الفصل 129
حين رأيتُ تعبير الحزن العميق على وجه دوق كالينوس، فتحت فمي من الصدمة وأشرت إليه بإصبعي.
سمعت منه كل التفاصيل التي كان يخفيها الأيام الماضية، وسرعان ما غَمرني الذهول.
“لا، لا. أنتَ مخطئ تمامًا! لست مصابة بمرض عضال!”
“…ماذا؟”
“أنا بخير تمامًا وبصحة ممتازة!”
“إذا ماخطب من يسعل دمًا بهذا الشكل المتكرر…؟”
“ذلك فقط لأني أُجهد نفسي قليلًا عندما أستخدم المانا.”
“…..”
“أقول لك، أنا بصحة تامة.”
عيناه اللتان احمرّتا قبل قليل بردتا فجأة، والجفون التي كانت تلمع برطوبة صارت جافة وباردة.
أما الجوّ بيننا، فقد غرق في صمت خانق لا يُحتمل.
ولأني لم أعد قادرة على تحمّل هذا الصمت، تمتمت بهدوء.
“….لست مصابة بمرض عضال، فلا داعي لكل هذا القلق. لن أُعرّض نفسي للخطر بهذا الشكل مرة أخرى. لكني سعيدة لأن تمثيلية الزواج الزائف انتهت بنجاح. شكرًا لأنكَ كنت تقلق عليّ، ولأنك ساعدتني.”
وحين حاولت أن أواسيه كما يواسي المرء حصانًا بالجزر، كان ينظر إلى عنقي بصمت، ثم أخرج جرعة من جيبه.
“لم أحضر جرعة علاجية، لكن جرعة التخدير هذه ستخفف من الألم.”
لمست يده الباردة، الملطخة بالجرعة، عنقي على حين غرة.
ارتجفت أصابعي وتقلصت قدماي من الإحساس الغريب، وفي تلك اللحظة، وبينما كان يعالجني، تمتم بصوت منخفض.
“….آه، تذكرت للتو.”
“نعم؟”
“العائلة بأكملها تظن أنكِ مصابة بمرض عضال.”
“…ماذا؟ مـ… ماذا قلت؟”
توالت عليّ الصدمات حتى تجمّدت مكاني من شدة الذهول.
***
في صباح اليوم التالي.
أثناء الإفطار في قصر آل كالينوس، أدركت تمامًا أنهم كانوا يظنون حقًا أنني مريضة بمرض عضال.
فقط أنا، أمامي أُعدّت وجبة غنية بالمقويات!
“هـ… هل أنا الوحيدة التي تأكل هذا الطعام؟”
“بالضبط.”
رأيت حينها غارنو ويوليانا ونيسلان يجهشون بالبكاء في آنٍ واحد.
‘لا أصدق… كيف لم أنتبه لهذا حتى الآن؟’
كنت منشغلة بقتل البعوض، لا أكثر…
وحين كنت أفكر بذلك بمرارة، عدّلت الوشاح الذي غطيت به آثار الكدمة على عنقي، وقلت:
“يجب أن أشرح هذا بوضوح.”
“همم؟”
“بصراحة شديدة، أنا بصحة ممتازة.”
وما إن قلت ذلك، حتى دوى صوت سقوط أدوات المائدة.
التفتُّ نحو مصدر الصوت…
“لا، لا تحاولي أن تـ… تواسيـ…ـنا بهذه الطريقة…”
“لا، لم أقصد هذا المعنى أبدًا.”
….الوضع خطير حقًا.
نيسلان أخرج منديلاً بالفعل.
“أنا بخير تمامًا، أقسم لكم! هذا كله مجرد سوء فهم.”
“حقا؟”
ربتُّ برفق على رأس ريويس البريء وابتسمت بلطف.
“طبعًا، هذا أكيد.”
لكن يوليانا سألتني بنظرة متشككة:
“هل أنتِ صادقة فعلًا بخصوص صحتكِ؟”
“نعم، أنا بخير تمامًا. وهل أبدو كشخص يكذب بشأن صحته؟ لو كنت مريضة فعلًا، لكنت أحدث ضجة وأمسك أول شخص أمرّ به وأصرخ: ’أنقذوني حالًا!‘”
تلاشت تعابير الشك من وجه يوليانا، وأومأ نيسلان وغارنو برؤوسهما مقتنعَين.
