الفصل 115
***
بخطواتٍ خفيفة.
في ظلمة الليل، كنتُ أتمشى بحذر في الممرات محاوِلة كتم خطواتي.
بعد أن صرفت جميع الوصيفات، دخلت على رؤوس أصابعي إلى مكتبة عائلة كالينوس، تلك العائلة النبيلة في فنون السحر.
أُعجبت للحظة بطول الأرفف المتراصة قائلة في نفسي: ‘مكتبة أسرة كالينوس السحرية مذهلة فعلًا.’
لكن إعجابي لم يدم طويلًا.
فلقد اصطدمت مباشرة بنيسلان، الذي كان يتبادل همساتٍ مع غارنو في قسم الطب بالمكتبة.
“آه، صغيرتي؟”
“…أبي.”
“ما الذي جاء بكِ إلى المكتبة…؟”
بحركة غريزية، وضعتُ كفّي على وجهي كما لو كنتُ زهرة متفتحة وقلت:
“همف، أتيت لأحقق واحدة من أمنيات جيزيل! جيزيل كانت تفتقر إلى المعرفة، فقلتُ لِمَ لا أملأ رأسها قليلًا!”
في الحقيقة، لم يكن الأمر كذلك.
لقد أتيت إلى المكتبة بسبب المفتاح الذي ورثته عن والدي.
“انظر، إنه محفور من الخارج! أليس كذلك؟”
“كوكو. (صحيح! هذا ما هو مكتوب!)”
النقوش البارزة على سطح المفتاح كانت تشبه طريقة برايل، فبدأت أتحسسها بأطراف أصابعي، لكن كوكو بدا متضايقًا واقترب من المفتاح.
(طريقة برايل هي الكتابة الخاصة بالمكفوفين، تحسس النقوش لفهم المعنى)
“كوكو. (ها هو! يبدو أنه بلغة الجنيات!)”
“هل تعرف لغة الجنيات؟”
“كوكو. (الشيء الوحيد الذي لا يعرفه التنين العظيم! أقصد، لغات غير لغة التنانين والبشر!)”
الرموز الغريبة التي كتبها كوكو بدت وكأنها جملة بلغة لا أفهمها.
شعرت أن تلك الجملة تحمل سر طريقة استخدام المفتاح، لكنني لم أستطع تخمين معناها.
‘ولهذا السبب جئت إلى مكتبة العائلة السحرية لأبحث عن معلومات تتعلق بلغة الجنيات…’
لكن من المؤكد أنه ليس من الجيد أن يعرف أحد بأني أتيت إلى المكتبة.
‘فأنا، من حيث الصورة الظاهرة، مجرد فتاة حمقاء، لذا قد يثير قدومي إلى المكتبة الشبهات، أليس كذلك؟’
كنت أتحرك سرًا بحذر لأخفي وجود المفتاح عن الجميع، لكن في النهاية اكتشفني كل من غارنو ونيسلان.
ابتسمت لهما بابتسامة عريضة، وأضفت:
“سأكتب رسالة إلى الدوق بلغة الجنيات! إنها الموضة حاليًا! رومانسية جدًا ومبهرة، أليس كذلك؟ نـــعــم؟”
حتى أنا شعرت أن كلامي غير مقنع، لكنهما نظرًا إليّ بنظرات تعاطف غريبة وأجابا:
“قائمة الأمنيات، تقولين…؟ تلك تُحقق قبل الموت، عادةً…”
“لا، لا تقلقي… فأنا أملك بعض المعرفة في اللغات.”
كنتُ أتجاهل كلام نيسلان، لكنني فتحتُ عيني على وسعهما عندما سمعت ما قاله غارنو.
“حقًا؟”
“أستطيع مساعدتكِ. لقد جُلتُ أنحاء القارة الشرقية وتعلمتُ جميع اللغات الممكنة.”
بالنسبة لي، لا بأس. لكن، لماذا فجأة أصبح هذا الجد لطيفًا جدًا معي؟
“إذن، ما المقابل؟”
“مقابل؟ نحن عائلة! تعالي لتناول الفطيرة معي من حين لآخر فقط.”
