“لقد حذّرنا صاحبُ الدكّان قبل قليل أيضًا من أنّ الزقاق موحش، ولا أحد يعلم من أين قد يأتي الخطر.”
ولوهلةٍ ظننتُ أنّ تردده كان حقيقيًا، لكنه عاد إلى طبيعته سريعًا، مستعيدًا ملامحه المهذّبة المألوفة.
ولم تكن هناك حاجة لأن أقول إنّ هدوءه ذاك بدا أكثر وقاحة من المعتاد.
وبما أنّ سخافة منطقه لم تكن جديدة، فقد تجاوزتُ ردّ فعل الدهشة، واخترتُ مواجهة الأمر بعقلانية.
“صحيح أنّ المكان قد يكون خطِرًا، لكن لا أرى سببًا لأن نمسك الأيدي. بل لو خرج شيءٌ فجأة، فقد يُعيقنا تشابك الأيدي بدل أن يساعدنا.”
“أمسك يدكِ لأحافظ على مسافةٍ قريبة تُتيح لي التصرّف بسرعة. ثم إنّ الإمساك باليد لن يعيقنا كثيرًا.”
“إذًا… سأظل قريبة منكَ وحسب. أليس هذا كافيًا؟”
“…….”
ولمّا بقي صامتًا، ومع ذلك لم يفلت يدي، انتظرتُه قليلًا، فسمعتُ منه جملةً أغرب ممّا سبق.
“إذا كنتِ تمسكين بيدي وتبقين قريبةً منّي، فهذا يعني……”
“يا سيّدي الفارس… لحظة فقط.”
هززتُ يده بخفّة وابتسمتُ بسخريةٍ لطيفة.
فتوقّف عن الكلام وخفض عينيه.
ولسببٍ ما، شعرتُ وكأنني أوبّخ تلميذًا صغيرًا، فتابعتُ بنبرةٍ هادئة:
“أنتَ تدرك أنّ ما تقوله غريب… أليس كذلك؟”
“……نعم.”
“وهل هناك سببٌ مُحدّد يجعلك تُصرّ على الإمساك بيدي؟”
حرّك نظره جانبًا ثم عاد إليّ، واعترف بصدق:
“لا أعلم حقًّا. وإن كان لا بدّ من التفسير… فقط رغبتُ بذلك.”
“همم… رغبتَ بذلك، إذن.”
لطالما رأيتُ أنّ تصرفاته مناسبة تمامًا لِسوء الفهم.
تأملتُه قليلًا، وواصلتُ التفكير بصوتٍ منخفض:
“بما أنكَ قلتَ إنك لا تهتم بالعلاقات العاطفية، فلا داعي للظن أنّ لديكَ مشاعر نحوي.”
“…….”
“فهل بدا لكَ الزقاق خطِرًا جدًّا؟ أو ربّما شعرتَ بشيءٍ غريب لم أشعر به أنا؟ أو حين تقارن بين قوّتك وقوّتي، رأيتني ضعيفة للغاية، مثلًا.”
“لا أعلم ما يخصّ الجزء الأوّل… لكني حقًّا رأيتكِ ضعيفة بعض الشيء.”
“بما أنّك نفيتَ الأولى، كان سيكون لطيفًا لو نفيتَ الثانية أيضًا. على أيّ حال…”
رفعتُ كتفيّ بخفّة، ثم حرّكتُ يدي لأحوّل القبضة من وضعٍ يطوّق فيه يدي إلى إمساكٍ متبادل.
وحين لمستُ يده أولًا، انكمشت أصابعه قليلًا قبل أن تسترخي.
كم مضى من الوقت منذ آخر مرّة أمسكتُ فيها يد شخص آخر؟
ليس مصافحة… بل بهذا الشكل؟
بدت لي التجربة غريبةً بينما واصلتُ الحديث.
“أظنّ أنّ لديكَ سببًا حقيقيًا لعدم ترك يدي. ربّما تجربةٌ قديمة تركت أثرًا في اللاوعي، أو شعورٌ بالطمأنينة في حرارةٍ ليست حرارتك.”
“…….”
“أو ربّما هو شعورٌ ما… لم تتمكن من إدراكه بعد.”
