مرّت أحداثٌ كثيرة ذهابًا وإيابًا، لكنّي عدت مجددًا إلى أيّامي العاديّة بلا حوادث كبرى.
لا يزال القصر هادئًا، وتمرّ الأيام بين إنجاز الأعمال ومساعدة السيّد الدوق في شؤونه المعتادة.
كان الجوّ دافئًا بما لا يدع مجالًا للشك أنّ الربيع قد حلّ تمامًا.
ظننتُ أنّ تغيّر الفصول لن يأتي بشيء جديد سوى اختفاء البرد، لكن عندما فكّرت جيّدًا، لم يكن الأمر كذلك تمامًا.
وأبرز ما تغيّر… أنّ هناك شخصًا بات عليّ أن ألتقيه مرّةً كلّ يومين.
وثاني تغيّرٍ مهم… أنّني صرتُ أغرق في الشرود كثيرًا هذه الأيّام.
“سينثيا.”
“……آه، نعم.”
أجبته متأخرةً بعد أن شردتُ من جديد، لتمنحني السيّدة أوفيليا تلك النظرة التي تعني: سأغضّ الطرف هذه المرّة فقط.
انكمشتُ قليلًا وحركتُ يدي من جديد بعدما توقفت.
لحسن الحظ أنّ شرودي لم يتجاوز ثوانٍ عابرة، وإلّا لانعكس الأمر على عملي، وعندها… لعلّي كنت سأُوبَّخ بجدية.
صحيحٌ أنّ تركيزي يتشتت كثيرًا في الآونة الأخيرة، لكنّي لا أفعل ذلك عن قصد.
الأفكار تظهر في رأسي وحدها… وما إن أتركها تتصاعد واحدةً تلو الأخرى، حتى أفاجأ بأنني توقّفت عن العمل.
والأفكار التي تجتاح رأسي بلا استئذان… رغم أنّني أكره الاعتراف بذلك… كانت كلّها عن ذلك الرجل الذي ألقاه يومًا بعد يومين.
الرجل الذي لا تتبدل ملامحه الهادئة، ولا يُفصِح وجهه عن أيّ شيء.
ربّما لهذا السبب يثير اهتمامي أكثر.
لأنّني أدركت أنّ بروده ذاك ليس غيابًا للمشاعر، بل غطاءٌ لها.
‘لقد ابتسم… أليس كذلك؟’
أكثر ما يطاردني منذ أيّام هو ما حدث حين ذهبنا إلى القرية.
قبل عودتنا إلى القصر مباشرة… عندما كنا نتحدث تحت ضوء الغروب.
أخبرني يومها أنّه أمضى وقتًا ممتعًا برفقتي.
تفاجأتُ في البداية، لكنني سرعان ما شعرت بالارتياح لذلك.
كما أنّ صدقه في قول ما طلبته منه مسبقًا جعلني… سعيدة بشكل غريب.
وبما أنّني كنت مستمتعة مثله تمامًا، لم أمنعه حين قال إنّه سيأخذ إجازة، بل ربما وافقت بحماسٍ زائد على أن نأتي في المرّة التالية معًا.
وعندما أنهَيتُ كلامي… حدّق بي بهدوءٍ كعادته.
كانت تلك النظرة مألوفة لدي… لكن ما ظهر على وجهه بعد ذلك لم يكن مألوفًا أبدًا.
لقد ارتسم على شفتيه خطٌّ لطيف… ابتسامة صغيرة، لكنها واضحة تمامًا.
لم يكن دفء الضوء المتسلل من الغروب هو السبب… بل كانت نظرةٌ دافئة خالصة موجّهة إليّ وحدي.
نعم، كانت ابتسامة.
لا مجال للخطأ… كانت واضحة بما يكفي لجعل تفكيري كله ينهار.
بينما كنت أعود إلى السير بترددٍ وانكسار، اختفت الابتسامة من وجهه، لكنّ ملامح ذلك المشهد انطبعَت في ذاكرتي.
وكلّما تذكّرته… عند وجهي حرارةٌ خفيفة… ويضطرب صدري اضطرابًا مزعجًا.
وبصراحة… كان الأمر يشبه شعورًا خطيرًا، كأنّ خطوةً واحدةً في غير محلّها قد تقودني إلى شيءٍ لا أستطيع الرجوع عنه.
