3
بعد مرور أسبوع من ذلك اليوم،
جلستُ أتأمّل التقويم أمامي، متأكّدةً أنّ الأيام قد مضت بلا عودة، فانتابني شعورٌ خفيف بالرضا الذاتي.
‘أليس الأمر أسهل ممّا توقعت؟’
كنتُ أظنّ أنّ مراقبة شخصٍ بعينه باستمرار، حتى لا يتعرض لأذًى، ستكون مهمةً مرهقةً للغاية، لكن الواقع جاء مغايرًا.
لو أنّني كنتُ أُؤدّي وظيفةً شبيهة بالحراسة طوال اليوم، لكان التعب قد استبدّ بي، لكنّي كنتُ بحاجةٍ فقط للحذر في لحظةٍ واحدةٍ من اليوم.
الأحلام، على غير المتوقع، كانت رحيمةً معي.
قلبتُ صفحات التقويم إلى التاريخ الذي ابتدأ فيه أول حلم، ثمّ أعدتُ الورقة لأرى تاريخ اليوم من جديد.
‘ربّما ليست كلُّ الأحلام صادقةً في ذلك، لكن معظمها يُمكّنني من معرفة توقيت الأحداث.’
أحيانًا كانت الأحلام تعرض الساعة بشكلٍ صريح، وأحيانًا تُشير إلى السماء أو المشهد الخارجي، لأقدّر الوقت بشكلٍ تقريبي.
معرفة الوقت كانت نعمةً بالنسبة إليّ، فكلّما تكرّر الحلم، كان الرجل ينجو كما كان يحدث سابقًا دون أن يُصاب بأي أذًى.
في البداية كانت الأحداث تبدو مفاجئةً: “أها، هذا هو! لكنه على وشك الإصابة! عليَّ التدخل!”، أما الآن فقد أصبحتُ أستطيع تحديد الزمن بنفسي وأخرج للبحث عنه.
لكنّ البحث لم يكن صعبًا؛ فبعد أن أرى الزمان والمكان في الحلم، أصبح العثور عليه في الواقع سهلًا كالارتشاف من حساء بارد وأنا مستلقية.
وبفضل هذا، انخفضت احتمالية إصابته إلى ما يقارب الصفر.
“ألا يبدو أنّي أتصرّف على نحوٍ جيّد؟”
“ماذا قلتِ يا سينثيا؟”
“لا شيء، أوڤيليا، كنتُ أُحادث نفسي فحسب.”
رفعت أوڤيليا حاجبها، وصلّحت نظّارتها، ثمّ عادت إلى عملها، فأطبقتُ شفتيّ كي لا أتلقى أيّ تنبيه.
حين وصل منتصف النهار، انتقلتُ من مكتب الدوق إلى غرفة السكرتارية، وأنجزت نصف الأعمال الموكلة إليّ، وأنا أراقب بعينٍ حذرة.
أوڤيليا صارمةٌ مع موظّفيها، لا تتساهل مع الكسل، لكنّها تسمح ببضع فترات راحة إذا كان الإنجاز قد تحقق بدرجةٍ كافية.
ولهذا، كنتُ طوال الأسبوعين الماضيين أتحكّم في سرعة إنجازي لأستثمر تلك اللحظات القصيرة بأفضل صورة.
“أوڤيليا ، سأخرج قليلًا لأُنعش ذهني، وسأمرّ على غرفة الحرق أيضًا في الطريق.”
“لكن ألبرت سيأتي بعد قليل لجمع الأوراق غير الضرورية، لماذا تعبّرين نفسكِ؟”
“ألبيرت يضطرّ دائمًا للذهاب ثلاث مرات على الأقلّ، بين ما يحتاج الدوق للاطلاع عليه، وما علينا نحن التحقق منه، وما يجب حرقه. فكّرتُ أن أُخفّف عليه قليلاً أثناء جولة قصيرة.”
تأمّلتني أوڤيليا، نظرت إلى يديّ القابضتين على مقبض العربة، ثمّ إلى كومة الأوراق، وأخيرًا إلى ما أنجزت، قبل أن تومئ برأسها موافقةً.
“لا تتأخري كثيرًا، فالعمل لم يكتمل بعد.”
“نعم.”
ابتسمتُ شاكرةً، ثمّ دفعت العربة ببطء خارج المكتب.
لم تكن رغبتي في مساعدة كبير الخدم ألبرت مجرد كلمات، فقد كنتُ أخرج أحيانًا أشياءً كان لا بد من إخراجها.
‘واليوم هدفي هو غرفة الحرق، لذا لا بأس بما أحمله.’
لو سألني أحد عن سبب وجودي هنا، كنتُ سأريه الأوراق وأقول إنّي جئتُ لأتخلّص منها.
الأوراق كثيرة بما يكفي لاستعمال العربة، لكنها ليست ثقيلة لدرجة الإرهاق. فتحتُ فمي أتثاءب قليلًا؛ فالنعاس ينقصني بعد حلم البارحة، ومع ذلك، بما أنّي أرى حلمًا كل يومين، فليلة اليوم ستكون فرصة للنوم بسلام.
لكنّ سؤالًا شاغلًا رأسي: لماذا جاء إلى غرفة الحرق؟ لم يبدو أنّ لديه شيئًا ليحرقه.
تذكرتُ أنّه كان يحمل شيئًا، وكان بجانبه شخصٌ آخر، كأنّه يُساعده في النقل.
ولقد صدقتُ حدسي.
“آه؟ سينثيا!”
سمعتُ الصوت وأنا أنزل في المنحدر المؤدي إلى غرفة الحرق، رفعت رأسي لأرى الخادمة الكبيرة “آنا” تلوّح لي، وبجانبها الرجل ذو الشعر الأزرق الداكن.