“هذا منطقي فعلًا.”
….لكن ألا يبدو أنهم اقتنعوا بسرعة زائدة عن الحد؟
كنت أتمتم بمرارة في داخلي حين قاطعني نيسلان بسرعة.
“وماذا عن نزيف الأنف؟”
“ليس له علاقة بأي شيء غريب، فقط أُرهقت قليلًا لا أكثر.”
بالتأكيد لم يحدث لأني… منحرفة أو شيء كهذا…
وفجأة، تكرر صوت سقوط أدوات المائدة من جهة غارنو.
“تُرهقين نفسك؟!”
“الإرهاق طريق مختصر للموت!”
وسط هذه الفوضى العارمة، لم أكن أعرف كيف أرد، وكنت أعضّ شفتي بتوتر.
ثم قفز ريويس من كرسيه وجلس على ركبتي، وهمس بخفوت:
“أ… أتمنى حقًا ألا تكوني مريضة، أختي.”
ثم عانقني بقوة، فانسدل الوشاح عن عنقي دون قصد.
حاولت تعديله بسرعة، لكن…
“هل يجب أن أفرض حظرًا على خروجها من المنزل من اليوم فصاعدًا؟”
“…يبدو أن علينا تقديم طعام صحي فقط. سأضع جرعة صحية في الفطائر التي أطبخها…”
“يجب أن أبدأ في تطوير أداة سحرية للفحص الطبي.”
استمعت إلى تعليقات يوليانا وغارنو ونيسلان، وشحب وجهي كليًا.
‘رأوا الكدمة التي غطيتها بالوشاح، رأوها بوضوح!’
…عندها أدركت.
‘حتى لو اكتشفوا أنني لست مريضة، لن يتغير شيء!’
يبدو أن حمايتهم الزائدة لي ستستمر إلى الأبد.
جلست أتناول المأكولات الصحية الكثيرة أمامي بوجه عابس، آخذة ملعقة تلو الأخرى.
‘آه، يا له من طعام يمنحك الصحة الزائدة! طعمه سيئ!’
***
بعد أن تخلّصت بصعوبة من أفراد عائلة كالينوس الذين كانوا يرمقونني بتعابير كئيبة، وصلت إلى غرفة النوم وتنهدت أخيراً.
‘معقّد، معقّد جداً.’
لكن هذا الروتين اليومي الذي يشبه المسلسلات الكوميدية كان ممتعاً بطريقة ما.
فلا في حياتي كـ’جيزيل’، ولا في حياتي الحديثة التي كانت مليئة بالأعمال الجزئية، كان هناك من يقلق عليّ بهذا الشكل.
شعرت بوخزات دافئة تتراقص في قلبي شيئاً فشيئاً.
وأنا أكبت ابتسامة على شفتيّ وأستمتع بوقت شاي خفيف على طاولة غرفة النوم، تحدّث دوق كالينوس بهدوء من المقعد المقابل.
“حتى العائلة كلها تهتم لأمرك. تمنّوا لو تعيشين للأبد، وكانوا يبكون وهم يعدّون الأيام المتبقية لك.”
“آه….”
“جميع أفراد هذه العائلة يحبونكِ. وأنا من ضمنهم.”
“نعم….”
وفجأة سمعت في رأسي صوت الخمسة مليار تتبخر، فأغمضت عيني بقوة.
“وأنا، لم أعد أطيق رؤيتك تقلّلين من شأن نفسك بهذا الشكل.”
“.….”
“لذا، دعينا نُجدّد العقد على أساس استمرار زواجنا. على ما أذكر، كنتِ قد طلبتِ مني خمسة مليارات في السابق.”
“نعم، صـ، صحيح.”
“سأعطيكِ خمسين مليار، بل لا، خمسمئة مليار، مقابل الاستمرار في هذا الزواج.”
فكرت بذهول وأنا أحدق به.
‘خمسمئة؟! هذه عشرة أضعاف… لا، مئة ضعف! هل يملك حساً اقتصادياً أصلاً؟’
لكن أمام عرض مغرٍ لا يُقاوَم كهذا، فقدت فرصة أن أميّز ما أشعر به تجاهه بالضبط.
إنه يُقدّرني بخمسمئة مليار، بعد كل شيء.
