الفصل 109
كان الكونت فلوريت وغييت يتبعان موجي بسرعة، خافضَين صوت خطواتهما.
ولأنها كانت تحاول كتم سعالها، لم تنتبه جيدًا لما حولها، ولهذا تمكنا من الاقتراب منها بسهولة.
لكن حين تقدّم الكونت فلوريت ليواجهها…
توقفت موجي فجأة خلف أحد المباني الخالية من الناس، وهي تلتوي بجسدها بعنف….
“كو، كحّ!”
وبدأت تسعل دمًا بشكل فوضوي.
توقف الكونت فلوريت في مكانه باندهاش.
“ما الذي يحدث على وجه الأرض، يا كونت فلوريت؟ موجي مريضة! علينا أن نحضر لها دواءً…”
“الـ… المرض مهم، نعم، لكن…”
تشوّه وجه الكونت فلوريت إلى نصف تعبير مريع.
“ذلك الوجه… إنها كونتيسة سهيرا…”
كيف له أن ينسى وجه زوجة أعز أصدقائه؟ خاصةً وهي تشبهه تمامًا!
“لقد لقّنتُ ذلك المحتال الذي استغل الضعفاء درسًا لن ينساه. القتل لا يُمتعني، هوهو.”
“أجل، ما قالته زوجتي صحيح. كيف لقّنتِه الدرس؟”
“أريته سحر أوهام يجعله يتعذب حتى يكاد يموت!”
“أ… أنتِ تجيدين سحر الأوهام؟”
“أليس غريبًا؟ فقط جربته ونجح!”
كانت سيدة مذهلة قادرة على استخدام سحر لم تتعلمه حتى.
تدافع عن الضعفاء، وتُجيد تحقير الناس بابتسامة لطيفة. كيف يُمكن نسيانها؟
حتى إن لم يكن الآخرون يتذكرون وجه الكونتيسة سهيرا بسبب قلة ظهورها، فالكونت فلوريت كان يعرفها جيدا.
تجمد غييت من الدهشة حين سمع اسم كونتيسة سهيرا، واختبأ خلف المبنى.
نظر الكونت فلوريت إليه بطرف عينه، ثم توجه نحو موجي التي كانت قد هدأت سعالها قليلًا.
“من تكونين؟”
“آه، أفزعتني… كح، كح!”
وفي تلك اللحظة، انفجرت موجي فجأة من جديد، تقذف دمًا كما لو أنها نافورة.
وخلال فترات الراحة القصيرة بين السعال، بدأت تشرب الجرعات بلا توقف.
كان ذلك السعال شيئًا لا يفعله سوى من اقترب أجله.
ناولها الكونت فلوريت منديلًا وهو يقول بأسى:
“هاك، خذي هذا المنديل.”
“شكرًا… كح!”
وبعد أن انتهى الصخب، وهدأت قليلًا بعد شرب جرعة،
نظر إليها الكونت فلوريت، وكانت نظرته أكثر برودة وحدة من ذي قبل.
“سمعت أن اسمكِ موجي. لكن ما علاقتك بالكونتيسة سهيرا؟ أنتما متشابهتان بشكل لا يُصدق. لا بد أنكما قريبتان على الأقل، من الدرجة العاشرة.”
“الدرجة العاشرة؟ في هذه الحالة نُعد غرباء.”
حتى ردّها الحاد يُشبه الكونتيسة سهيرا!
وبينما كان يُحاول استعادة المنديل منها، مدّ يده بلا قصد وأمسك بمعصمها.
“آه، أرجوك! افلت يدي أولًا ثم تكلم!”
….كان أمرًا غريبًا فعلًا.
فهي لا تُشبه الكونتيسة سهيرا فقط في الشكل، بل حتى في نبرة الصوت.
فما كان من الكونت فلوريت إلا أن لان فجأة، وخفّت قبضته.
‘أوه، من أين أبدأ… لم أكن أعلم أن هذا الوجه يعود للكونتيسة سهيرا… هذا معقد.’
وحين مرّرت أصابعها بين شعرها بتردد، وقع نظر الكونت فلوريت على العقد المعلّق في عنقها.
“هـ… هممم؟”
لم يكن مرئيًا من قبل، لكنه ظهر بفعل السعال العنيف.
