حين توقفتُ مذهولة في مكاني، مرّ الرجل بجانبي وهو يرمقني بنظرة غريبة.
لكنني لم أستطع أن أوقفه.
إذ سرعان ما خطرت ببالي اللوحة التي أراني إياها الكونت فلوريت منذ وقت ليس ببعيد.
“هل ترين؟ هذه صورة والدكِ ووالدتك.”
“نعم، رأيتها.”
“كانا جميلين جدًا… رغم أن طباعهما كانت سيئة.”
….صحيح، لهذا السبب تحديدًا بقيت تلك الصورة عالقة في ذهني.
حدقتُ في الكونت سهيرا بذهول.
‘هذا هو أبي، أليس كذلك؟’
لكن الرجل لم يُعر نظراتي أي اهتمام.
رغم أنني ظللتُ أحدق به، اكتفى بالجلوس إلى مرافقيه على الطاولة، ثم غادر النزل بهدوء.
فتحت الباب بسرعة وخرجتُ، لكن… هل استخدم الانتقال الآني؟
لم يكن أمامي سوى الجبال.
‘أشعر وكأنني كنت مسحورة بشبح ما.’
…لا بأس.
لم تكن لدي مشاعر كبيرة تجاه والدي أصلًا.
‘ولم أكن أرغب كثيرًا في رؤيته.’
مهما يكن هذا الشيء المسمى بـ <تدفق الزمن>، فإن التورط مع شخص من الماضي يعرفني شخصيًا… أمر يبعث على القلق.
لذا اكتفيتُ بالعودة إلى النزل.
“جيزيل؟”
حينها، كان دوق كالينوس قد بدّل ملابسه من خزانة النزل وخرج مرتديًا زياً خفيفاً.
“آه، نعم.”
نظرت إليه محاوِلة إخفاء ارتباكي.
فنظر إليّ باستغراب وسأل:
“هل هناك ما حدث؟”
“…لا، لا شيء يُذكر.”
عندها قاطعنا صاحب النزل فجأة، قائلًا بنبرة مرِحة:
“آه! خرجتِ لتلحقي بذلك الرجل، أليس كذلك؟”
ياللوقاحة…. لم أرَ نزيلًا بهذا القدر من قلة الفهم.
وفورًا شعرتُ بنظرات حادة قادمة من جانبي.
رغم أنني كنت أبثّ طاقة شرسة بكل كياني، قال صاحب النزل بابتسامة ساذجة:
“هاها، لقد كان وسيمًا جدًا، أليس كذلك؟ يأتي إلى هنا كل يوم. يبدو أن الكثير من السيدات يأتين إلى هذا النزل الجبلي فقط لرؤيته.”
لم أسمع شيئًا من حديثه عن الوسامة وغيره.
لكن…. إذا كان يأتي كل يوم، فهذا يعني أنني قد أراه مجددًا غدًا.
فقط هذا ما فكرت فيه.
وخفّفتُ من التوتر الذي كنت أشعر به دون وعي، ثم سألت:
“إذًا، سيأتي غدًا أيضًا؟ لكن لماذا يأتي أصلًا؟”
“نعم، كما تعلمين، هذا النزل يقع في مدخل جبل سيليماك، وهناك العديد من فرق صيد الوحوش في هذه المنطقة.”
“آه…”
“لكن يبدو أن له خطيبة. يُدللها كثيرًا. هاها… مثل زوجكِ، الذي يقف إلى جواركِ.”
حينها فقط، أدركتُ وجود دوق كالينوس إلى جواري.
بدا وجهه خاليًا من التعبير، لكن…
“جيزيل.”
…كنت أعلم أن هذا هو وجهه حين يكون غاضبًا فعلًا.
“نعم؟”
وبعد أن رددتُ عليه، أدركت الأمر.
‘هل هذا يعني أنني أصبحتُ في نظره المرأة التي تركت زوجها وذهبت تلاحق رجلًا وسيمًا؟’
عندها فقط فهمتُ سبب سوء تعابير وجهه.
وما رأيته كان ملامح رجل يشعر بالغيرة.
وتوترتُ للحظة دون قصد.
لكني لمحتُ شحمة أذنه المتوهجة بحمرة خفيفة.
‘ما هذا؟ يبدو لطيفًا قليلًا.’
شعرتُ أن غيرته كانت لطيفة إلى حد ما، ولم أرغب في تهدئته.
‘أنا فعلًا سيئة الطباع، أليس كذلك؟’
لكن ما ذنبي إن كان شكله لطيفًا؟
ابتسمتُ له وقلت:
“سأخبركَ بعد كأس من النبيذ.”
***
بعد قليل.
‘إذًا، ذلك الرجل الذي رأيته قبل قليل… هو أبي فعلًا.’
قبل بضع دقائق فقط، كنت مقتنعة أنني بخير إن لم أره مجددًا، وأنني لا أحمل مشاعر تجاهه.
لكن لماذا؟
لماذا يستمر وجهه في الظهور أمام ناظري؟
تنهدتُ بعمق، ثم قلت:
“هل تعلم؟”
“ماذا تقصدين؟”
“الرجل الذي تبعته… هو أبي.”
