحيح أنه لقاء عائلي… لكن، هل هذا جيد؟’
رغم أن تصرفاته كانت مضحكة بعض الشيء، إلا أنها بدت صادقة جدًا فلم أستطع السخرية منه.
لكن لحسن الحظ، بعدما بدأنا الشرب، بدأ الجو يتخفف تدريجيًا.
فينتين المتيبس بالكامل، وأنا، وأبي وأمي، شرعنا في الشرب بلا توقف.
ولأكون دقيقة، كان ذلك لأن والدي استفزّ روح التحدي لدي.
“نتحدى بعضنا؟ من يشرب قنبلة كحولية أكثر!”
…يا له من شخص غير ناضج.
لكن…
“لا تقدرين؟ ها؟ لا تقدرين؟”
“ولِم لا أقدر؟”
….أنا أيضًا، من السهل استفزازي بهذه الترهات.
كان دوق كالينوس ينظر إليّ بقلق، لكنه ضعيف أمامي وأمام عائلتي.
لذا، لم يتمكن من منعنا وانتهى به الحال إلى الشرب معنا حتى الثمالة.
“آه، لماذا تدور الدنيا هكذا أمام عيني؟”
“فعلاً، كل شيء يدور…”
وهكذا، نحن الأربعة ثملنا حتى النخاع.
يقولون إن الاعترافات الصادقة تخرج في السكر، أليس كذلك؟
نظرت إليّ أمي وهمست بصوت خافت:
“أتعلمين؟ لدي موهبة في معرفة الناس من ملامحهم.”
“..…”
“أظن أن الآنسة جيزيل نشأت وسط حب كبير من أسرتها.”
تابع أبي الحديث.
“آه، فعلًا. يبدو أن تربيتها العائلية كانت ممتازة.”
“عزيزي، من الوقاحة أن تتحدث عن تربية الناس في اللقاء الأول.”
“حتى لو كانت مجاملة؟”
“بالطبع.”
….نظرتُ إلى أمي وهي تضحك وتضرب ذراع أبي بلطف.
حتى وأنا ثملة، بدت لي كأشعة شمس دافئة، لدرجة أنني شعرت بالاختناق.
ولكن، في تلك اللحظة بالذات،
رأيت قشرة صغيرة على ظهر يدها.
كنت أعرف ما تلك القشرة.
إنه <بذرة الوحش> التي بدأت تنتشر في جسدها. نفس الضعف الذي كان عند الكونت سهيرا.
ذلك الضعف الصغير سيجلب لهم الألم، وفي النهاية، سيتسبب في موتهم.
أبعدت بصعوبة نظري عن تلك القشرة الظاهرة على يدها.
الشيء الوحيد الذي نسيته طوال الضحك والشرب والثرثرة…
هو موت الزوجين سهيرا الذي أصبح الآن يثقل صدري.
حينها، وأنا أحدّق بشرود، تحدثت أمي مجددًا:
“في الحقيقة، رأيتكِ فقط من خلال البلورات السحرية، لكنني كنتُ فضولية جدًا.”
“آه، فضولية بخصوص ماذا…”
“قيل إن بعض القادمين الجدد أصبحوا نجوم فرقة المرتزقة. أقوياء جدًا، ويؤدون عملهم على أكمل وجه.”
“آه…”
“أراد الجميع مواصلة العمل معكم، فقلتُ إني أريد مقابلتكم بدافع الفضول.”
“هاهاها…”
إذا، كانت هذه نواياكِ في الخفاء؟
لكن، شيء غريب حصل.
عينيّ المُسكرَتين أصبحتا فجأة واضحتين.
لأنني، أنا التي لا تملك ذكريات مفصلة عن ولادتها، شعرت أن هذا أول مدح صادق أسمعه من والديّ في حياتي.
‘لقد… شعرت فقط بسعادة غامرة…’
كأنني أطفو على الغيوم، في هدوء وراحة.
رغم أن الأمر لم يكن بذلك العمق، إلا أن كلماتها بدت وكأنها تقول للفتاة التي كبرت وحدها: “لقد أحسنتِ.”
نظرت إليها وأنا أكتم أنفاسي وقلت:
“حقًا؟”
“نعم. والآن بعد أن رأيتك وجهًا لوجه، أصبحت أصدق كلام خطيبي فعلًا.”
