بعد أسابيع من الانغماس في الأحلام والاعتاد على الاستيقاظ منها، أصبح وقع الصدمة عند الإفاقة أقلّ وضوحًا تدريجيًّا.
حتى وإن ظهرت في منامي مواقف خطيرة، صار بإمكاني أنْ أنهض بهدوء، كما حدث اليوم بالذات.
فتحتُ عينيّ فجأة، كأنّي لم أنم أصلًا، وبقيتُ لحظات أطيل النظر في سقف الغرفة بفراغٍ وذهول.
ثمّ شرعتُ في استرجاع ما مرّ عليّ في الحلم، قبل أن أضع راحتي على جبيني مستنيرةً بأنفاسٍ عميقة وأجلس مستندةً إلى جسدي العلوي.
كنتُ أظنّ، عبثًا، أنّني ربما أستيقظ يومًا دون حلم، أو أنّ مغادرتي لقصر الدوق قد تُنهي سلسلة هذه الرؤى، لكنّ ذلك الأمل تبخّر سريعًا.
بل إنّ حلمي الأخير لم يكن مجرد حادثة بسيطة أو إصابة عابرة، بل كان أعمق خطرًا وأشد رعبًا.
‘أهذا الحلم ينذر بكارثة حقيقية؟’
كان هذا المشهد أشدّ المواقف خطورةً التي شهدتها منذ بداية أحلامي.
رجلٌ يجلس قرب المدفأة، عينيه مغلقتان كما لو كان نائمًا، وشرارة صغيرة تتطاير لتصيب طرف البطانية التي تغطي ركبتيه.
وما إنْ مستها النار الصغيرة، حتى التهمت كل شيء حولها وكبرت باشتعالٍ مخيف، قبل أن ينقض الحلم.
رغم اقتراب الربيع، فإنّ الشتاء لم يرحل بعد؛ المدفأة ما زالت موقدة، والسجاد السميك والبطانيات الثقيلة لم تُبعد من مكانها، فالأرضية كلها مُهيأة لتفشّي النيران بسرعة.
كنتُ أزور ذلك الرجل عادةً بقلبٍ خفيف، إلا أنّ هذه المرّة شعرتُ بثقلٍ مختلف.
إن لم أتصرّف بحذر، قد يشتعل القصر بأكمله، ولا مجال للخطأ.
‘يجب أنْ أمنع وقوع الحريق بأي ثمن.’
ولحسن الحظ، استيقظتُ كالعادة عند الفجر، فكان لديّ متّسع من الوقت لأفكر في كيفية منع الحادث.
وبينما كنتُ أستعيد تفاصيل الحلم، تذكّرتُ منظر الغروب من نافذة الغرفة، إذ بدا واضحًا أنّ الشمس كانت على وشك المغيب.
وحين تذكّرت جدول عمل الرجل الذي راقبتُه سرًا، أدركتُ أنّ اللحظة الحرجة كانت بعد تبديل نوبته.
تمتمتُ: “حين يعود إلى غرفته بعد تبديل النوبة إذًا.”
كان ذلك وقت الغروب تقريبًا، حين يكون الآخرون في العشاء، بينما هو فضل البقاء في غرفته مستريحًا، فتكوّنت هذه المفارقة.
فهمتُ سبب وجوده وحده، إذ لم يكن ذنبُه أنّه لم يخرج مع الآخرين.
‘يجب أن أجعله مستيقظًا في تلك اللحظات، أو على الأقلّ لا يجلس بالقرب من البطانية قرب النار. لكن، كيف؟’
أول ما خطر في بالي هو التوجّه إلى غرف الحراس مباشرة، لكن لم أستطع اختلاق مبرر لذلك، فكان الحل أن أشغله في الوقت الذي يظهر فيه الغروب.
كنتُ أعلم أنّه إذا نجحتُ في هذه اللحظة، فإنّ الحادث لن يتكرر، فالأحداث في الأحلام لا تُعاد كما هي، بل تُمحى من الواقع بمجرد منعها.
‘إذاً، يكفي أن أستأمنه خلال فترة الغروب فقط.’
وبينما كانت الأفكار تتقاذف رأسي، لمعت فكرة سريعة: في الماضي، حين فرّ مني الرجل هاربًا، رغبتُ في أن أسأله سبب تجنّبه لي.
هذا سيكون سببًا مقنعًا لمقابلته، ولا حاجة لخلق أعذار أخرى.
كما أنّ الحديث سيطول بما يكفي ليغطي وقت الغروب بأمان.
‘ولِمَ لا أصطحبه بعيدًا عن الغرفة؟ سيكون ذلك أكثر أمانًا.’