تمتم الرجل بهدوء: “إدراك…”
“أنتَ في هذه الأمور قليل الخبرة، صحيح؟
تسأل دائمًا كيف تُفهم المشاعر، وما الذي يجب فعله عند هذا النوع أو ذاك من الأحاسيس.”
“……نعم.”
“إذًا، لا تخترع مبرّرات بعد الآن.
فقط قل ما تشعر به في تلك اللحظة.
حتى لو كان جوابًا بسيطًا مثل: ‘هكذا رغبتُ وحسب’.”
وقفتُ أمامه مبتسمة، موجّهةً كلامي إلى وجهه الذي بدا وكأنه انكمش قليلًا.
“وسأفكّر معك بما قد تكون تلك المشاعر.”
“…….”
“مع أنّي لستُ أنتَ، وقد لا أصيب في كلّ مرة.”
بمعنى آخر، كفّ عن تضليل نفسك بالشرح الزائد.
أما هو، فأطال النظر إليّ قبل أن يومئ برأسه بهدوء.
“حسنًا… ما رأيك أن نُمسك الأيدي إلى أن نعبر الزقاق؟ بما أنّك قلتَ إنك ترغب بذلك.”
“وهل أنتِ… لا تمانعين أن نستمر هكذا؟”
“لا مشكلة لديّ. وليس هنا أحد قد يسيء الفهم.”
لم يكن يُصرّ على الإمساك بيدي فقط، بل صار يسأل إن كان الأمر مناسبًا لي.
نظرتُ إليه بإعجابٍ خفيف، متأكدةً أنّ هذا تطوّر ملموس في سلوكه.
ولم أكن أعلم حينها أنّ مبالغته في الصراحة مستقبلًا ستورطني في مواقف كثيرة.
“سمعتُ أنّ مكانًا يشبه خيمةً كان في موضع بيتٍ قديم… آه، هل هي تلك هناك؟”
ولحسن الحظ، لم يكن في الزقاق أحدٌ مريب قبل غروب الشمس.
ولم يطل الوقت حتى رأينا ما نبحث عنه.
كانت الخيمة كبيرة كأنها كوخٌ صغير، مندسّة في ظلمة الزقاق.
تُثير الريبة من موقعها وهيئتها، كأنها وُضعت عمدًا لتجذب الفضول.
أما أنا، فلو كنتُ وحدي ما اقتربتُ أبدًا.
لكن وجود أحد أمهر فرسان الدوقية معي منحني شجاعة للدخول.
“أ… هل هناك أحد؟”
وما إن أزحتُ الستار حتى خيّم الظلام، ولم يبقَ سوى ضوء الشموع.
أول ما رأيته كان مكتبًا كبيرًا وكرسيًا، وامرأة تجلس خلفه.
توقّفتُ بخفّةٍ أمام رهبة حضورها، ثم خطفت انتباهي الأشياء المتناثرة حولنا:
أدوات العرّافات التي نراها عادةً… على المكتب، تحته، قرب الكرسي، وحتى على الأرض.
هل هناك كرةُ بلّور أيضًا؟ آه… نعم، هناك واحدة.
كان المكان مناسبًا جدًّا لقصص العرّافات…
“لا أظنّ أنها ساحرةٌ حقيقية. أليس كذلك؟”
همستُ للرجل، لكن المرأة قالت بسخرية لطيفة:
“أهلًا. تساءلتُ متى ستأتيان أخيرًا.”
“…عفوًا؟”
“كنتُ أعلم مسبقًا أنكِما ستأتيان. أنتِ سينثيا، وأنتَ ديريك، صحيح؟”
ارتبكتُ لسماع الاسمَين، فازدادت ابتسامتها.
“تسلّيتُ البارحة وتنبّأتُ لنفسي، فعرفتُ أنّكما ستزورانني اليوم. والآن… هيا، اقتربا واجلسا.”
“…….”
“لا داعي لكلّ هذا التوتر.
أتيتما لأن لديكما ما تريدان معرفته، صحيح؟”
ارتعش ظهري من نبرةٍ بدت كهمسٍ داخل العظام، لكن الرجل انحنى نحوي وقال بصوتٍ منخفض:
“هل أنتِ بخير، سيّدتي؟”
“…نعم، بخير.”