ألم تكن تنكر أنني فرد من العائلة من قبل؟
ثم قال غارنو وهو يخفض رأسه قليلًا:
“…حسنًا. إذًا، ما الجملة التي ترغبين بكتابتها؟ لقد ألّفتُ قاموس لغة الجنيات بنفسي. هيا اجلسي هنا.”
وبينما كان يسحب طرف كمّي ليجلسني بسرعة على أحد الكراسي، توقف فجأة.
“….لماذا صرتِ نحيلة هكذا؟”
ماذا؟ أنا آكل جيدًا وأبدو ممتلئة نوعًا ما!
وهكذا، بدأت جلسة دروس مكثفة في لغة الجنيات مع الجد غارنو.
وطبعًا…
“لغة الجنيات سهلة إن درستِها جيدًا. ابدئي بالحروف.”
“آآه، جيزيل لا تريد قضاء وقت طويل في الدراسة… أشعر أن دماغي سينفجر! هل هناك طريقة سهلة وسريعة؟”
“مـمـ، ماذا؟ سينفجر؟ سأقوم بتلخيصها في ملخص سهل وسريع يمكن لطفل أن يفهمه خلال 30 دقيقة!”
….أنا فقط كنت أبحث عن حيلة للتهرب من الدراسة.
لماذا صار هذا الجد فجأة لطيفًا إلى هذا الحد؟
وحتى نيسلان، الذي لم يلاحظ غرابة الوضع، استمر في إطعامي مكملات غذائية وكأني عصفورته الصغيرة.
وهكذا استمرت دروس الجنيات الغريبة طوال الليل.
وأخيرًا، تمكنت من فك رموز الجملة المنقوشة على المفتاح.
***
في صباح اليوم التالي.
كان غييت قد استيقظ باكرًا، يتجول بين منصات الجرعات وهو يقطب جبينه.
“لقد كنتُ على موعد مع جدتي أمام هذا المكان…”
لكن وسط الزحام الذي سببه المشترون، لم يظهر لجدته أثر.
غمرت ملامح غييت بالقلق والظلمة.
‘حين أفكر بالأمر، كان هناك شيء مريب فعلًا.’
بينما كان يعمل بجد، وصله فجأة خطاب من جدته، وكان محتواه مشبوهًا للغاية.
بأسلوب جاف، كُتب فيه: [تعال إلى منصة الجرعات أمام المقهى الذي ترتاده كثيرًا].
لكنه ظن أن التغيير في الروتين، حيث لم يعد يتناول الطعام يوميًا مع جدته كما اعتاد، قد جعلها تشعر بالاستياء، لذا أسرع بالمجيء.
‘ما الذي يحدث؟’
وبينما كان يتلفت حوله بقلق، أمسكت به إحدى العجائز تسكن بجواره على عجل.
كانت المرأة ذات شعر أبيض بالكامل، تحدق فيه بوجه مضطرب وقالت:
“أيها الطبيب غييت! هناك مصيبة! جدتك اختفت!”
“ماذا؟ ج… جدتي اختفت؟ ماذا تقصدين…؟”
“نعم، آه، كنتُ على موعد للعب الورق معها اليوم، لكنني صُدمت عندما رأيت ردها، فأتيت على عجل!”
اتسعت حدقتا غييت فجأة.
“ماذا… ماذا تقولين؟ جدتي لا يمكن أن تذهب هكذا… لا يمكن أن تخلّ بوعدها معي!”
“لكن… حفيدتي قالت إن جدتك تبعت بعض الرجال الغرباء. ربما عليك إبلاغ الحرس تحسبًا.”
“ماذا؟ ج… جدتي فعلت ذلك؟”
‘ما الذي يحدث على وجه الأرض؟’
بينما كان ينهار على الأرض وقد خذلته ساقاه المرتعشتان، لمح ورقة صغيرة على منصة الجرعات.
شعر غييت على الفور بأنها ليست ورقة عادية.
‘لا يعقل… هل من الممكن أن تكون…”
أسرع في التقاط الورقة المطوية وفتحها بعجلة.
[جدّتك معنا حاليًا.
لا تقلق، فهي بأمان.
لكن.
نرجو إحضار الطبيبة ’موجي‘ إلى هذا المكان قبل الغد.
