الفصل 121

 

***

 

“جدتي، أظن أنه من الأفضل أن تبقي هنا لبعض الوقت.”

 

أمسكتُ بيد الجدة بإحكام وأنا أدخل القصر.

 

بدت الجدة مرتبكة وهمست بحذر وهي تدير عينيها.

 

“هـ، هذا المكان، أأين نحن…؟”

 

“آه! هذا قصر فلوريت.”

 

يبدو أن كبير الخدم أبلغ سريعًا، إذ كان الكونت فلوريت يقترب وهو يفرك عينيه على عجل.

 

“جيزيل؟ ما الذي حدث فجأة؟ هل قررتِ أخيرًا الطلاق؟”

 

أتى إليّ مبتسمًا بسعادة حين نطق بكلمة ‘طلاق’، فبدأت أشرح له ما جرى.

 

“ليس الأمر كذلك تمامًا…”

 

وبعد أن أنهيت شرح الموقف ببساطة، احمرّ وجه الكونت فلوريت من الغضب.

 

“إذًا، كل هذا من فعل ذلك الحقير ليشانييل، صحيح يا جيزيل؟”

 

“نعم. يبدو أن الأمر كذلك.”

 

“أولًا، لنجلس. كبير الخدم، اصطحب هذه السيدة إلى غرفة لتستريح فيها.”

 

وبعد أن أُرسلت جدة غييت إلى غرفة للراحة، دخل الكونت فلوريت معي إلى غرفة الاستقبال وأمر الخدم بإحضار أكواب الشاي الدافئة.

 

“كما توقعت، دوق ليشانييل، ذلك الوغد لا يكفيه أن يُمزق إربًا حتى يُغفر له.”

 

رغم أن كلامه كان تجاوزًا كبيرًا، إلا أنني أومأت برأسي موافقة.

 

‘بما أنني أوصلت الجدة إلى مكان آمن، عليّ أن أعود إلى القصر حيث يوجد الدوق كالينوس.’

 

لكن بالضبط عندما فكرت في ذلك ورشفت من الشاي، حدث ما لم يكن بالحسبان.

 

فُتح باب غرفة الاستقبال بصوت عنيف، وظهر كبير خدم بيت الكونت ووجهه ممتقع من الذهول.

 

“سـ، سيدي الكونت. الأمر هو أن… دوق، دوق كالينوس قد جاء.”

 

“لماذا؟”

 

“أوه، يبدو أن الدوق جاء بحثًا عني.”

 

رغم أنني لاحظت قطرات العرق البارد تتلألأ على جبين كبير الخدم، فقد ظننت أن بإمكاني تبرير الأمر ببساطة.

 

فأي سوء فهم صغير يمكن توضيحه فورًا!

 

***

 

“جئت للبحث عن زوجتي الهاربة.”

 

…لكنني لم أتوقع أن يأتي إليّ بهذه النظرة الحادة المليئة بالدماء!

 

أخذت ألوّح بيدي بسرعة نحو الرجل الجالس على الأريكة المقابلة وقلت:

 

“ماذا؟ أنا، لم أهرب! كل هذا كان بسبب خلل في المخطوطة السحرية، صدقني!”

 

“تقولين إنه كان خللًا في المخطوطة؟”

 

“نعم، بالطبع. كنت سأتوجه مباشرة إلى قصر كالينوس بعد أن أطمئن على الجدة المختطَفة وأضعها في قصر فلوريت…”

 

ضاقت عيناه قليلًا.

 

“فهمت. حسنًا.”

 

تفاجأت بمدى سرعته في القبول، فمالت رأسي بفضول، لكنه قال:

 

“في الواقع، أظن أنه لم يعد يهمني سواء كنتِ قد هربتِ أم لا.”

 

“ها؟ أحقًا؟”

 

أمال رأسه جانبًا قليلًا، ثم وقف فجأة وتوجه نحوي.

 

ثم بكل بساطة، أحاطني بذراعيه من الجانبين…

 

‘هل هو… حاصرني بذراعيه الآن؟’

 

اتسعت عيناي ونظرت إليه بدهشة بسبب هذا التطور المفاجئ.

 

“لأنكِ لن تستطيعي الهروب مجددًا.”

 

كانت عيناه الحمراوان تحدقان فيّ كما لو أنه يخترقني بنظراته.

 

كلماته تُشبه ما يقوله أبطال الروايات الرومانسية من النوع المهووس!

 

لكن…

 

‘هل يقصد أنني مهمة له كأنثى؟ أم لأنه يرى أنني مساعدة كفؤة لا يريد التفريط بها؟’

 

…ربما لأن هذا الشخص يضع كل طاقته في البحث العلمي، فإن كلامه بدا لي وكأنه يقول: “لا يمكنني أن أفقد طالبة الدراسات العليا التي تساعدني.”

