“ليس بشيءٍ مهمّ، لكنني التقيتُ بالسير ديريك في طريقي إلى هنا، فسألني إن كان بوسعي إيصال شيءٍ صغيرٍ إليك.”
عدّلت السيّدة أوفيليا نظّارتها، ثم وضعت على مكتبي قنينةً صغيرةً لا تتجاوز حجم راحة اليد.
ظللت أحدّق فيها بذهول، فيما تابعت توضيحها بهدوء.
“سمعتُ أنّ رأسك يؤلمك هذه الأيام، وقال إنّك لو شربتِ هذا فستزول أغلب الآلام فورًا، لذا طلب أن تتناوليها عندما تسمح لكِ وقتك.”
“آه…….”
“ومن شكلها، تبدو كبوشنٍ يُعطى لفرسان الحرس.”
“ماذا؟ بوشن، بو… بوشن؟”
كنتُ قد ظننتها مجرّد مسكّن، فإذا بها بوشن؟
مددتُ يدي لأمسك القنينة، ثم تجمّدت من شدّة الصدمة وأنا أحدّق في السيّدة أوفيليا.
وبدت هي أيضًا مفعمةً بريبةٍ ما، وكأنّها تعتبر إعطاء مثل هذا الشيء الثمين تصرّفًا غريبًا من ذلك الرجل.
“نعم. ومن الأساس، لا يُمكن أن يكون البوشن الممنوح لفرسان الدوقيّة من النوع الرديء… وفوق ذلك، فهو مُخصّص للنخبة من الحرس، فلا بد أنّ جودته عالية جدًّا.”
“هذا… ولماذا يُعطيني إياه أنا تحديدًا…….”
“سؤالٌ وجيه. هل كان يقلق عليكِ إلى هذه الدرجة؟ أم أنّه… ارتكب خطأً كبيرًا بحقّكِ مثلًا؟”
قالت هذا بصدقٍ شديد، وكأنّ فضولها لا حدود له.
ولم يكن استغرابها مبالغًا فيه؛ ففي عصرٍ باتت فيه قوى السحرة تتضاءل عامًا بعد عام، كان البوشن عالي المستوى شيئًا نادرًا لا يُستهان به.
صحيحٌ أنّ السحرة فقدوا الكثير من قوتهم مقارنةً بالأزمنة البعيدة، لكنهم ما زالوا يفوقون غير السحرة بقدراتٍ كبيرة.
ومن بين قدراتهم تصنيعُ بوشن أكثر فاعليّة وأسرع تأثيرًا من الأدوية العاديّة، خصوصًا إذا صُنِعت على يد ساحر متمرّس.
وبوشنٌ من هذا المستوى… لا مجال لمقارنته بأيّ دواء.
وبالتالي، فإنّ عبارة الرجل عن “أغلب الآلام” لا تعني صداعًا بسيطًا، بل تشمل أيضًا جروحًا داميةً وتمزّق اللحم ذاته.
“……سأقول له ألا يُعطيني أشياء كهذه مرّةً أخرى.”
تمتمتُ وأنا أضغط على جبيني بأصابعي.
الرجل ليس عديم التفكير، وأغلب الظن أنّه أعطاني إياه لأنه لا يتوقّع أن أحتاجه أصلًا… لكنني، بكل بساطة، لا يمكنني قبول شيء بهذه القيمة.
وفوق كلّ ذلك… سبب صداع رأسي في هذه الأيام هو أنت!
كنتُ قد أمسكت رأسي أثناء محادثتنا السابقة لأنّ كلامه كان قابلاً لسوء الفهم، فظنّ على ما يبدو أنّ لديّ صداعًا مزمنًا!
“شكرًا لتوصيله، سيّدتي أوفيليا. وسأطلب من السير ألا يُرسل أشياءً بهذه الطريقة مجددًا. أعتذر عن الإزعاج.”
“لا بأس. لم أفعل شيئًا مهمًا على أيّ حال.”
توقّفت السيّدة أوفيليا للحظة، ثم نظرت إليّ طويلاً.
تحت ذلك النظر الصامت شعرتُ أنّني لا بد أنّني ارتكبت خطأً شنيعًا، قبل أن تطلق تنهيدةً ثقيلة.
“العلاقات العاطفيّة شأنكِ، لكن لا تدعيها تؤثّر على عملك. كوني متّزنة.”
“ماذا؟ انتظري، أنا لا أواعد أحدًا!”
“حقًّا؟ إذًا هل هي… ما يسمّيه الشباب هذه الأيام… اختبار مشاعر؟”
“لا، لا، إطلاقًا! حقًّا لا!”
انتصبت واقفةً ويداي على الطاولة، لكن السيّدة أوفيليا كانت قد أغلقت أذنيها فعلًا وعادت إلى مكتبها.
لم يكن في نيّتها الإصغاء إليّ مهما حاولت.
“أنا والفارس… صحيح أنّ علاقتنا أصبحت أقلّ توتّرًا، لكن لا يوجد شيء بيننا إطلاقًا. هو نفسه قال إنّه لا يفكّر بالحبّ، وأنا مشغولةٌ للغاية. أمّا البوشن، فهو فقط… فقط يبذل جهدًا زائدًا في المجاملة.”
“إن لم يكن بينكما شيء، فلماذا كلّ هذا الارتباك؟”
تمتمت لنفسها، بوضوحٍ شديد يكاد يكون مقصودًا.
“لو رآكما أحدٌ لظنّ أنّكِ تُعجبين به.”