فتّحت عينا الكونت فلوريت على وسعهما من جديد.
‘ذلك العقد هو تذكار من الكونت سهيرا، وقد أعطيته لجيزيل… ما الذي…’
لاحظت جيزيل أن نظراته مركزة على عنقها، فأعادت العقد داخل ثيابها بتصرف متوتر.
“…آه، يبدو أن العقد قد خرج.”
وفي خضم ارتباك الكونت فلوريت،
قالت موجي، بعد أن أنزلت المنديل عن فمها، بصوت واضح:
“أعلم أن التوقيت سيئ، لكن… أنا جيزيل، كونت.”
“….مـ، ماذا؟!”
“سأشرح كل شيء لاحقًا، فقط أرجوك، لا تخبر عائلة كالينوس.”
وما إن رأت موجي، لا، جيزيل، عيني الكونت فلوريت تتسعان من جديد، حتى رفعت كتفيها بلا مبالاة.
لم تكن تتوقع أن يتم كشف أمرها بهذه الطريقة السخيفة، لكن لم يهم.
فبما أن وجهها يُشبه وجه والدتها، فكان مجرد مسألة وقت قبل أن يعرف الكونت فلوريت.
لكن المشكلة كانت في شيء آخر.
طَطَطْ.
صدر صوت سقوط شيء ما من عند مدخل المبنى.
“…غييت؟”
وكانت عينا غييت ترتجفان بوضوح حتى من بعيد، بعد أن التقت بنظرات جيزيل.
‘أوه، تبا…. لم يكن يتبعني لوحده؟’
لم يكن واضحًا ما الذي يفكر فيه، لكن عينيه كانتا تلمعان بالفعل بدموع التأثر.
***
بعد مرور أكثر من عشر دقائق.
بعد أن تأكدتُ من خلوّ المكان، خلعتُ قلادة السحر التنكري أمام عيني كونت فلوريت، وأثبتُّ له أنني جيزيل.
وخلال ذلك، واصل غييت، الذي تورمت عيناه وانتفخت كعيني سمكة، رفع تقريره إلى الكونت فلوريت.
“كح، كحح، ككككح. لقد كانت آنسة موحي، لا، السيدة جيزيل حقًا مدهشة. كانت صاحبة روح عظيمة.”
“أكل هذا السعال الدموي، سببه أنكِ استنفدتِ طاقتك أثناء إنقاذ الآخرين؟”
سأل كونت فلوريت وهو يرمقني بنظرة مملوءة بالقلق.
“هل هذا مؤكد؟ لا يتعلق الأمر بمرض عضال أو… شيء من هذا القبيل؟”
ولحسن الحظ، سارع غييت إلى نجدتي.
“مستحيل! ألم تر كيف كانت تقوم بخدمة الفقراء في المناطق النائية؟ لقد أنهكت نفسها كليًا حتى استُنزفت قدرتها على الشفاء وبدأت تسعل دمًا. حقًا روح التضحية لديها عظيمة…”
“هاه! حتى أنها ذهبت للتطوع في المناطق النائية…. لا يجوز! عليكِ أن تعتني بجسدك!”
“أنا لم أذهب لأي تطوع طبي! ثم إن إنقاذ جلالة الإمبراطورة كان بدافع شخصي….”
“وتتواضعين أيضًا؟ جيزيل، أنتِ…”
أمسك بيدي فجأة، وكأنها المرة الأولى في حياته التي يقول فيها مثل هذا الكلام، تمتم بجديّة وبنبرة خجلة.
“أعتقد أنكِ أفضل من والدكِ البيولوجي.”
وحين تهرّب كونت فلوريت من نظراتي، أدركت الحقيقة.
لقد كان هذا أعلى شكل من أشكال المديح لديه!
كنت فقط أحاول أن أنسب إنجازات دوق ليشانيل لنفسي.
لكن ربما بسبب تراكم كل هذا الكم من سوء الفهم….
تحولت فجأة إلى “ملاك أبيض أنقذ الناس متخفيًا وهو يخفي هويته”.
لكن لم يكن لديّ الوقت لتصحيح أوهام غييت وكونت فلوريت.
فجأة، ومن بعيد، صدحت أصوات تنادي: “الطبيبة موجي!”