كل ما تبقى لي هو الإخلاص لصاحب العمل… لا، مهلاً!
‘لكن، هل من الطبيعي اتخاذ قرار بهذه الأهمية بهذه العشوائية؟’
بينما أحاول استرجاع ذرة من عقلانية، سألتُه بحذر:
“هل هذا يعني أنه يمكنني الاستمرار في العيش بنفس الطريقة؟ بكل راحة؟”
“نعم. وإن لم تثيري المتاعب، فسيشعر أفراد العائلة بخيبة الأمل.”
“……؟”
أليس هذا غريباً بعض الشيء؟
لكن يبدو أنني اعتدت تماماً على تقمّص دور المجنونة المزيفة.
أومأت برأسي بخفة وأجبت:
“..…سأفكر في الأمر بجدية، سموك، أقصد، يا صاحب العمل.”
“نعم. ولنُعالج رقبتكِ أيضاً.”
كانت يده الباردة المبلّلة بإكسير الشفاء تلامس برفق عنقي وتدلّكه.
لم تكن لمسته دقيقة أو ناعمة، بل خشنة بعض الشيء، ومع ذلك شعرت بجراحي تلتئم تدريجياً.
أدركت حينها أن سكان هذا القصر، ودوق كالينوس تحديداً، يساعدونني على شفاء الغضب والجراح التي سبّبها أولئك الأوغاد.
وبينما أفكر بذلك، وجدت نفسي لا أمانع فكرة الاستمرار في هذا الزواج.
لكنني رمشت بعيني فجأة.
‘أشعر فعلاً أنني أنجرف وسط هذه العائلة التي تشبه الجرافة.’
ما أيقظني من جمودي كان أصوات الخدم التي تسلّلت من النافذة المفتوحة.
“هل قرأتِ عدد اليوم من صحيفة القيل والقال؟”
“عن ذلك الدوق اللعين، ليشانيل، الذي تجرّأ على إيذاء سيدتنا؟”
“الناس يقولون إنها مجرد شائعات.….”
“يقولون، ما الذي ينقص دوق ليشانيل ليقترب من سيدتنا؟ هذا مثير للسخرية!”
وبينما أستمع إلى كلمات الخدم الغاضبة، لاحظت بوضوح العروق التي برزت في يد دوق كالينوس.
“هل أبدأ بالتخلص من أولئك الذين يتحدثون دون تفكير؟”
لو توقفت الأمور عند هذا الحد، لكان واضحاً أن جهودي كلها قد باءت بالفشل.
فبدلاً من أن تنتشر الشائعات حول دوق ليشانييل، أصبحت ماضيّ أنا هو ما يُثار.
“لا.”
تمسّدت عنقي التي بدأت تلتئم، وفتحت النافذة على وسعها.
وفي تلك اللحظة، تسلّل صوت غريب من خلال النافذة المفتوحة.
“ثـ، ثمّة شائعة أخرى، لكنها سرية. يُقال إن سيدتنا جعلت دوق ليشانييل عاجزاً….”
“آه، أنا أيضاً سمعت ذلك. يقولون إنه صار أصلعاً! وأصبح يرتدي شعراً مستعاراً.”
ابتسمت بانتعاش وأغلقت النافذة من جديد.
حينها، التقت عيناي بعيني دوق كالينوس التي كانت ترمقني بريبة.
قررت أن أكشف له ورقة أخرى من أوراقي.
“لن يكون الأمر ممتعاً إن انتهى كقضية غرامية تافهة فقط، أليس كذلك؟”
“تقصدين؟”
“علينا أن نبالغ أكثر في القصة ونجعلها مثيرة، حتى يتحدث الناس عنها طويلاً.”
الإثارة الزائدة؟ هذا تخصصي.
وفوق كل شيء، كان عليّ أن أجعل دوق ليشانييل يبدو مثيراً للشفقة.
“أنوي جعل صبره ينفذ، أكثر وأكثر.”
فهو فقد المانا، وفقد شرفه، وسيأتي إليّ وهو يكشف أوراقه كلها ويريد المواجهة.
أمسكت بحجر الحظ المعلّق على عنقي وابتسمت بانتعاش.
‘لأنني في لقائنا القادم، سأسرق منه كل ما يملك.’
التعليقات لهذا الفصل " 129"