“سينثيا، لقد عدتِ… قلتِ إنك ذاهبة إلى محرقة النفايات، ومع ذلك أفسدتِ عربةً كانت سليمة تمامًا؟”
“…”
نظرتُ إلى العربة المتهشّمة، قاعدةُ عجلاتها محطمة وجوانبها متبعجَة، وتوجّهت إليّ السيّدة أوفيليا بعينين مليئتين بالاستنكار.
ومع ذلك، لم يطرأ أي حدث آخر يُذكر ذلك اليوم، فانقضى كأيّ يومٍ عابر بلا أي أثر يُذكر.
وبعد مرور أسبوع، عشتُ في سكينةٍ حتى حان موعد حضور الدوق الحفل الكبير.
لكنّ قول “عشتُ في سكينة” لا يعني أنّي أهملتُ الرجل أو تركته دون متابعة.
“مرحبًا أيّها الفارس. أأنت أيضًا ذاهب لتتمشّى؟”
“…”
“صادف أني كنت أتمشّى كذلك. أنا أسلك هذا الطريق عادةً، وهو أكثر ترتيبًا.
هل ترغب أن نذهب معًا؟”
ومع مرور الوقت، لم أعدُ أرى في حمايته من أي أذى أمرًا مزعجًا، بل أصبح عادةً يوميةً، جزءًا عاديًا من مهامّ حياتي.
رغم أنني كنتُ أفكر فيما سيحلّ بالرجل إن غادرتُ القصر مع الدوق، إلا أنّني علمت أنّ جميع الفرسان المكلفين بالحراسة قد استُدعوا للمهمة هذه المرّة.
وذلك بفضل مبدأ الدوق في اختيار الحرّاس من الصفوة، بغضّ النظر عن منازلهم أو رتبهم.
كنتُ أستقلّ عربةً متّجهةً إلى قصر كونت تشاندلر، متسائلةً عن الليالي القليلة القادمة التي قد تمتلئ بالسهر.
“…”
أصحاب العربة كانوا منشغلين بأنفسهم، كلٌّ منهم يحظى بما يسليه. وأنا كنتُ أحمل كتابًا، فأمضيتُ الوقت غارقةً في القراءة بصمت.
ومع طول القراءة، شعرتُ بدوارٍ خفيفٍ، فأبعدتُ بصري عن الكتاب نحو الخارج.
كان الجوّ ذلك اليوم أروع من المعتاد؛ نسيمٌ لطيف ودفء الشمس يوحي بانتهاء الشتاء واعتدال الفصول.
كونت تشاندلر أحد أتباع الدوق، وسبب مرافقتي له كان أيضًا لإنجاز بعض المهام الإدارية أثناء الحفل، ولكن الطريق إلى هناك كان هادئًا وسلميًا، بلا أي اضطراب.
وبينما كنتُ أتابع حركة أوراق الشجر التي تلامس إطار النافذة، لفت انتباهي شابٌ يمتطي جوادًا يسير أمام العربة.
ذلك الشعر الأزرق القاتم أصبح مألوفًا بشكل مفرط في الآونة الأخيرة، حتى غدا جزءًا من المناظر المحيطة.
مرّ تحت ظلّ شجرة فتماهى لون شعره مع الظلال، فاسترجعت في خاطري عينَيْه السوداوين، وفكّرتُ أنّه يليق به الظلام أكثر من النور.
لو اختفى في العتمة عمدًا، لابتلعته دون أن يراه أحد. تخيّلت جسده الكبير يندمج مع الظلال، فابتسمت بخفّة.
لكنّي أسرعتُ بكتم ابتسامتي حتى لا أبدو سخيفةً أمام أيّ أحد.
“!”
وفجأة، التقت عيناينا من خلف النافذة.
كانت النظرة نفسها التي تخيّلتها قبل لحظات.
قبل قليل كان متقدمًا العربة بمسافة كبيرة، والآن أصبح قريبًا بما يكفي لتتقاطع نظراتنا.
ارتبكتُ وحاولتُ إبعاد وجهي، ثم أعدتُ استناد رأسي إلى زجاج النافذة.
على ما يبدو، نشأت بيننا ألفة خفية دون أن أشعر بها، فالآن لم تعد نظراته تُرعبني كما في الماضي.
ابتسمتُ له ابتسامة خفيفة، وحرّكت شفتيّ بتحية صامتة.
لكن…
“همم؟”
الرجل، الذي لم يكن يتجاهل أحدًا يومًا، لم يرد.
لم يكتفِ بعدم الرد، بل تحوّل عنّي ومضى مبتعدًا بعربته.