 

كثرة الأحداث أفقدتني التركيز، فصرت أكثر حيرة.

 

ثم همس فجأة، كمن يضع نقطة نهاية:

 

“ماذا لو لم أوافق على الطلاق بيننا؟”

 

“ماذا؟ إذاً…”

 

نظرت في عيني دوق كالينوس الحمراوين بتركيز شديد.

 

أهم ما في هذا الموقف الآن هو…

 

“إذاً، ماذا عن أرانبي الخمسة مليارات؟”

 

المال.

 

اهتزت عينا الدوق الحمراوان بقوة، لكنني أمسكت بذراعه بشدة لأحثه على الإجابة.

 

في تلك اللحظة، جاء صوت تحطم من جهة بعيدة.

 

“هل السيدة جيزيل في غرفة الاستقبال؟”

 

“ما هذا؟ ولماذا تزورون قصرنا فجأة من دون إنذار مسبق، حضرة والد الزوج؟”

 

“لأنني، لأنني… أردت رؤيتها.”

 

كان هناك شجار يدور عند الباب، وكان الأمر مشبوهًا، فنظرت نحو الباب.

 

وكأن الدوق كالينوس قد شعر بالضيق، إذ ضاق طرفا عينيه.

 

“يبدو أن جدي ووالدي قد حضرا.”

 

فور عودتي من مهمة إنقاذ الجدة، بدأ ثلاثي آل كالينوس في قلب حياتي رأسًا على عقب.

 

وفجأة، فُتح الباب على مصراعيه، وتقدّم غارنو بعينين محمرتين.

 

“هل حدث شيء ما؟”

 

“مـ، مـ، مافن. أتيت لأعطيك المافن…”

 

نظرت إليه وهو يحتضن كيس الخبز بعناية وسألت:

 

“…عذرًا؟ أتيت كل هذه المسافة لتعطيني المافن؟ حتى أنك نسيت ارتداء الحذاء بشكل صحيح؟”

 

فكرت في نفسي:

 

‘ولماذا أصبح هذا الجد فجأة يخاطبني بلغة محترمة؟’

 

لكن حينها، حدق الكونت فلوريت إليه بنظرة باردة.

 

“تجرّأت على إهانة ابنتي، والآن تأتي بالمافن؟ أي منطق هذا؟”

 

“لا، هذا لأنه، صهري….”

 

“تفضلوا بالدخول. علينا التحدث معًا.”

 

رؤية اجتماع هؤلاء الثلاثة أعطاني شعورًا غير مريح.

 

لكن للأسف، كل ما يمكنني فعله الآن هو الهرب من هذا الفوضى.

 

لأن…

 

‘حالة دوق كالينوس بدأت تصبح مريبة منذ لحظة. عدد أنفاسه في الدقيقة يصل إلى أربعين، بينما المعدل الطبيعي للإنسان هو عشرون فقط.’

 

وكأنه قطة صغيرة تتنفس بسرعة.

 

‘…ما هذا التشبيه الغريب؟ أظنني تأثرت كثيرًا بالدوق كالينوس.’

 

على أية حال، عادةً ما يتسارع النفس عندما يكون الإنسان غاضبًا، لذا فلا شك أنه في قمة الغضب.

 

نظرت إلى غارنو الذي بدا وكأنه سيبكي، ونيسلان المرتبك، والكونت فلوريت، وصفقت بضع مرات بشكل بارد.

 

“أيها السادة الثلاثة، أرجوكم، اهدؤوا وخذوا نفسًا عميقًا.”

 

“هـ، ها؟ كنت أرغب بالتحدث مع السيدة جيزيل…”

 

“أنا سأذهب في نزهة قصيرة مع الدوق. تنفسوا جيدًا. شهيق وزفير. تأملوا بهدوء هنا.”

 

“هـ، ها، حسنًا. حاضر، سيدتي.”

 

…رغم أن غارنو بدا هادئًا على نحو مريب.

 

‘سأؤجل حل هذا الجانب لاحقًا.’

 

بعد أن جعلت الرجال الثلاثة يجلسون في وضع التأمل، قررت الهرب من هذه الفوضى المؤقتة.

 

كان علي أولًا تهدئة زوجي الذي يبدو أن تنفسه لن يعود لطبيعته بالتأمل فقط.

 

***

 

“……يوجد ممر للتنزه بالقرب من السور. أليس جميلاً إلى حدٍّ ما؟”

 

قالت جيزيل وهي تنظر إلى دوق كالينوس بوجه مطمئن.

 

قصر فلوريت كان ذا بنية فريدة إلى حد ما.

 

فخلف السور الخارجي، كان هناك حديقة تنزه كثيفة بالأشجار، أنشأها الكونت السابق.

