بعدها، هدأت الأمور بسرعة.
لم يكن الأمر مجرد فنجانٍ انكسر، فالحادثة لم تكن بسيطة لدرجة أن يمرّ الخادم من دون لوم، لكن ذلك كله كان شأنًا خارج مكتب العمل.
وبينما اختفت آثار الفوضى –الشاي المسكوب والسجّاد المبتل– لم يبقَ أمامي سوى جبال من المهام التي تنتظر إنجازي.
ثمّ… وجدتُ نفسي مضطرةً للبحث عن مبرّرٍ لما حدث.
لقد كان خطئي أنني تسرعت في طرح سؤالٍ عشوائي، خوفًا من تكرار أحداث الحلم في الواقع، فكان ذلك سبب كل ارتباكي.
“هل تقصدتِ أن تسأليني عن شيء محدّد؟”
كانت نظراته مثقلةً بجديةٍ يصعب تفسيرها؛ لم أدرِ إن كانت تهدف لإثقال كاهلي أم أنّ هذه هي طبيعته الثابتة. آه، كم رغبتُ في الفرار من الموقف.
وأنا أعلم أنّ التردّد في الإجابة سيزيد الموقف سوءًا، ففاضت الكلمات من فمي دون ترتيب:
“ظننتُ أنّي لم أرك منذ زمن، فخطر ببالي أن أسأل متى تحضر إلى المكتب عادةً…”
“…”
“نعم، هذا كلّ ما في الأمر.
خطر ببالي فجأة، فقط أردتُ أن أسأل…”
ياليتني قلتُ ببساطة إنني نسيت، لكان أهون.
لكن الصمت الطويل الذي تلاه كلامي جعلني أشعر بثقل النظر.
بالطبع، هو مستغرب، وهذا طبيعي.
كيف لا؟ شخصٌ لا يعرفني جيّدًا يسأله عن جدول عمله، فلا عجب أن يربكه الأمر. لو كنتُ مكانه، لارتبكتُ أنا أيضًا.
بعد صمت طويل، أجاب أخيرًا محدّدًا بعض الأيام التي يتولّى فيها الحراسة داخل القصر، بينما بقيت الأيام الأخرى غير مؤكّدة.
لم أستمع جيدًا، فقد كان سؤالي مجرد محاولة للهروب من الإحراج. اكتفيتُ بهزّ رأسي متظاهرًة بأن فضولي قد زال.
تجاهلتُ نظرات المتفرّجين المريبة.
وكان ذلك كلّ ما جرى صباحًا، وما إن انتهى ذلك اليوم حتى بدأت أشعر بالقلق من أنّ الحظ لن يحالفني لبقية اليوم…
“لقد أحسنتِ العمل اليوم.”
لكن لم يحدث شيء.
حقًا، لم يحدث أيّ شيء يذكر.
مرّ اليوم عاديًّا بلا أحداث تُذكر، وعندما حلت الليلة، وجدتُ نفسي مستلقيةً على سريري متعجّبةً من بساطة هذا اليوم.
وحين عمّ الظلام أرجاء الغرفة، بدأت أسترجع أحداث الصباح، وأدركت أنّ ما حدث كان غريبًا للغاية، بل لا يمكن أن يصدق أيّ شخص ما جرى.
كيف أشرح للناس أنّني منعت حادثًا قبل وقوعه لأنني رأيته في حلمٍ الليلة السابقة، دون أن يصفوني بالمجنونة؟
‘وهل حقًّا منعتُه؟’
ربّما كان خوفي مجرد وهم، وظننت أنّ الحلم يشبه الواقع، وصادف أنّ الأمور انقضت بسلام.
مع التفكير العميق، بدا أنّ هذا التفسير أكثر منطقية.
لم أرَ حلمًا نبوئيًّا، بل ارتكبتُ خطأً في التمييز بين الخيال والواقع، ونجا الجميع بفضل المصادفة.
أو أنّه حدث شيء مشابه تمامًا للحلم، دون أن يكون الحلم استثنائيًا.
‘مهما يكن، إنها مصادفة عجيبة…’
مصادفة، أليس كذلك؟
رغم أنّ التطابق بين الحلم والواقع كان مذهلاً، قررت أن أعتبره مجرد صدفة وأطوي الأمر بعيدًا عن ذاكرتي.
من السخافة أن أؤمن بخرافةٍ لمجرد يوم واحد، خاصة أنّ غدًا ينتظرني فيه ما هو أهمّ.
وبينما دفنتُ الحادثة في زاوية من ذاكرتي، أقنعت نفسي بأنّها ستتلاشى مع مرور الزمن، كأنّها لم تحدث.
لكنني كنتُ غافلة أنّ الأمر أعظم من ذلك.
بعد يومين، في فجرٍ حالك الظلام، استيقظتُ مذعورة على سريري.
ما إن استعدت وعيي حتى جلستُ متيقظة، والهواء البارد في الغرفة يهمس: “لقد حلمتِ مجددًا.”
“كلا…!”
خرجت تنهيدة مثقلة باليأس، وشعرت بألم نابض في رأسي كصداعٍ غريب.
“فارسٌ، سيتعثّر بحجرٍ صغير؟”
رأيتُ في الحلم لحظة تعثّره، لا أكثر، لكنها كانت قريبة جدًّا.