“…”
ربما لم يرني؟ ومع ذلك، شعرت أنّه تعمّد تجاهلي. هل فرطتُ في إظهار المودة؟ أم أنّ حديثي المتكرّر أزعجه؟
حاولتُ إقناع نفسي أنّه مجرد صدفة، لكنّ الموقف ظلّ يثير فضولي.
حين توقفت العربة لأخذ قسطٍ من الراحة، كنتُ أبلغ الفرسان بتعليمات الدوق. ولم يظهر أحدهم، حتى ظهر من بين الشجيرات… وما إن رآني حتى استدار نحو الظلال.
“أيّها الفارس؟”
تجاهلني كأنّي غير موجودة.
كان تجاهلًا صريحًا لا مجال للشكّ فيه.
سرتُ خلفه أزيح الأغصان، والدهشة تعلو وجهي.
‘لماذا يتجنبني؟’
ما الذي فعلته ليهرب مني هكذا؟ لو كان هناك سبب، فليقل لي على الأقل!
تمكنتُ أخيرًا من إيقافه وإبلاغه بتعليمات الدوق، لكنه تظاهر بعدم حدوث شيء، بوجهٍ هادئ خالٍ من أي أثر للحيرة.
هل يظن أنّني لم أنتبه؟
‘هل أسأله الآن؟ لماذا تغيّر فجأة؟’
لكن قبل أن أفتح فمي، سُمِع نداءُ الانطلاق، فانصرف سريعًا كالريح.
عدتُ إلى العربة وأنا في حيرةٍ شديدة.
لم أشعر بالانزعاج، بل بالدهشة والاستغراب.
السبب الأرجح لتجنّبه لي كان أنّه أدرك أنّي أبادله الحديث كل يومين تقريبًا.
نعم، قد يثير ذلك الريبة، خصوصًا بين شخصين لم يتقربا يومًا.
لكنّ كلماتي كانت دائمًا عابرةً وبسيطة. هل يستحقّ ذلك الهرب؟
لم أستطع تخمين ما يدور في ذهنه، ولم أعرف سبب تغيره المفاجئ.
‘أمرٌ مريب.’
كلما حاولت تهدئة نفسي، شعرت بمزيج من القلق والضغط الداخلي، كأنّ شيئًا يتسرّب من أعماقي.
ماءٌ يتسلّل من الأسفل، ولن أستطيع التنفّس إن لم أكتشف مصدره سريعًا.
كان لابدّ أن أسأله بنفسي.
ومع تعهدي بالعزم، توقفت العربة.
وصلنا إلى قصر كونت تشاندلر.
مددتُ جسدي قليلًا لأخفّف توتّر الركوب، ثم نزلتُ مع الآخرين أحمل أمتعتي. كان الليل قد خيّم، ولم أتمكّن من رؤية القصر بوضوح.
لقد ركبت العربة منذ الفجر بلا توقف، ولولا قرب القصر لما وصلنا في يومٍ واحد.
استقبلنا الكونت مرحبًا بالدوق وحاشيته، وكنت أقف في الخلف أطرق ظهري لتخفيف ألم الجلوس الطويل.
بعد مراسم الترحيب، جاء كبير الخدم لتوزيع الغرف، وسألني قبل أن يحدد غرفتي:
“هل ستشاركين في الحفل يا آنسة؟”
تساءلت بدهشة: “أنا؟ لا أظن.
هل يجب على الجميع الحضور؟”
كان الدوق ملزمًا بالحضور لتأكيد مكانته، أما أنا فحضوري لم يكن ضروريًا.
فقلتُ: “سأبقى في غرفتي تلك الليلة.”
“كما تشائين، وإن رغبتِ في الحضور لاحقًا، فما عليكِ سوى إبلاغ أحد الخدم.”
‘الحضور لاحقًا؟ لا أظن أنّ هذا سيحدث.’
سأقضي تلك الليلة في غرفتي، أستعيد بعض النوم المفقود خلال الأيام الماضية.
تسلّلت إلى غرفتي وأنا متعبة، مستعدة للنوم فورًا.
كنت أعلم أنّني سأستيقظ منتصف الليل، لذا كان عليّ أن أنام بسرعة.
تمنّيت أن لا أرى حلمًا واحدًا…
لكنّ الأقدار لم تُمهلني.
ظهر الرجل في حلمي مرة أخرى، بوجهٍ ساكن وعينين سوداويتين.
صارت رؤيته في أحلامي أمرًا مألوفًا، حتى باتت طبيعيةً أكثر من أي شيء آخر.
يرجى إدخال اسم المستخدم أو عنوان بريدك الإلكتروني. سيصلك رابط لإنشاء كلمة مرور جديدة عبر البريد الإلكتروني.
التعليقات لهذا الفصل " 4"