يحتوي الفصل على بعض اللقطات المزعجة.
عند خروجي إلى الحديقة، كنتُ أتحسّب لكل سكيرٍ تائه أو تمثالٍ يلوّح به الظلّ، فإذا بالأضواء تنطفئ دفعةً واحدة، ويغمر الظلام المكان بصمته الكثيف.
بدا المشهد وكأن يدًا خفيّةً قد زيّنت الحديقة بعناية، إلا أنّ ضعف الرؤية جعل التماثيل أشباحًا باهتةً لا تتضح ملامحها.
ولحسن الحظ، كان ثمة ضوءٌ خافت يتسلل من النوافذ، يبدّد قليلاً من وحشة المكان ويمنحني أثرًا واهيًا من الأمان.
سرتُ بشيءٍ من الجرأة عبر ممر النزهة، غير أنّ الريح عصفت فجأة، فارتددتُ خطوةً إلى الوراء وشعرتُ بتردّدٍ يلمس أعصابي.
لم يكن ذاك نسيمًا عابرًا، بل ريحًا قارسة تنفذ بحدّتها إلى تخوم الموت.
توقّف الرجل الذي يسير معي، وحدّق بي بدهشةٍ هادئة قبل أن يقول:
“سيدتي السكرتيرة؟”
فأجبته بارتباك:
“آه… لا شيء، فقط…”
غير أنّ البرد كان واقعًا لا يُكابَر، والعجز عن العودة إلى القاعة حقيقة لا سبيل إلى إنكارها.
تمتمتُ في سرّي:
‘أ انقضى الشتاء حقًا؟’
ثمّ حاولت أن أبدو متماسكة وأكملت السير.
وفي تلك اللحظة، أفلتت يدُ الرجل يدي رويدًا، فسقطت ذراعي تلقائيًا، ولم أدرك في بادئ الأمر أنّ التشابك بيننا قد انحلّ.
لكن حين شعرتُ بالفراغ، رفعت رأسي، فإذا بلمسة هادئة تستقرّ فوق كتفي، وينتشر منها دفء يكسو ذراعي ويعانق الجزء الأعلى من جسدي.
نظرتُ إلى كتفي، فوجدتُ معطف الرجل ينساب عليّ.
“آه… هذا…”
لم أتوقع منه هذه الرعاية، فارتبكتُ ولم أجد سؤالًا مناسبًا، بينما قال بهدوءٍ لا يتغيّر على محيّاه:
“الجو بارد، فارتدي المعطف. يمكنك إرجاعه لاحقًا… لا الليلة.”
“…ألا تشعر بالبرد، أيها الفارس؟”
“الجو بارد قليلًا، لكن ليس بما يستدعي المعطف.”
توقفتُ لحظة، ثم أدركتُ ما تخفيه كلماته: البرد لم يكن قليلًا كما أوحى.
“خذ المعطف، لستُ بحاجة إليه.”
“لكنني رأيتك ترتجفين عند خروجك إلى الحديقة.”
“كنت أرتجف… لا، هذا بسبب تغيّر الحرارة فجأة. لن أنتزع منك حقّ معطفك.”
“لم تنتزعيه، بل أعطيتك إياه.”
“ومع ذلك… أشعر وكأنني أخذته منك.”
وفي النهاية، كان هو المنتصر في تلك المناقشة الصامتة، فرفضه كان صريحًا قاطعًا، حتى خضعتُ له.
تنهدتُ وهممت بارتداء المعطف سريعًا، غير أنّ الريح أجبرتني على تغطية ذراعي مجددًا، فتكفّل هو بتثبيته حولي بإحكام.
كانت تلك حركة غريزية لتجنب البرد، وحين لمحتُ طول الكم، تسلّل إليّ شيء من الحرج، لكنه بدا راضيًا كل الرضا.
وازداد حرجًا حين حاول مساعدتي على إغلاق الأزرار:
“ألا تريدين إغلاق الأزرار؟”
“لا حاجة لذلك.”
“حسنًا.”
ابتعدت يده، وشعرتُ بالارتياح لفكّ هذا الاحتكاك القريب، إلا أنّ حرارة جسدي بدأت تتصاعد، تؤثر فيّ تأثيرًا غريبًا.
‘لو كنتُ معجبة به حقًا، لأسأتُ الظنّ بتصرّفه…’
رجلٌ عملي، ومع ذلك لا يبخل بلطفٍ يربكني؛ يمنح المعطف ويثبّت الأزرار بنفسه.
وخطر لي أن أوبّخه، ففعله ذاك قد يورث سوء فهم لأيّ شخص آخر.