شُدتُ قبضتي بعزمٍ، وقرّرت أنّه يجب أن أنجح هذه المرة.
مع أوّل فرصة في الصباح، سأذهب إليه وأدعوه للقاء عند المساء.
كان الأمل يغمرني، وبدت الشمس المشرقة وكأنّها تبشّر بنجاح خطتي.
ابتسمتُ وبدأتُ يومي ببهجةٍ هادئة.
—
“مرحبًا، أيّها الفارس. هل لديك وقت اليوم؟”
“وما شأنكِ؟”
“أودّ أن أسألك شيئًا، وأظنّ أنّ الحديث قد يطول قليلًا، لذلك أفضل أن نلتقي بعد انتهاء عملك إن أمكن.”
بحثتُ عنه صباحًا، وحين حاول أن يتجنّبني، اضطررتُ إلى منعه.
راقبته بعينين متوجستين، خائفةً أن يرفض، لكنه صمت قليلًا ثم وافق.
فاغتنمتُ الفرصة: “بعد تبديل النوبة، السادسة مساءً، أمام نافورة الحديقة. وحدنا فقط. لا تتأخّر.”
سارت الأمور بسلاسة، ولحسن الحظ كان يومي خفيفًا أيضًا.
عدتُ إلى غرفتي، أخذتُ معطفي السميك، واتّجهتُ نحو الحديقة في الوقت المحدد.
بعد قليل من التردد في طرق القصر، وصلتُ عند بداية الغروب.
كان أمام النافورة رجلٌ واقفٌ، نفسه الذي رأيته في حلمي.
ولمّا رآني، انحنى تحيةً، فرددتُ بإيماءة خجولة.
اقتربتُ منه بحذر، رافعة رأسي لأتحدث إليه.
“أيّها الفارس، أعتذر لاستدعائك فجأة.”
“لا بأس.”
“هل تناولتَ عشاءك؟ فالوقت الآن مناسب للطعام. هل تناولت شيئًا قبل أن تأتي؟”
نظر إليّ ببرود معتاد:
“لا، كنت أستريح في غرفتي قبل أن أخرج.”
“إذن، لا أحد في الغرفة الآن؟”
“نعم.”
“وهل تركت النار مشتعلة؟”
تردد قليلًا، فأضفتُ بسرعة:
“وربما بطانية قرب النار؟”
“لا، أطفأت النار، وأعدت البطانية إلى مكانها.”
“الحمدُ للّه.”
ساد صمتٌ قصير، شعرتُ حينها بسخافة سؤالي، لكنه لم يبدِ أي تعجّب.
كم يبدو هذا الرجل جامدًا!
أي سبب يجعله يتجنّبني؟
تمالكتُ نفسي، وقلتُ بصوتٍ هادئ:
“أيّها الفارس.”
“نعم.”
“دعوتك اليوم فقط لأعرف، لماذا تتجنّبني؟”
لم يُجب.
رفعتُ نظري إليه، فرأيته ينظر إلى الفراغ، وكأنّه يستجمع الأفكار.
وجهه ساكن، لكنّني لاحظت خفّة ارتباك في ملامحه، تكاد تمرّ دون أن تُلحظ.
غمر لون الغروب وجهه، فأضفى عليه وهجًا نحاسيًّا فاتنًا.
تأملتُ ملامحه: وجنتان مشدودتان، عينان داكنتان، أنف مستقيم، وبشرة بيضاء نقية.
لم أدرك من قبل كم هو وسيم بهذا الشكل.
ربما لأنّ الجمود في ملامحه كان يخفف من جماله.
حين التقت نظراتنا، بدا أنّه عبس قليلًا، ثم نطق بصوت ثابت:
“قبل أن أجيب عن سؤالك، أود أن أسأل أنا شيئًا.”
أومأتُ برأسي.
قال بصوتٍ صارم لا يتزعزع:
“أعلم أنّك تلاحقينني منذ مدّة.
هل لي أن أعرف السبب؟”
تجمّدتُ مكاني.
عرف إذًا، منذ متى؟ وهل هذا سبب تجنّبه لي؟
تداخلت آلاف الأفكار في رأسي، لكن لساني لم يستطع الكلام.
بقيتُ صامتة، أراقب، حتى أكمل هو بهدوءٍ شديد:
“أعتذر، لكنّي لا أملك أي رغبة في العلاقات العاطفية.”
آه، هكذا إذًا.
لَسْتَ مهتمًّا بالعلاقات العاطفية…
“……؟”
“…نعم؟”
يرجى إدخال اسم المستخدم أو عنوان بريدك الإلكتروني. سيصلك رابط لإنشاء كلمة مرور جديدة عبر البريد الإلكتروني.
التعليقات لهذا الفصل " 5"