***
“ولكن… ما الذي يفعله الكونت فلوريت في هذا المكان؟”
داخل غرفة الاستقبال، حيث جلس الإمبراطور والإمبراطورة وأنا وكونت فلوريت.
نظر الإمبراطور إلى الكونت الذي جلس بكل هدوء وكأنه ضيف رسمي، وأشار إليه بعينيه بتوتر.
عندها، أعلن الكونت فلوريت بنبرة جادة:
“أنا وصي هذه الفتاة—”
… لا، هذا الرجل!
تدخلت على عجل وابتسمت بتوتر.
“هو، هو وصيي. نعم، لقد كان يدعمني منذ فترة، فذهبت إليه وطلبت منه أن يرافقني لهذا اللقاء الهام.”
“آه، هكذا إذًا! كما توقعت، الكونت فلوريت يملك عينًا ثاقبة. لكن لم أتوقع أنك ستترك اجتماع مجلس الشؤون الإمبراطورية من أجل موصى عليه.”
“على كل حال، أظن أن الاجتماع متوقف مؤقتًا في الوقت الحالي.”
تبادل الإمبراطور نظرة سريعة معي قبل أن يسأل بلطف:
“ذلك… هل عاد دوق كالينوس ودوق ليشانيل؟ أم أنهما ما زالا هناك…؟”
“ربما لا يزالان في قاعة الاجتماعات. كانت الأجواء بينهما مشحونة بعض الشيء. لا بد أن السبب هو القانون الذي نوقش سابقًا.”
“ذلك… القانون الذي يسمح لمواطني الإمبراطورية باتخاذ محظيات؟”
…. هل جنّ هذا الرجل؟
‘هل ينوي أن يتخذني محظية أم ماذا؟’
في اللحظة التي انبثق فيها هذا الشك المقرف في ذهني، انبعثت في ملامح الكونت فلوريت نظرة مملوءة بالرغبة في تمزيق شخص ما، ثم توقف فجأة.
“نعم، صحيح. أعتذر لتطرقي لهذا الأمر، ولكن بعد انتهاء التعليق المؤقت للجلسات، أعتقد أن هناك حاجة لإعادة دراسة مدى صلاحية هذا القانون… هناك آراء جديرة بالاستماع طرحت في هذا السياق.”
“هاه؟ إعادة دراسة؟!”
صرخ الإمبراطور غاضبًا، وعندما أنا والكونت حدقنا فيه بتوتر، تراجع فجأة وتغيّرت ملامحه.
“لا يجب أن يوجد قانون كهذا في الإمبراطورية. أبدًا.”
بينما كان يبدو مرتاحًا، فتحت الإمبراطورة فمها وقالت:
“الآن وقد زالت همومك، لنتحدث عن مكافأة الطبيبة موجي، يا جلالة الإمبراطور. كنت أفكر بالأمر… ألا تذكر السفينة المفقودة منذ مئة عام؟ لقد تم العثور عليها مؤخرًا ورفعها إلى الميناء.”
“آه، نعم. سمعت أن علماء الآثار قالوا إن فيها عددًا كبيرًا من المجوهرات والآثار الثمينة.”
“أفكر أن نمنحها حرية اختيار ما تريد من تلك الآثار النادرة التي استُخرجت من تلك السفينة. فهي في الوقت الراهن الأثمن قيمة.”
لكنني لم أكن مهتمة كثيرًا بتلك الكنوز الثمينة.
فهي أشياء منحها الإمبراطور، ولا يمكن لمجرد عامية مثل موجي أن تبيعها كغنائم، لذا فهي مجرّد زينة للعرض، لا أكثر.
‘لا أهتم بالمجوهرات التي لا يمكن تحويلها إلى مال.’
بينما كنت على وشك رفض العرض بفتور، فتحت الإمبراطورة فمها من جديد.
“لقد ألحّ العديد من النبلاء على جلالة الإمبراطور للسماح لهم بالدخول إلى السفينة، حتى أن الأمر شلّ العمل الحكومي. وخاصة دوق ليشانييل، كان فضوليًا جدًا بشأنها.”
حينها، اتسعت عيناي من الدهشة.
‘حتى ذاك البعوض كان يطمع بها؟ إذًا السفينة فعلاً تحوي شيئًا مذهلًا؟’
التعليقات لهذا الفصل " 109"