‘عليّ أن أستعيد وعيي.’
ليس فقط لأجل عملي…
بل أيضًا كي لا أنسى أنّني رُفضت من قبل ذلك الرجل نفسه.
يجب أن أكون أكثر شخصٍ في العالم يُركّز ويفصل بين الوهم والواقع.
وإلّا… فقد أرتكب حماقةً عظيمة… وأحوّل سوء الفهم الذي حدث بيننا إلى حقيقة مؤلمة.
مع ذلك، ما زلت بخير.
فالمشاعر التي أحملها نحوه الآن… ليست سوى مودة طبيعيّة تجاه شخصٍ اقتربت منه… لا أكثر ولا أقل.
……ربّما.
“السيّدة أوفيليا، انتهيت من مراجعة كلّ ما طلبته. سأذهب الآن لتناول الطعام.”
“حسنًا، اذهبي. وتناولي طعامًا جيدًا.”
لوّحت بيدها بإهمال وهي تقول إنّها ستنتهي من عمل بسيط ثم تلحق بي.
انحنيت لها وخرجت، وأطلقتُ زفرة طويلة.
كانت فترة الغداء من اللحظات القليلة التي أستطيع فيها الاسترخاء بلا تردد، لذا كنت أبذل جهدي للاستفادة منها قدر الإمكان.
هناك كثير من الطرق لقضاء وقتٍ ممتع: زيارة بيت الزجاج، أو التجوّل في الحديقة… لكن مؤخرًا صار هناك خيار واحد فقط.
الذهاب إلى الرجل… وإخباره بما رأيته في الحلم.
لم يكن وقت الصباح مناسبًا غالبًا لتبادل مثل هذه الأحاديث، لذلك كان موعد الغداء الأمثل دائمًا.
أسندتُ ظهري إلى أحد أعمدة الرواق وأنا أنتظر، وما إن رأيته يظهر من آخر الممر… ابتسمت بلا وعي.
“سيدي الفارس، وصلتَ.”
اقترب بخطوات سريعة وأومأ برأسه.
أمسكت قلبي الذي بدأ يرفّ من جديد بغير إذن، ورفعت رأسي إليه.
“جئتَ متأخرًا قليلًا اليوم. هل تناولت طعامك؟”
“نعم. أنهينا تدريب الصباح مبكرًا اليوم، فتناولت الطعام أبكر من المعتاد. لكن أحد الزملاء طلب مبارزتي بعد الوجبة… لذا تأخرت قليلًا.”
“واو… لا أرى مبارزات الفرسان إلا مصادفة. أتمنى رؤية مبارزتك يومًا ما.”
ساد الصمت لحظة.
ثم قال بصوت هادئ مألوف:
“أيًّا كان خصمي، فالنتيجة لا تختلف. لستِ مضطرة لرؤية ما تعرفين نتيجته سلفًا.”
“النتيجة لا تختلف؟”
“نعم. ما لم يكن القائد العام بنفسه… دائمًا ما أفوز.”
“أه… هل تفتخر الآن؟ …هل القائد قويّ إلى هذا الحد؟”
“لا. لم أستخدم كامل قوتي معه قطّ… حفاظًا على هيبة الرتبة الأعلى.”
فانفجرتُ ضاحكة.
هذا الرجل يملك موهبة عجيبة في قول الأشياء بطريقة تجعلها مضحكة رغم ثبات ملامحه.
“بذكر القوة والمهارة… ربما ليس من الضروري أن أخبرك بحلم اليوم. كان أحد الفرسان قد أساء التصرف أثناء التدريب… فاندفع بسيفه بطريقة خاطئة.”
“هل كنتُ أنا خصمه في ذلك الحلم؟”
“نعم. وحتى مع ذلك… بدا الأمر مجرّد سوء حظٍ كبير.”
ثم تبادلنا حديثًا خفيفًا طويلاً.
وعندما أدرك فجأة أنني لم أتناول غدائي بعد… عبس بحدة ودفعني تقريبًا إلى قاعة الطعام.
وبعد أن أنهيت وجبتي على عجل وعدت في الوقت المناسب… أدركت شيئًا غريبًا.
