“كانت تأتي مرّة أو مرّتين في الشهر، تجلس في مكانٍ ثابت، ثم تأخذ المال من المارّة لتقرأ حظوظهم. ولأنّ قراءاتها كانت تصيب أكثر مما تُخطئ، صار الناس يسمّونها ساحرة.”
قال صاحب الدكان ذلك بنبرةٍ فاترٍة، ثم أضاف وكأنه يهوّن الأمر:
“لكن في النهاية… ليست سوى عرّافة. في هذا الزمان، هل توجد ساحراتٌ حقيقيات؟ أليست تلك الأشياء قد اندثرت في عصورٍ غابرة؟”
نظرتُ إلى وجه الرجل الواقف بجانبي أستطلع ردّ فعله، ثم سارعتُ لقطع الحديث قبل أن يزيد صاحب الدكان كلامًا آخر.
“إذًا… هي لا تبقى دائمًا داخل القرية. لديّ صديقة تسكن هنا قالت إنّها مثيرة للاهتمام، لذلك أردتُ زيارتها بنفسي.”
“هممم… أظنّ أنّها جاءت مؤخرًا…؟ لكن لا أعرف إن كانت ما زالت هنا. هل ترغبين في أن أعطيكِ دليلاً لتجديها؟”
ولأنني اشتريتُ الكثير، قال إنها خدمة صغيرة، ثم أخذ يرسم خريطةً مختصرة على ورقةٍ بحجم راحة اليد. بدا أنها موجودة في أحد الأزقّة العميقة.
“ذلك الزقاق موحشٌ للغاية، ويتجمع فيه كثيرٌ من الأوغاد. من الأفضل أن تذهبي قبل الغروب.”
“سأفعل ذلك.”
“مع أن… رفيقكِ قوي البنية بما يكفي، فلا أظنّ أنّ أحدًا سيجرؤ على الاقتراب منكما.”
رفع صاحب الدكان رأسه لينظر إلى الرجل الطويل، ثم ابتسم بخفة. وبعد أن وضع الأكياس الورقية في يدي، قال ونحن نهمّ بالخروج:
“أيامكما جميلة… تذكّرني بشبابي أنا وزوجتي.”
“… ماذا؟”
“إلى اللقاء، وإذا احتجتما شيئًا فمرّا ثانية!”
أُغلق الباب خلفنا قبل أن أستوعب الرد، ودوّى صوت الجرس دلّالانغ بطريقةٍ بدت فارغةً على غير العادة.
وقفت أمام الباب المغلق، فاغرةً فمي دون كلام، ثم رفعت بصري نحو الرجل. كالعادة، كان يحدّق بي بصمت، ملامحه بلا تغيير.
لم يسمع؟
“يبدو أنّ الرجل يسيء الظنّ عندما يرى رجلًا وامرأة يسيران معًا وحدهما.”
… سمع. اللعنة.
أحبّ دقته المفرطة وحسّه القوي، لكن في مثل هذه اللحظات… أتمنى فقط أن أختفي.
ابتعدتُ عنه ومشيتُ بسرعة محاولةً الهرب، لكن ذلك لم يُجدِ نفعًا؛ فمهما أسرعتُ، كان يلحق بي بخطواتٍ قليلة.
“سيّدتي… هل تشعرون الآن بأيّ مشاعر إيجابية؟ كالفرح مثلًا؟”
“أبدًا. في حياتي لم أمرّ بلحظةٍ لا أشعر فيها بشيء كهذه.”
“ولكن… عندما يظنّ الناس أنّكِ في علاقة مع شخصٍ تُحبّينه، ألا يُفترض أن تشعري بالسرور؟”
“الفرضية من الأساس خاطئة، فرجاءً… لا تتحدث وكأنك تريد اختبار المشاعر التي قرأتَ عنها في الكتب.”
لحسن الحظ، لم يبدأ هذه المرة بجدار الجليد المعتاد: “أعلم أنّكِ تُحبّينني، ولكنني كما قلت…”.
صرتُ أُطفيء أذني تلقائيًا في تلك اللحظات.
لم أعد أشعر بالظلم كما شعرتُ في البداية؛ بدا الأمر كأنّني أسير بجانب دمية تكرر الكلام نفسه بلا نهاية.