قلت:
“هنالك نباتات زينة كثيرة، أليس كذلك؟”
“نعم.”
“في الحديقة قرب النافورة لم يكن سوى أشجار، لكن هذه الحديقة مزهرة طوال العام.”
تابعت السير على الممر المشذّب، مستندةً إلى نورٍ خافت يتسرّب من نافذة القاعة، والهواء البارد ينعش صدري.
ظهرت مصابيح صغيرة على الأرض، تُسهّل عليّ السير وملاحظة المكان.
“هناك أيضًا زخارف ذهبية… يبدو أنّ ذوق البارون فخمٌ جدًا.”
“وشرائط حريرية معلّقة في أغصان الشجر.”
“حقًا؟ من وضعها؟”
تمتمت الكلمات على لساني، فهزّ رأسه موافقًا بجدية:
“مع ذلك، النباتات تحت الشجرة أثمن من تلك الشرائط… لقد استوردتها مؤخرًا.”
وأشار إلى نباتاتٍ غريبة الشكل، ثم التفت إليّ صامتًا.
فغمرني شيء من الحرج، وعبثتُ بحلق أذنيّ قائلة:
“كنت أتحدث بلا طائل، أليس كذلك؟”
“لا… ليس الأمر كذلك.”
هزّت الريح بعض النباتات على نحوٍ غير معتاد، تلك ذاتها التي تحدثنا عنها، فحدّقنا فيها بحذر، وارتفع التوتر حين لاحظنا حركة غير مألوفة.
قال الرجل:
“سأذهب للتحقق.”
“ماذا؟ دعني آتي معك.”
“ابقَي في الضوء… لا خطر هناك.”
راقبته بصمت وهو يبتعد، ثم سمعتُ صوتًا غريبًا ينبعث من نقطة قريبة:
آه… أظنني سمعت شيئًا… هل ثمة ما يُسمع بعد؟
انتظرتُ… آه!
تقدّمنا خطوات قليلة، فانبثق أنينٌ واضح يعقبه تنفّسٌ خشن.
حتى حفيف أوراق الشجر لم يفلح في إخفاء ذاك الأنين.
آه، آه! آه، سيدي البارون!
آه، آه! آه!
تجمّدت في مكاني قبل أن أقترب أكثر، وارتجف جسدي بين بردٍ طاغٍ وخجلٍ آسر.
اندفعت حرارة داخلية إلى صدري، وبدأت أخلع المعطف لأخفف وطأة الدفء، فإذا بصوتٍ منخفض يهمس قرب أذني:
“لماذا تخلعين المعطف؟”
“…!”
كنت قد نسيت أنه خلفي، فارتجف جلدي من وقع همسه.
التقت عينانا؛ عيناه السوداوان صافيتان على نحوٍ يربك النظر.
قال ببطءٍ غريب التأثير:
“الريح لا تزال باردة… احتفظي بالمعطف حتى ندخل.”
كان صوته منخفضًا، يمضي في جسدي كارتجافة خفيفة، لا تشبه الخوف.
حاولت الكلام، لكن أنفاسنا تداخلت، وبقيت عيناه معلّقتين بي بثباتٍ مربك.
“…سيدتي السكرتيرة؟”
لم يتحرك، لا اقترابًا ولا ابتعادًا، بل ظلّ تركيزه مسمّرًا عليّ، حتى شعرتُ بالهواء من حولي يتبدل.
‘انتبه… الجو غريب…’
أغمضتُ عينيّ من شدّة الخجل.
تحطّم!
اخترق المكان صوت انكسارٍ بعيد، كأن شيئًا ضخمًا تهشّم بضجّةٍ هائلة، وانبثق ضوء القاعة فجأة في الحديقة.
التفتُّ نحو القاعة لأرى الجميع يحدّقون باتجاهٍ واحد، فتقدمت لأعرف ما حدث.
شظايا ضخمة تدحرجت على الأرض، بعضها بحجم رأس إنسان.
“سيدتي السكرتيرة.”
لم يكن أحدٌ هناك.
سمعت صوت الرجل يناديني، فمددت يدي تلقائيًا وأمسكت بذراعه.
لم يبعد ذراعه عني، بل دفع إليّ دفء جسده، فتنفّست بعمقٍ لا إرادي.
يرجى إدخال اسم المستخدم أو عنوان بريدك الإلكتروني. سيصلك رابط لإنشاء كلمة مرور جديدة عبر البريد الإلكتروني.
التعليقات لهذا الفصل " 9"