لم يُبدِ الرجل أيّ تعبير، بينما رحّبت آنا بي بابتسامة دافئة.
“يا إلهي، كم مضى من الوقت؟ لم أتوقع أن أراكِ هنا! كيف حالك؟”
“أنا بخير كعادتي، وأنتِ يا آنا…”
لم أكمل كلامي.
كآآغ!
صوتٌ حادّ شقّ الهواء، كأنّ شيئًا صلبًا انكسر.
نظرتُ إلى العربة، فإذا بقاعدتها السفلية قد انفصلت وانهارت الحمولة.
ما الذي جرى الآن؟ كانت العربة بخير منذ قليل!
انحنيتُ لألتقط الأوراق المتناثرة، ناسيةً أنّي ما زلت في منحدر.
ما إن مددتُ يدي حتى بدأت العربة تنزلق إلى الأسفل.
“آه؟!”
حاولتُ الإمساك بالمقبض، لكنّها اندفعت بسرعة كبيرة نحو الاثنين.
‘لا، مستحيل! هل أنا السبب في إصابته اليوم؟’
لكنّ الحلم لم يشير إلى العربة! ركضتُ خلفها بارتباك، رأيتُ وجه آنا المصدوم، ثمّ عيني الرجل الغارقتين في عمق البحر.
‘ستصطدم!’
وفي اللحظة التالية—
دوووم!
أغمضتُ عينيّ بقوّة، ثم فتحتها ببطء. أوّل ما رأيت كان وجه آنا المندهش، لكنها لم تلتفت إليّ.
اتّبعتُ نظرها، فوجدت الرجل واقفًا أمامها، يمدّ يده ويقبض على العربة قبل أن تصطدم.
الأوراق متناثرة حولهم، لكنّ أحدًا لم يُصب بأذًى.
‘هل… سحق العربة بيده؟’
نظرتُ إلى قبضته، فإذا بالمعدن انبعج كأنه عجين بين أصابعه.
هل هذا ممكن؟ أم أنّ المادة كانت هشّة جدًا؟
أبعدتُ التفكير جانبًا وانحنيت لأعتذر.
“أعتذر بشدّة، لقد غفلتُ للحظة وفلتت العربة من يدي…”
“لا بأس، لم يُصب أحد.” قالت آنا مبتسمةً.
“لكنّي سببّت خطرًا لكما.”
ثمّ التفتُ إلى الرجل وأطبقت يديّ أمام صدري.
“شكرًا جزيلًا، أيّها الفارس، على توقيف العربة.”
نظر إليّ بلا أيّ تعبير، ثم حرّك رأسه نفيًا، في إشارةٍ أنّ الأمر لا يستحق الشكر.
لكنه حاول الكلام، وقبل أن ينطق، لمحت شرارةً تتطاير من محرقة مفتوحة في الخلف.
‘مهلًا… هذا المشهد…’
جمّدني مكانه، ثم ركضتُ متجاوزة الرجل نحو المحرقة، وأطفأت الشرارة بحذائي قبل أن تنتشر بين النفايات.
عمّ صمتٌ ثقيل.
التفتُّ إليهما بابتسامة متوترة.
“هاها، يبدو أنّ أحدهم ترك باب المحرقة مفتوحًا… خطرٌ حقًا.”
ضحكت آنا موافقةً: “صحيح! كم مرة حذرنا من حرائق صغيرة كهذه؟”
“الغريب أنّ المكان اليوم أكثر فوضى من المعتاد.”
“حقًّا، من فعل هذا يحتاج درسًا ليحذر في المرات القادمة!”
ابتسمتُ بخجل وأنا أمسح العرق عن جبيني. لقد أنقذتُ الموقف، ولو بالكاد.
نظرات آنا بقيت معلّقة بالرجل، وقالت بدهشة:
“كيف تتحرك بهذه السرعة؟ أهذا أمر عادي عند الفرسان؟”
“إن كنتِ تقصدين متوسط سرعة رد الفعل، فالجواب: لا.”
“هاه! إذًا أنت مميّز فعلاً! كنتُ أبحث عن أحد ليساعدني، فالتقطتَ الكنز!” قالت وهي تربّت على ظهره ضاحكةً.
راقبتُ المشهد بصمت، فآنا بخبرتها الطويلة في القصر تستطيع التصرف بود مع رجل صلب الملامح كهذا.
“على أيّ حال، المهم أنّ أحدًا لم يُصب اليوم. أليس كذلك يا سينثيا؟”
أومأتُ مبتسمةً وأنا أساعد في جمع الأوراق: “نعم، الحمد لله. أنتِ والفارس أيضًا.”
شعرتُ بثقلٍ خفيف يسري في كتفيّ، فأمسكتهما خلسةً. اليوم، على الأرجح، سأنام نومًا عميقًا.
‘طالما أنّني أتدخّل في الوقت المناسب، فالأمر على ما يرام. حتى أجد طريقة لإبطال تلك الأحلام، سأستمر هكذا.’
لكنني لم أكن أعلم كيف يبدو كل ذلك في نظره.
حين شعرت بنظراته الثابتة وأنا أفرك ذراعيّ، حسبتها وهمًا.
لكنها لم تكن كذلك، واكتشفت الحقيقة بعد أسبوعٍ ويومٍ كامل.
“سيّدتِي السكرتيرة، أعلم أنّك كنتِ تراقبيني مؤخرًا.”
“…….”
“هل لي أن أعرف السبب؟”
تجمّد الدم في عروقي، بينما ظلّت عيناه الهادئتان تراقبانني بلا كلل.
التعليقات لهذا الفصل " 3"