ومادامت الكلمات لا تصل إليه، فقد اعتدتُ أن أقول في داخلي ها قد بدأ مجددًا وأتجاهل الأمر حفاظًا على أعصابي.
لكن رغم ذلك، لا يزال هناك لحظات يُثير فيها غضبي، ويبدو أنّ الوصول إلى مرحلة أتجاهل فيها كل سوء فهم يتطلب وقتًا طويلًا.
وفوق كل هذا، من الذي يثير سوء الفهم…؟
في تلك اللحظة، شعرتُ بأنّ يدي أصبحت فجأةً خفيفة.
كانت حقيبة صغيرة، لكن قوارير الحبر جعلتها ثقيلة بعض الشيء. اختفاء وزنها المفاجئ جعلني ألتفت بسرعة نحو “السارق”.
طبعًا… الرجل أمسك الحقيبة وكأن ذلك من حقّه الطبيعي.
“لماذا أخذتَ حقيبتي فجأة؟”
“بناءً على عدد الأشياء التي اشتريتموها، رأيتُ أنّ الحقيبة ستكون ثقيلة عليكم.”
“لكنني حملتُها طوال الوقت بنفسي، ولم تكن ثقيلة لدرجة أطلب فيها المساعدة.”
“ومع ذلك… إذا كان أحدنا سيحملها، فمن المنطقي أن أكون أنا. سأحتفظ بها حتى نعود إلى قصر الدوق.”
أي أنّه سيحملها طول النهار، لكنه يصوغ الأمر وكأنه يقدّم خدمة مؤقتة!
أما اعتراض “ولماذا يجب أن يحملها أحدنا أصلًا وهي حقيبتي؟” فقد ارتدّ عن جدارٍ صلب.
أرأيتِ؟ يقول ألا أحبّه ثم يواصل الاهتمام بي بهذا الشكل.
في كل مرة يُظهر فيها اهتمامًا لم أتوقعه، رغبتُ في الصراخ: أنتَ من يجعل الأمور مربكة، لا أنا!
فهو يسألني إن كنت أحبه بمجرد أن أردّ له بعض الاهتمام، لكنه هو نفسه يكبر اهتمامه بي يومًا بعد يوم.
وفي النهاية، أنا وحدي من يغرق في الارتباك.
والأسوأ… أنني لم أعد أعرف هل هو يهتم فعلًا، أم أنّني وحدي أظنّ اهتمامه اهتمامًا.
يا للارتباك…
“إذا ظهر حملٌ آخر، سأحمله أنا. حتى لو كان حملك أنت.”
“لكن ما زالت لديّ يدٌ فارغة.”
“لم آتِ معك لأجعلَك تحمل أغراضي أيضًا، أنا— آه!”
دفعتني موجةٌ من الناس فجأة، فكادت قدمي تُداس، لكن الرجل قبض على ذراعي وسحبني إلى الخلف في اللحظة المناسبة.
“ازدحم المكان بسرعة… لهذا أردتُ العودة باكرًا.”
“أين يقع ذلك الزقاق؟”
“هنا، حسب الخريطة. قال إننا ننعطف بعد محلّ الزهور. وبما أنّنا مررنا به قبل قليل، فهو قريب.”
المشكلة الوحيدة… أنّ الزحام قد يجعلنا نفترق بسهولة. وإن حاولنا الالتفاف، قد نضيع كليًا عن الطريق.
تلفّتُّ حولي، ثم خطرت لي فكرة.
“من الأفضل أن تسير أنتَ في المقدمة. سيجعل ذلك المشي أسهل علينا.”
“وهل يتغيّر شيءٌ إذا تغيّر الشخص الذي يسير أمامنا؟”
“نعم. مهما دفعني الناس، أستطيع رؤيتك من بعيد بسبب طولك.”
“…….”
“أليس من الأسهل أن أجدك أنت بدلًا من أن تجدني أنت؟”
ظننتُ أنه سيوافق فورًا، لكنه ظلّ صامتًا طويلًا. وحين بدأتُ أتساءل عن السبب، قال فجأة:
“إذا لم نفترق من الأساس… فلن يحتاج أحدٌ منا للبحث عن الآخر.”