“أنا… سعيدة جدًا…”
….هل كان هذا صوت لاوعي داخلي؟
حينها، كان فينتين يحدّق بي بصمت.
رغم أنني عشتُ حياة بلا والدين، وكنت راضية عن حياتي الحالية….
إلا أن أبي وأمي، اللذين لن يفكرا يومًا أنني ابنتهما، حتى لو كانت هذه اللحظة قصيرة جدًا….
فكرت في داخلي،
أنني على الأرجح، لن أنسى هذا اليوم أبدًا.
***
في اليوم التالي،
انضممت إلى فرقة المرتزقة كالمعتاد، دون أن أشعر بأي أثر للصداع أو آثار الثمالة.
كنت أراقب كالمعتاد عمل تقطيع الخشب، لكن الغريب أنني كنت أغرق في شرود ذهني مرارًا وتكرارًا.
“جيزيل.”
“نعم؟”
“تفضلي إلى هنا للحظة.”
حينها، ناداني دوق كالينوس وهو ينظر إلي.
كان دائمًا ما يرمقني بنظرات مراقبة،
كأنه يعرف تمامًا ما الذي يدور في ذهني.
“جيزيل، لدي ما أقوله لكِ.”
“…….”
“إذا تدخلتِ دون تفكير، سيتشابك المستقبل بطريقة فوضوية.”
كما هو متوقع، إنه شخص عقلاني.
كلامه صحيح تمامًا.
ففي المستقبل الذي لا أعرفه، قد يتألم شخص ما بسبب فعلي.
هذا هو تأثير الفراشة.
لكن أكثر ما يشغلني الآن هو…
‘أخشى أن تنقلب حياة هذا الرجل رأسًا على عقب.’
لقد التقى بي، واستطاع بالكاد التحرر من صدمة قتل شقيقه.
ومع ذلك…
“أنا لا أمانع في إنقاذ والديكِ.”
ولكن،
إن فعلتُ ذلك، فماذا سيكون مصير مستقبلنا؟
‘الماضي، الحاضر، ثم المستقبل.’
لكي أنقذ والديّ، يجب أن أُحطم المستقبل الذي صنعته بيدي.
“إذا تدخلتِ بلا تفكير، سيتدمر المستقبل، كما قلتِ.”
نظرت إليه بصمت، ثم هززت رأسي.
“لن أفعل.”
انضمامي لفرقة المرتزقة لأسبوعٍ فقط قد لا يؤثر كثيرًا على المستقبل.
لكن إنقاذ والديّ… سيترك تأثيرًا هائلًا لا محالة.
لهذا كان يجب أن أدير ظهري.
‘يجب أن أتحمّل. أنا شخص بالغ، وحان الوقت لأتحرر من الماضي.’
حتى لو كان قلبي يتألم.
فعندما يحين وقت الرحيل، فلا مفر منه.
***
أخيرًا، حلّ اليوم الأخير الذي سأغادر فيه <تدفق الزمن>.
“هيه، هل حقًا سترحلين هذه المرة؟”
“نعم.”
والدي، الذي لا يعرف شيئًا عن حقيقتي، تمتم بهدوء.
“حقًا… سترحلين؟ هذا محزن.”
أجبت بابتسامة ناضجة تفوق تعبيراته نضجًا.
“أنا أيضًا حزينة. لكن لا يمكنني البقاء.”
“إلى أين ستذهبين؟ هل ستعودين إلى منطقة أديليا تلك؟”
“لا.”
حبست أنفاسي لوهلة، ثم أطلقتها ببطء وأنا أجيبه.
“سأذهب في رحلة إلى منطقة نائية.”
“محظوظة… وإلى متى ستستمر هذه الرحلة؟”
لأني مضطرة للعودة عبر تدفق الزمن.
“ستكون رحلة طويلة جدًا.”
“لكن… ستعودين، أليس كذلك؟”
“.….”
لن نتمكن من اللقاء مجددًا.
هذه الحقيقة نخرت قلبي حتى العظم.
لكنني ابتسمت بصعوبة وقلت:
“حين يمر وقت طويل، ربما نلتقي ذات يوم.”
التعليقات لهذا الفصل " 155"