نرغب في إجراء حديث صادق مع السيدة ’موجي‘، أيها الدكتور غييت.
ملاحظة.
إذا تحدثت في هذا الشأن مع أي شخص غير السيدة ’موجي‘، فلا يمكننا ضمان سلامة الجدّة.]
رغم أن أسلوب الكتابة بدا مهذبًا، إلا أن فحواه كان بسيطًا.
لقد اختُطفت جدته.
ويُطلب منه إحضار موجي.
وما إن أنهى قراءة الرسالة، حتى طارت الورقة في الهواء.
“هاه…”
فوووش!
واحترقت الرسالة، كما لو أن الفاعلين يريدون محو الأدلة.
راح غييت يرتجف وهو يلتفت بقلق حوله.
‘يبدو أن من اختطفوا جدتي لا يزالون بالجوار.’
شعر وكأن عيونًا تراقبه.
لكن ما من حسن حظ إلا وكان هناك خيط يمكن استنتاجه من الرسالة.
‘هم لا يعرفون أن السيدة موجي هي الآنسة جيزيل.’
إذاً، ما عليه فعله هو…
أمسك بحقيبة زياراته الطبية، وعضّ على شفتيه بقوة.
وعندما توجهت عيناه نحو المقهى، لمح ظلًا يتحرك خلف نافذة غرفة خاصة في الطابق الثاني.
وبما أنه “من معجبي موجي المتعصبين”، استطاع تمييزها بمجرد رؤية ظلها.
“أ… أحتاج إلى كوب من الشاي لأهدّئ يدي المرتجفة…”
لا أحد قد يظن أنه ذاهب للقاء موجي، مهما راقبه أحد.
بذكاء وارتباك، دخل غييت إلى المقهى.
***
“قضيت الليل أحفظ هذه الأحرف اللعينة… كنت سأموت…”
المكان الوحيد الذي يمكنني فيه مراجعة لغة الجنيات دون أن يلاحظني أحد.
هو غرفة خاصة في المقهى.
كنت أتمتم وأنا أتفقد قاموس “لغة الجنيات” الذي سلّمني إياه غارنو.
“لنرَ… هذا هو.”
<حين يسطع نور الإله عليّ، يُفتح الباب>
“نور الإله…؟”
تجهمت جبيني.
ثم واصلت القراءة…
<حين يسطع نوره عليّ، يُفتح الباب>
ظللت أفكر وأنا أمسح على ذقني، حتى خطرت لي فكرة لامعة.
“أظنني فهمت شيئًا.”
“كوكو؟ (ما هو؟)”
يقال إن الإنسان عندما يموت، يسطع نور وتبدأ حياته تمر كشريط أمامه، أليس كذلك؟
“ربما سطوع نور الإله يعني لحظة الموت؟”
“كوكو! (يعني لا يُفتح الباب إلا عند الموت؟!)”
لكن لا يبدو أن والدي صنع إرثًا بهذه الخطورة.
‘ما المغزى…؟ ’حين يسطع نور الإله‘…؟’
عبست بقلق عندما شعرت أنني على وشك فهم المغزى لكن ليس تمامًا.
وفجأة، انفتح باب الغرفة الخاصة، واندفع غييت إلى الداخل وكأنه شاخ عشر سنوات دفعة واحدة.
انغلق الباب خلفه بقوة، وجلس أمامي وهو يلهث.
“…أوه؟ غييت؟ ما الذي يحدث؟”
“ج… جيزيل! ج… جدتي…”
“قل لي، ما الذي حدث لجدتك؟”
“لقد… لقد تم اختطافها!”
“اختطاف؟”
ثم راح غييت يسرد التفاصيل بانفعال. أنهم طلبوا منه إحضار موجي مقابل رؤية جدته.
ومن أول وهلة، عرفت من الفاعل.
‘تبا لك، أيتها البعوضة. تجاوزت حدودكَ الآن.’
قبضت على المفتاح الذي كنت أدرسه، وسألت ببطء:
“أين؟”
“هاه؟”
“المكان الذي وُجد فيه آخر أثر لجدتك. أين هو؟”
التعليقات لهذا الفصل " 115"