مرّ يومان كالبرق الخاطف، واقترب الموعد الذي سيغدو فيه الحُلمُ بالرجل حقيقةً ماثلةً أمامي.
لَمْ أُصدِّق يومًا أنَّ بإمكاني الإفلات من مصيري، لذا توسَّلتُ إلى السماء قبل نومي مرارًا، لعلّ الدعاء يُبدِّد هذا القدر.
رجوتُ أن يكون الحُلم مجرّد خدشٍ عابرٍ في ذاكرتي، جرحٍ طفيفٍ لا يترك أثرًا ثقيلًا في ضميري.
حينها، سأتمكّن من تجاهله بلا تأنيب، متذرِّعةً بأنّني لم أستطع التصرّف بعد سماع تلك الكلمات القاسية.
وبعد هذا الرجاء العميق، استسلمتُ للنوم، فكان الحلم الذي زارني تلك الليلة…
“…….”
لم يكن سوى دليلٍ جديدٍ على أنّ الرجل يقف تحت نجم الشؤم.
وعند انبلاج الفجر، ما إن فتحتُ عيني، حتى رميتُ نفسي على الوسادة، وغمرتُ رأسي بها كما لو كنتُ أهرب من العالم.
بدا حركي كمن غرق في بحرٍ من اليأس، ولم أشعر بالحرج لحظةً من هذا التصرّف الطفولي.
بل تمنّيت، لو سُمح لي، أن أُفجّر إحباطي بصوتٍ عالٍ يهزّ السكون.
‘اليوم فقط، لا أحتملُ ضميري اليقظ…’
لستُ واثقةً إن كان بوسع أيّ أحدٍ –إلا من كان أنانيًّا إلى حدٍّ مؤلم– أن يتجاهل مثل هذا العبء، لكنّي لم أكن أنانيةً ولا مضحِّية، بل فتاةً صغيرةً جبانةً تَخاف الصمت كما تَخاف الحقيقة.
كلُّ خطأٍ يثقل ضميري يسلبني النوم أيّامًا، والحلم الذي رأيتُه تلك الليلة أيقظ ذلك الخوف دفعةً واحدة.
كان الرجل واقفًا، يستند إلى جدارٍ في قاعةٍ غامرةٍ بالضحك والأنوار.
كانت القاعة تزدان بالبريق والزينة، والأعمدةُ تكتسي بتماثيل مهيبة تزيد المكان فخامةً ووهجًا.
تجوّل بخطواتٍ هادئةٍ بين التماثيل، ثم استقام بعد أن مالَ قليلًا بجسده.
في يده كأس شمبانيا لم ينقص منه شيء، ووجهه خالٍ من أي انفعال، ولكنّ الملل كان واضحًا في سكونه الهادئ.
اقترب منه أحدهم ليتحدّث، ثم انسحب، فناول الرجلُ كأسَه لخادمٍ، وأدار ظهره متّجهًا إلى المخرج بلا أيّ اكتراث.
غير أنّ الأصوات تعالت فجأة، صخبٌ وضجيجٌ وصراخٌ متداخل.
التفت الرجل نحو مصدر الصوت، فإذا بسكرانٍ يدفع آخر بعنف، يتعثر ويتمايل وسط الحشد.
نظر الرجل مجددًا نحو المخرج، وإذا بصرخةٍ أعلى تُشقّ الجوّ، تليها دويّةُ ارتطامٍ هائلة.
قبل أن يستدير، لمح تمثالًا ضخمًا يتأرجح ببطءٍ عند الباب، يميلُ كأنّه على وشك السقوط.
تجمّد الناس في أماكنهم، والسكير الذي صدم التمثال وقف مذهولًا.
خفتت الصرخات فجأة، وساد صمتٌ رهيب، وكأنّ الزمن توقّف…
وهناك انتهى الحلم.
كما في كلّ مرّة، انقطع قبل لحظة الإصطدام، وإن كان واضحًا أنّ الرجل أصيب.
حتى دون رؤية النهاية، كان يمكنني سماع دويّ السقوط، وتحطّم الحجارة، وصرخات الفزع.
إن حالفه الحظ، سيخرج بكسرٍ فقط، وإن خانه، فربّما يلقى حتفه.
ومعرفتي به تُخبرني أنّ الحظّ لا يبتسم له.
ولم أحتج لتفسيرٍ آخر، فأحلامي السابقة شاهدةٌ على سوء طالعِه.
“هاهْ…”
اعتدلتُ جالسةً على سريري، أستند إلى ركبتيّ، غارقةً في التفكير.
مرّت صور الأحلام القديمة أمامي، ثم ذكرى لقائنا الأخير، والمشهد الذي ختم الحلم.
وحين اتّخذتُ قراري، كانت الشمس قد أشرقت من نافذتي، رغم أنّني شعرتُ كأنّي لم أنَمْ لحظة.
تماسكتُ، رتّبتُ فراشي بحزم، وقلت لنفسي:
“سأتصرّف كأنّني بخير… فقط هذا اليوم.”