“سيّدتي أوفيليا، أرجوكِ!”
كدتُ أرقص من شدّة الظلم الواقع عليّ، وظللت أشرح وأشرح حتى ضاقت ذرعًا وأمرتني بالعودة إلى العمل.
ولوهلةٍ ظننتُ أنّني نجحت في تبديد كلّ الشكوك حول علاقتي بذلك الرجل… لكن بعد أيامٍ قليلة، اكتشفت الحقيقة المؤلمة:
السيّدة أوفيليا لم تكن الوحيدة التي أساءت الفهم.
بل إنّ المشكلة الحقيقية… أنّ جذور الشك كانت تبدأ من الرجل نفسه.
—
كان صباحًا عاديًّا تمامًا عندما وصلت إلى مكتب الدوق لبدء عملي.
يوم بلا أحداثٍ مميزة إطلاقًا، سوى أنّني كنت أشرب شايًا ساخنًا مسبقًا لأنّني غالبًا ما أُصاب بالتهابٍ حلقي في هذا الوقت من السنة.
لكن الدوق بدا مملًّا على غير العادة.
“كيف يمكن أن يكون يومٌ ما بلا متعة إلى هذا الحد.”
قالها وهو يجلس باسترخاء غير رسمي، يطرق ذقنه بأصابعه في ضجرٍ واضح.
الدوق ستيفان رانييل غريزلدا ألدهايت، الشاب اللامع في عائلة ألدهايت… كان شخصًا لا يُعاني من أي نقصٍ في الكفاءة، بقدر ما كان غارقًا في حبّ المتعة والمقالب والمرح.
لم يكن سيئًا إلى حدّ ارتكاب تجاوزاتٍ مخالفة للقانون بدافع التسلية، لكنه كان طفلًا كبيرًا في روحه، وهذا ما كانت السيّدة أوفيليا تصفه به ببرود.
وبالرغم من سلطته العظيمة وهيبته، لم يكن يهتمّ كثيرًا بالحفاظ على المظاهر الصارمة، لذلك كان جوّ القصر مريحًا، وإن كان هذا يعني أيضاً أنّ الدوق يستمتع بإزعاج موظّفيه.
وبما أنّ الخدم العاديين يرتجفون من مقامه، فإنّ ضحاياه المفضلين كانوا عادةً: الأمناء، ومدير الخدم، والفرسان.
“أوفيليا، ألم يطرأ شيء ممتع مؤخرًا؟ شيء أحكيه لنفسي وأنا أحتسي الشاي مثلًا؟”
كانت السيّدة أوفيليا أوّل من وُجِّه إليه السؤال، فردّت بلا تردّد:
“لا، لم يطرأ أيّ شيء.”
“لا بأس. ليس بالضرورة شيئًا جديدًا. أيّ قصة لطيفة ستفي بالغرض…”
جالت عيناه الرماديتان حول المكتب، ثم استقرّتا على صحيفةٍ مُهمَلة في زاوية الطاولة، وكان عنوانها العريض يغطي الصفحة الأولى:
<رومانسية القرن! هل تكون شريكة ماركيز ماكلين… البرامادونا؟>
“فكرة جيدة. ماذا عن قصص الحبّ؟ لا أستطيع تخيّل كيف وجدت أوفيليا زوجها وتزوّجا. تبدين صارمة للغاية.”
ابتسم الدوق بمرح، بينما انطلقت من السيّدة أوفيليا نظرة باردة حادة جعلتني أستشعر انخفاضًا مفاجئًا في درجة حرارة المكان.
“إن أنهى الدوق عمله ليومٍ واحد دون لهو، سأروي له كلّ شيءٍ يقضّ مضجعه.”
“ترفضين وتطيلين الرفض… مفهوم.”
تمتم وهو يبحث بعينَيه عن فريسةٍ جديدة لملله.
لم أكن قادرة على الردّ بصرامةٍ مثل السيّدة أوفيليا، لذا تمسّكت بالعمل وأملي أن يتجاهلني الحظّ.
“سير كينت… هل لديك شخصٌ يثير اهتمامك مؤخرًا؟ من تُكنّ له المودّة؟”
“م-ماذا؟”
كان أحد فرسان الحراسة المكلّفين لليوم، واسمه على الأرجح ويسلي.
صدمه السؤال حتى بدا كمن فقد روحه، مما جعل الدوق يبتسم ابتسامة الصيّاد.
“هذا الارتباك… إذًا هناك أحد بالفعل؟ هل تفضّل الأكبر سنًا أم الأصغر؟ أوّه، أم أنّك تملك خبرة كافية لتعرف نوعك؟”
“يا… يا صاحب السمو.
ليس في قلبي أحدٌ الآن.”
“‘الآن’؟ إذًا كان هناك سابقًا؟ أريد قصةً ممتعة.
لقد رفضتني أوفيليا، فامنحني شيئًا يعوّض عن ذلك يا رجل.”
وصار الفارس المسكين يذوب من الارتباك.
وحين بدأ الدوق يفقد اهتمامه، بحث مجددًا عن ضحيةٍ جديدة.
وقفت أعيننا على الفارس الآخر في الغرفة.
وبالطبع… كان هو الرجل الذي أعرفه جيدًا.
الرجل الذي سأتناول معه الغداء اليوم.
كان يقف خلف الدوق قبل لحظات، دون أيّ توتر، رغم أنّ زميله كاد ينهار.
التعليقات لهذا الفصل " 22"