فقدتُ نومي لبقية الليل، وذهبتُ إلى العمل مضطربة، لأجد المشهد نفسه يتحقّق أمام عيني.
أثناء نزهة قصيرة، وقع بصري على رجلٍ يسير في الممر ذاته الذي رأيته في الحلم، وأدركتُ أنّ المشهد سيتكرّر أمامي كما في الحلم بالضبط.
صرختُ بأعلى صوتي:
“أيّها الفارس! احذر الحجرة أمامك!”
توقّف الرجل فورًا، والتفت نحوي، ثمّ نظر إلى موضع قدميه حيث كانت الحجرة.
“أجل… شكرًا لك.”
صوته لم يكن ممتنًّا بالكامل، لكن كفاية أن الحلم لم يتحقّق.
حين ابتعد، اقتربتُ من الحجر لأزيحه.
كان ثقيلاً جدًا، فاضطررتُ لاستخدام كلتا يديّ حتى أزيحته جانب الطريق.
‘الآن، على الأقل لن يتعثّر أحد هنا بعد الآن.’
لكن حين نظرتُ إلى يديّ المتسختين بالطين، غمرني شعور بالفراغ.
ماذا أفعل بحقّ السماء؟ أتصرف كأنّي حارسة السلام!
غسلتُ يديّ وعدت إلى عملي، وهناك فهمتُ سبب اندفاعي الغريب.
لم أكن أحتمل رؤية الألم أو الدم. أنا التي قضيت حياتي بين الورق والحبر، لا أطيق الألم لا لنفسي ولا للآخرين.
وأكثر من ذلك…
‘حين أعلم مسبقًا بما سيحدث، لا أستطيع تجاهله، وسيبدو وكأن خطأه ذنبي.’
كان كل شيء مزعجًا: الحلم المقلق، تكراره، واضطراري للتحرّك لمنع وقوعه.
حتى أنّني دعوت السماء أن تمنعني من تلك الأحلام، لكن بعد يومين ظهر الفارس في حلم جديد.
هذه المرة رأيتُ الصناديق أمام المخزن تسقط عليه أثناء مروره.
هل هو حقًّا منحوس؟ لماذا تلاحقه الحوادث؟
“…”
لم أعد أستطيع تجاهل الأمر. يبدو أنّني أحلم بأحلام نبوئية منتظمة، وكلها تتعلق بهذا الرجل.
لم نكن أصدقاء ولا معارف عميقين، وهذا ما جعل الأمر أكثر غرابة.
حتى أنا كنتُ غير واثقة من سلامة عقلي.
لهذا قررت أن أكتم الأمر.
لا يمكنني أن أشاركه مع أحد، حتى مع الفارس نفسه.
فلو تحدّثتُ، سيوصفني بالجنون، وربما أفقد عملي أيضًا.
‘وحتى لو حاولت إثبات كلامي، سيظنّ أنّه مجرد لعب بلا جدوى.’
النتيجة؟ لا شيء يمكنني فعله حاليًا. لا شيء إطلاقًا.
رفعت يدي عن خدي ومسحت جبيني المتعب.
“آه… ليتني أستطيع أخذ إجازة.”
لكن لا، لا يمكن أن أبدّد إجازتي على صداع سببه الواقع نفسه.
عليّ أن أجد حلًّا وحدي.
ربّما أبحث في كتابٍ عن الخرافات؟ لعلّ فيه ما يفسّر أحلامي هذه.
وحتى تزول تلك الأحلام تمامًا، بلا شكّ سأواصل…
“تحذيره في كل مرة، أليس كذلك؟”
صوتي الداخلي الخجول اعترض: “لكنّ هذا محرج.”
غير أنّ الجزء الجبان من نفسي ردّ: “أتتركه يتأذّى إذن؟”
اخترت جانب الجُبن هذه المرة.
وبينما أتهيّأ للعمل، تمتمتُ لنفسي:
“ليس أمرًا صعبًا. سيظنّ أنّني أُحادثه أكثر من المعتاد.”
أو سأبدو حساسّة جدًا تجاه السلامة. لا بأس، طالما أنّني لن أضطر للتضحية بنفسي لأجله.
وقبل الخروج، هممتُ بالقول:
“لأتفقّد الصناديق أمام المخزن أولًا.”
أضيف إلى روتين أيامي عملٌ جديد: الحيلولة دون تحقق الأحلام.
ومع غرابة الأمر، شعرت ببعض الخفّة وأنا أخطو نحو الخارج.
وفي ذلك اليوم أيضًا، صرختُ:
“آه، أيها الفارس! ألا ترى أنّ تلك الصناديق موضوعة بطريقة خطرة؟”
وهكذا نجوتُ مجددًا من حادث دموي محتمل.
ومنذ تلك اللحظة، بدأت خفيةً مهمّة جديدة لم يعلم بها أحد: “عملية إنقاذ الفارس من الإصابات.”
يرجى إدخال اسم المستخدم أو عنوان بريدك الإلكتروني. سيصلك رابط لإنشاء كلمة مرور جديدة عبر البريد الإلكتروني.
التعليقات لهذا الفصل " 2"