لم أكن بخير تمامًا، لكن لم أرَ في المرأة عداءً ظاهرًا، فتقدّمت وجلست.
وبمجرد أن جلسنا متجاورَين، بدأت الحديث مباشرةً:
“لنبدأ بالتعريف. وقولا لي لما جئتما.
أعرف كلّ شيء بالفعل… لكن ترتيب المشهد مهمّ، أليس كذلك؟”
“…هل نخبركِ رغم أنّكِ تعلمين؟”
“كلّما طابقَت القصةُ الواقعَ ما رأيتُه في نبوءتي، كان ذلك أفضل. فالمستقبل متقلّب.”
لم أفهم قولها تمامًا، لكن كلمة ‘نبوءة’ ظلت ترنّ في رأسي.
فالرؤى التي كنتُ أراها في أحلامي بشأن الرجل… نوعٌ من الاستبصار أيضًا.
بعد أن رتبتُ أفكاري، رويتُ ما حدث:
الحلم المفاجئ، وكيف صار حقيقة، وكيف كان دائمًا يتضمن إصابة الرجل…
وبينما كنتُ أتحدث، ظلّ الاثنان يستمعان بصمت.
يرتدّ صوتي وحده في الخيمة المظلمة.
“…ثم سمعنا أنّ والدة السيّد الفارس كانت ساحرة، وتركت وراءها قولًا مهمًّا.”
“يكفي. لا أريد سماع وصايا ساحرةٍ ماتت مبكرًا. نبرةُ تلك الأمور كئيبة.”
لكنها على الرغم من ذلك تابعت الحديث مباشرةً:
“على كلّ حال…
القوّة التي تربطكما فعلًا… قوّة ساحرة.”
“……!”
“لا أعرفُ ماهيّتها بدقّة، لكن السحرة يستطيعون الشعور بقوى بعضهم بعضًا، ولو بضعف.
لكن هذا لا يعني أنهم يعرفون ما هي تلك القوى أصلًا، أو ماذا يفعل الساحر الآخر بها.”
ثم ضربتْ الطاولة بعصًا خشبية كانت تمسكها.
“والطريقة لفكّ هذه القوّة؟
لا يعرفها إلا صاحبها.
قد يمكنُ كسرها بقوّةٍ معاكسة… لكن بالنسبة لي، هذا خارج قدرتي.”
“قوّةٌ معاكسة… تقصدين—”
“كما يُطفأ الحريق بالماء، ويُهزم الظلام بالنور.
أو… ابحثا عن ساحرٍ يمتلك القوّة نفسها بالضبط.”
لم يكن الكلام مبشّرًا تمامًا، لكنه لم يكن ميؤوسًا منه أيضًا.
فقلتُ متفكرةً:
“هل يعني هذا أنّ كلّ ساحر يولد بقوّة واحدة محددة؟”
“أجل.”
ابتسمت المرأة—تُدعى لاحقًا تشيلسي—بثقة.
ازداد فضولي، فتابعتُ أسئلتي:
“بما أنكِ قلتِ إنّ هناك سحرةً بقدرات متشابهة أحيانًا…
فهلا ساعدتنا أنتِ؟ قوّتُكِ تبدو أقرب إلى النبوءة.
ألا تستطيعين حلّ هذا الوضع؟”
“ناديني تشيلسي فقط.
وبالمناسبة… قوّتكِ ليست نبوءة.
وقوّتي ليست رؤية المستقبل… بل ‘التنبؤ’.”
“أهي مختلفة؟”
“طبعًا.
أنا لا أرى إلا مستقبلًا واحدًا… خلال أسبوعٍ واحد فقط.
ثم أبلّغه لمن يخصّه.
أما أنتِ…”
ونظرت إلى الرجل بإشارةٍ برأسها:
“فقد أخفيتِ أحلامكِ عنه فترةً طويلة… ولم يحدث شيء.
هذا ليس تنبؤًا.”
وبينما كنتُ أبتسم محرجَة، تكلّم الرجل فجأة:
“إن كان الأمر هكذا… فهل لديكِ نبوءة أخرى نحتاج إلى سماعها؟”
عقدت الساحرة حاجبيها للحظة…
ثم تلألأت عيناها البراقتان بلعبةٍ خفيّة.
التعليقات لهذا الفصل " 19"