 

وقد صُمِّمت تلك الحديقة لتكون مفتوحة للجميع، سواء من خدم أسرة الكونت أو من الغرباء.

 

وفي ذلك المكان الهادئ المليء بالأجواء اللطيفة، بدا أن نبضات قلبه قد هدأت قليلاً أثناء تبادلهما الحديث بود.

 

“أيمكنك أن تشعري بالفايتونسايد*؟”

 

“نعم.”

 

(الفايتونسايد (Phytoncide) هو مصطلح يُطلق على المركبات الكيميائية الطيّارة التي تطلقها الأشجار والنباتات، وخاصة الأشجار الصنوبرية، بهدف الدفاع عن نفسها ضد البكتيريا والفطريات والحشرات، وهي مفيدة للانسان.)

 

“إذاً، بما أنكَ هدأت الآن، فلنعد إلى الحديث الذي بدأناه. ما معنى أنك لا توافق على الطلاق بالتراضي؟ وماذا عن الخمسة مليار الخاصة بي؟”

 

“كما قلت تماماً، يا جيزيل. ربما قد لاحظتِ ذلك بنفسك، لكن بطريقة غريبة، أصبحت أملك رغبة في احتكارك وامتلاككِ بطريقة قذرة.”

 

كانت عاجزة عن الرد، لكنه تابع حديثه قائلاً:

 

“لكن بالفعل، عندما أتنزه معكِ هكذا، أهدأ قليلاً على ما يبدو.”

 

“نعم، لنهدأ ونتحدث برويّة عن مبلغي، الخمسة مليار.…”

 

….لكنها لم تكمل عبارتها.

 

فقد ظهر خلف دوق كالينوس وجه مألوف.

 

“أوه، جيزيل. كنتِ هنا إذن.”

 

عند سماع ذلك الصوت المألوف إلى حد ما، تجمد جسد جيزيل تماماً.

 

شعر ذهبي مقدس، وعينان زرقاوان.

 

تركيبة مظهره تشبه إلى حد ما ريويس، الذي تحبه.

 

“.…دوق ليشانييل؟”

 

تبع دوق كالينوس نظرة جيزيل التي استقرت على دوق ليشانييل.

 

لكن دوق ليشانييل لم يكترث بمن كان معها، بل ابتسم لها بلطف.

 

ويبدو أن سماعه لاسمه يخرج من شفتيها جعله يشعر برضا كبير.

 

“لقد مر وقت طويل. لقد اشتقت إليكِ.”

 

رجل ذو نفس خبيثة كتلك، يبدو شديد التناقض وهو يرتدي بدلة بيضاء ويحمل باقة زهور.

 

تمسكت جيزيل بيد دوق كالينوس بإحكام، وردّت على ليشانييل بحدّة:

 

“لا أشعر بأي أسف، لكن لا أظن أننا في علاقة تسمح لك بالترحيب بي أمام بيتي، أليس كذلك؟”

 

ابتسم دوق ليشانييل بلطف وعذوبة، كما لو كان قديساً يتقبل آثام الخطاة، وقال:

 

“آه، جيزيل. لا أعلم ما الذي أغضبك مني. إن كنت غاضبة من شيء، فقولي لي. فقط لا تظهري ذلك على هيئة دلع طفولي كهذا.”

 

رمق دوق ليشانييل دوق كالينوس بنظرة جانبية، لكنه لم يتلقَ أي رد.

 

بل على العكس، ردت جيزيل بابتسامة حازمة وقولٍ قاطع:

 

“هم، هذا ليس دلعاً.”

 

في تلك اللحظة تماماً، شد دوق كالينوس قبضته على يدها وأطبق أسنانه بصوت مسموع.

 

لقد كان يحاول أن يظل هادئاً.

 

لكن فقط في هذا اليوم، تعرض لمواقف ثلاث أزعجت أعصابه بشدة.

 

أولاً، اختطاف جيزيل. وهنا فقد صوابه بنسبة 180 درجة.

 

ثانياً، هروب جيزيل. مما تسبب له بقلق مفرط.

 

وثالثاً.

 

ظهور دوق ليشانييل، الذي لا يستحق حتى لقب ‘منافس’.

 

وأخيراً، في تلك اللحظة.

 

قال دوق كالينوس بصوت منخفض وهو يحجب رؤية جيزيل لذلك “المنافس”:

 

“ها قد ظهرت القمامة.”

 

وبهذا، بدأت المواجهة الثلاثية المنتظرة.

 

“ولذا، سأقوم بالتخلص منها. حالاً، في هذه اللحظة.”

 

قالها دوق كالينوس وهو يُشهر سيفه على الفور، وملامحه يكسوها الشؤم.