“في البداية… ألم نكن نكتفي بالحديث عن الأحلام فقط؟”
صحيح أنّ البداية لم تدم طويلًا، ربما لقاءين أو ثلاثة… لكن بعدها، صار الحديث يبدأ بالأحلام ثم ينساب إلى كلّ شيء آخر.
وبمرور الوقت… صار لقاؤنا يطول.
لا هو ولا أنا كثيرو الكلام…
لكنني لم أشعر يومًا بأنّ الحديث بيننا ينقطع أو يتعثر.
ولم يكن هذا شيئًا سيئًا…
ليس سيئًا أبدًا… لكن…
“أنا مفهومة… لكن هو؟ كيف يجد الأمر طبيعيًا بعد كل الرفض الذي قابلني به؟”
كنت وحدي في مكتب السكرتارية، فقلت ما أردت دون خوف من أن يسمعني أحد.
كلماته وأفعاله… متناقضة جدًّا.
فلا أدري أيهما الحقيقة.
كلامه يقول: لا تقتربي.
أما أفعاله… فتقول: تعالي أكثر.
ومع قلبي الذي لا يكفّ عن الصعود والهبوط… أصبح الأمر مزعجًا ومربكًا.
وفي يومٍ ما انفجرتُ في وجهه فجأة، بأنّ ما يفعله غير منطقي.
“سيدي الفارس، قبل قليل كنت تقول إنّ الماء الذي أعطيتُك إيّاه قد يكون علامة اهتمام… فَلِمَ تعطيني أنت الطعام طوال الوقت؟”
“أهل المطبخ مرّوا وأعطوني بعضه… لكنني كنت ممتلئًا ولم أستطع تناوله.”
“مهلًا. ألم أطلب منك سابقًا ألّا تبرّر وأن تخبرني بما تفكر به فعلًا؟”
“……حضرتك تأكلين قليلًا عادةً… وصحتك ضعيفة نسبيًّا… لذلك فكرت أنّه من الأفضل أن تتناولي شيئًا يعوّض ذلك.”
“آه… ليتني لم أسأل.
وأنا بخير بالمناسبة.”
لكنّ كلامه لم ينته.
“ولأنك قلتِ إنك تحبين الحلويات… فكرت أنّه سيكون جيدًا لو أسعدك ذلك.”
“…….”
“إن كنتِ لا ترغبين في أخذها، فقط أخبريني.”
بالطبع لم أستطع قول “لا”.
ولم يكن في قلبي أي نفور أصلًا.
لقد أصبح صادقًا حقًا بشأن ما يفكر به قبل كل فعل…
لكنّه لا يزال لا يدرك “لماذا” يفكر بما يفكر فيه.
ولو سألته لماذا أراد إسعادي… لأجاب بعد تفكيرٍ قصير: مجرد شعور.
وهذا ما جعلني أرتبك أكثر… وأكثر.
هل يعقل أنّني أتخيل كلّ هذا؟
هل أنا فقط التي تبني أوهامًا؟
أهذا كلّه ليس اهتمامًا حقيقيًا؟
وفي كل مرة أصل فيها إلى هذه النقطة… يهمس جزءٌ آخر من عقلي:
إن كان يهتم فعلًا… لماذا رفضك حينها؟
ثم يعود الرد:
ربما لم يكن يفهم نفسه.
ثم اعتراض آخر:
لكن من لا يفهم نفسه… لا يرفض بتلك القسوة!
وهكذا… أدور في حلقة مفرغة طوال اليوم.
وحين بدأت رأسي يعلن إضرابًا عن التفكير، فتحت أوفيليا الباب.
“تأخرت قليلًا، كنت سأمرّ على الغرفة فقط. بدأتِ العمل بدوني، صحيح؟”
“بالطبع، سيّدتي أوفيليا.”
ورغم شرودي الطويل، كانت الأوراق موزعة على الطاولة بشكل يبدو وكأنني كنت أعمل بتركيز.
ابتسمتُ، فخلعت معطفها دون ريبة.
وكانت على وشك الجلوس… ثم التفتت إليّ فجأة.
“آه، سينثيا.”
“نعم؟”
“الآن تذكرت… أنتِ على ما يبدو قريبة جدًّا من السير ديريك، أليس كذلك؟”
……عفوًا؟
ماذا؟
ولماذا هو تحديدًا؟
سقط القلم من يدي ودار على الطاولة بلا هدف.
التعليقات لهذا الفصل " 21"