“هذا صحيح… لكن مع هذا الزحام، من المستحيل أن—”
اندفعت مجموعة من الناس نحونا، رغم أننا وقفنا قرب الجدار كي نتفاداهم. دُفعتُ من الخلف وفقدت توازني.
أمسكني الرجل مجددًا بثبات، فاستعدتُ توازني بسهولة.
“سيّدتي.”
رفعتُ رأسي بشكلٍ آلي، وفجأة أدركت… كم كنّا قريبين.
كان ينظر إليّ مباشرة، ثم خفض قبضته شيئًا فشيئًا على ذراعي. انزلقت أصابعه نزولًا، كأنها تمسح الجلد برفقٍ مقصود، حتى وصلت إلى يدي…
ثم قبض عليها.
قبضةٌ كاملة. ثابتة. دافئة.
“سأمسك بيدك وأسير. هكذا لن نفترق، ولن نضيّع أحدنا الآخر.”
“…….”
“إن كان الأمر يزعجكِ، فقولي.”
كانت يده كبيرة، تغلّف يدي بالكامل بدفءٍ مطمئن.
شعرتُ بارتباكٍ طفيف وأنا أجيب:
“… لا، ليس مزعجًا.”
“إذًا سنمضي هكذا. هل يناسبك ذلك؟”
“… نعم.”
بمجرد أن لفظتُ الكلمة، بدأ السير، واتبعتُه بصمتٍ بينما تمتدّ حرارته حتى معصمي.
ازدحمت الأصوات والضوضاء من حولنا، وفقدتُ الإحساس بالاتجاه، لكن قبضته لم تتراخَ.
كانت قوية بما يكفي لأفكر أنّه لن يتركها حتى لو حاولتُ.
لكنني كنت أعلم أيضًا… أنه سيترك فورًا لو أردتُ حقًا.
لم أتوقع منه أن يأخذ المبادرة.
في الزحام، أصبحتُ أكثر وعيًا بوجوده. مشيتُ خلفه قليلًا، أنظر إلى مؤخرة رأسه. شعره الكحلي الداكن بدا لامعًا تحت ضوء السماء.
إنسانٌ يرفض فكرة وجود المشاعر من الأساس… وها هو يُمسكني بهذا القرب.
هل كان سيقبل لو أنا من طلبتُ الإمساك بيده؟
أم أنه فقط… لا يرى فرقًا ما دام لا يشعر بشيء؟
فجأة، شعرتُ بغضبٍ طفيف.
ثم برغبةٍ طفولية في الردّ عليه بالمثل: إذا كنتَ تتصرف كأنك لا تشعر بشيء… فسأتصرّف أنا أيضًا هكذا.
كفى. هذا يجعلني أبدو وكأنّني… معجبة به.
توقفي، وتوقفي عن التفكير فيه.
حين هدأت تلك الفوضى في صدري، وجدنا أنفسنا عند مدخل الزقاق.
“يبدو أنّه هذا الطريق. لا توجد تفاصيل كثيرة… فقط أن نمشي للأمام.”
كنت على وشك التقدم، لكن شيئًا—أو بالأحرى شخصًا—أبقاني ثابتة:
وزنٌ خفيف على معصمي.
“سيّدي الفارس.”
“نعم.”
“أظنّ أنّ الوقت قد حان لنترك الأيدي. تجاوزنا المكان المزدحم، ولم تعد هناك حاجة لذلك.”
“… آه.”
أخيرًا نظر إلى أيدينا، ثم بدأ ببطءٍ يخفف قبضة أصابعه.
انزلقت يدي تقريبًا، لكنها لم تسقط تمامًا.
فما يزال… طرف أصابعه ممسكًا بطرف أصابعي.
تلامسٌ صغير… لكنه مقصود.
“سيّدي الفارس؟”
“…….”
تجمد هو، لا أنا.
وحين ناديتُه مجددًا ولم يجب، تمتم أخيرًا:
“ألا تعتقدين أنّ هذا الزقاق… قد يكون خطيرًا لو كان مظلمًا؟”
التعليقات لهذا الفصل " 18"