“نعم، اعتقدت هذا.”
“ولِمَ لم تندهش؟ ها؟”
“لقد دُهشتْ.”
“لكن وجهك لا يبدو كذلك إطلاقًا.”
وبقليل من المبالغة، شعرتُ أن مفاجأتي من عدم اندهاشه كانت أكبر من مفاجأتي برؤية والدي.
قال بهدوء وتحليل منطقي:
“من الطبيعي أنني لم أظنكِ من النوع الذي يركض خلف رجل غريب. لذا، خمّنتُ أنه لا بد أنه شخص من ماضيك.”
“…..”
“ثم حين سمعتُ كلام صاحب النزل، رأيت في وجهك شيئًا من الحنين. وفكرت أن العائلة لا بد أنها ما زالت على قيد الحياة، بما أننا في الماضي، قبل عشرين عامًا.”
تحليل مذهل.
لا أجد ما أرد به.
حولت نظري وسألته:
“لكن لماذا كان وجهك حينها….؟”
لامس شحمة أذنه ونظر بعيدًا.
“…في لحظة ما، أسأتُ الفهم.”
“آه.”
“مع أن عقلي كان يدرك الحقيقة، لكن غرائزي سبقتني. كانت تجربة غريبة فعلًا… لدرجة أنني أرغب في تحليلها لاحقًا.”
“…”
آه، يا إلهي.
بِصدق، لا عجب أنكَ غارق في البحث حتى الأذنين…
تمتمتُ وأنا أحدّق في الأداة السحرية بعينين فارغتين من الطاقة.
“لنعد إلى صلب الموضوع، هل علينا أن نظل محتجزين هنا طوال الأسبوع؟ ثم ما الذي يريده هذا الـ<تدفق الزمن> بالتحديد؟”
“لا أعلم أيضًا، ولكن هناك شيء واحد أعلمه.”
جلس إلى جانبي على الأريكة وكأنه معتاد على الأمر، ثم أخرج من بين طيات ملابسه دليل استخدام نصف محترق ورفعه أمامي.
“سمعتُ من قبل عن صانع <تدفق الزمن>، واسمه يوليوس. هناك ما يُعرف بـ’قوانين العالم’. <تدفق الزمن> يستجيب للرغبات الكامنة… في اللحظة التي يتم تشغيله، يُوصلك خلال 24 ساعة إلى الشخص الذي يشير إليه لا وعيك.”
استمعت إلى كلامه وغرقتُ في تفكير عميق.
‘إذاً، ما هي رغبتي الكامنة؟’
ما السبب في أن أعيش أسبوعًا كاملًا في الماضي قبل عشرين عامًا؟
‘هل يمكن أن تكون رغبتي هي رؤية عائلتي؟ هل هذا هو سبب لقائي بأبي؟’
لكنني لم أكن يوماً راغبة بذلك إلى هذه الدرجة.
كنتُ راضية تمامًا حتى في هذه اللحظة.
كنتُ على وشك إنكار الأمر أمام نفسي.
عندها سألني دوق كالينوس بصوت منخفض:
“هل حقاً لا تشتاقين إلى عائلتكِ؟”
“…..”
“أنا أيضًا، بحثت طويلًا عن <تدفق الزمن> ذات مرة… فقط لأتمكن من رؤية أخي. لكنني لم أجده في النهاية.”
“…نعم.”
“ربما، لم يكن من نصيبي أن أجده، بل من نصيبكِ أنتِ، جيزيل. ربما لذلك وقع <تدفق الزمن> بين يديكِ.”
“إن كان هناك سبب…”
“فربما، أنتِ ووالدكِ… كلاكما كنتم تفتقدان بعضكما البعض.”
ترددتُ قليلًا، ثم فتحتُ فمي.
“قالت صاحبة النزل إنه سيعود غدًا….”
“نعم.”
“إذًا، هل نلتقي به غدًا؟”
ضحك بخفة وقال:
“فلنفعل.”
“حسنًا، إذًا لنخلد للنوم الآن.”
قلت ذلك ببساطة واتجهت إلى السرير، لكن فجأة خطرت لي فكرة.
الآن بعد أن فكرتُ في الأمر، بدا سرير دوق كالينوس أصغر بكثير من سريري.
وحين استلقى بجانبي، التصقت أجسادنا تقريبًا.
في الغرفة المظلمة، بدا صوت أنفاسه عميقًا وواضحًا أكثر من المعتاد.
عضضتُ شفتي وتساءلتُ بنبرة خفيفة:
“منذ زمن لم نحصل على… استراحة كهذه، أليس كذلك؟”
“نعم، صحيح.”
“آه! نحن هنا نأكل، وننام، وننام فقط، أليس كذلك؟”
“…نأكل، وننام، وننام فقط…”
شعرتُ ببعض التوتر حين لاحظتُ أن صوته بدأ يخفت بشكل غريب.
نظرتُ إلى جانبي بحذر… وفي الظلام، رأيتُ وجنتيه المحمرتين تلمعان بخفة.
ما، ما هذا؟
لماذا احمرّت أذناه في هذه اللحظة تحديدًا؟
إنه أمر محرج للغاية…!
التعليقات لهذا الفصل " 150"