—
قابلتُ أحد الخدم وأخبرته أنّني سأحضر الاحتفال، ثم بدأتُ السير في الممرّ بخطًى بطيئة.
لم يكن الوقت قد حان بعد، غير أنّ ضجيج الضيوف المبكّرين ملأ القصر.
أغلقتُ النافذة إثر نسمات البرد التي تسلّلت، فصدر صوتُ انطباقٍ خفيفٍ…
وفي اللحظة نفسها، رأيتُ الرجل أمامي على الجانب الآخر، كأنّ القدر رتّب اللقاء.
“…….”
“…….”
كنتُ أبحث عنه أصلًا، لكنّ الصدفة سبقتني هذه المرّة.
تبادلنا نظراتٍ صامتة، ثم همَّ بالرحيل، فأمسكتُ كمَّه على عجل.
“سيدي الفارس!”
توقّف، نظر إلى يدي ثم إلى الأمام بصمت.
لكنّه لم يهرب، لحسن الحظ، فوفّر عليّ عناء مطاردته.
استجمعتُ شجاعتي، وقلت:
“سيدي الفارس، أودّ التحدّث بشأن ما دار بيننا قبل يومين.”
“نعم.”
“حين قلتُ إنّني أحبّك…”
أغمضتُ عينيّ بإحكام، مُحاوِلة كبح ارتباكي، وصوتي يخرج مكبوتًا قليلًا.
“نعم، كنتُ أعني ذلك.
السبب الذي جعلني أتبَعك دائمًا هو أنّني أحبّك حقًّا.”
“…….”
بدا عليه التوقّع، كأنّه يتذكّر النقاش القديم، لكنّي تابعتُ كلامي بسرعة قبل أن يوقفني.
“أنتَ رفضتني، أليس كذلك؟ قلتَ إنّك لا ترغب في أيّ علاقة.”
“صحيح.”
“ولأنّي لا أستطيع فرض مشاعري، قرّرت أن أنساها.”
رغم أنّ قلبي لم يُطاوعني على ذلك.
غير أنّ وجهي أظهر الحزن بإتقان، مستعينًا بمهارتي في التمثيل التي اكتسبتُها من عملي كسكرتيرة.
“لكن… لم أستطع، فالمشاعر لا تزول بهذه السرعة.”
“…….”
“لذا، أرجوك، ساعدني هذه المرّة فقط.
بعد اليوم، لن أُكرّر الأمر، فقط أريد إنهاء هذا العذاب.”
“هل تحتاجين مساعدتي تحديدًا؟”
“نعم، وبشدّة.”
لحسن الحظ، لم يبدُ عليه الرفض، بل أصغى إليّ بهدوء.
فاغتنمتُ الفرصة وقلت:
“أرجو أن ترافقني إلى الاحتفال.
إذا أمضيتُ وقتًا واحدًا معك، فسأقدر بعدها على نسيان مشاعري تمامًا.”
هذا القرار لم يكن وليد لحظة، بل ثمرة ليالٍ من التفكير والقلق.
ورغم أنّني أخفيتُ قصة الحلم، إلا أنّني كنتُ صادقة بقدر ما تسمح لي حالتي، أُخفي الخطر تحت مظهر الفتاة المرفوضة.
توقّفتُ أنتظر رده، مُستعدة لسماع الرفض.
“إذًا، تريدينني شريكًا لكِ… على أمل أن تنسي حبّكِ بذلك.”
“نعم، تمامًا.”
“حسنًا، أوافق.”
“…! أحقًا؟”
ابتسمتُ، وقلبي يضجّ بنبضةٍ فرِحةٍ خافتة.
أخفيتُ ابتسامتي بيدي، فيما تابع هو بهدوء:
“كما قلتِ، لا تُمحى المشاعر في يومٍ وليلة، وأتفهم أنّكِ بحاجة إلى وقت.”
“……شكرًا لك.”
“على أي حال، كنتُ سألتحق بالاحتفال على كلّ حال، لذا لا فرق في وجودكِ.
سأعاونكِ.”
كلمته تلك “سأعاونكِ” كانت رسميةً باردة، لكنها بالنسبة لي بدت وعدًا غامضًا بالطمأنينة.
أخفيتُ ارتجاف صوتي وقلت مبتسمةً:
“شكرًا، سيدي الفارس، وأعتذر لإزعاجك.”
“لا بأس.”
أومأ برأسه في هدوء، كأنّ المسألة لا تتجاوز اتفاقًا عابرًا.
أما أنا، فابتسمتُ في صمت، عازمةً أن أؤدي دوري حتى نهاية اليوم، دور الفتاة التي تُحبّ بصدقٍ…
لكن تخفيه خوفًا من الفقد.
يرجى إدخال اسم المستخدم أو عنوان بريدك الإلكتروني. سيصلك رابط لإنشاء كلمة مرور جديدة عبر البريد الإلكتروني.
التعليقات لهذا الفصل " 7"