امتلأت الغرفةُ بأضواءِ الشمس.
وكانت مرتَّبةً بعناية، وبدا الهواءُ فيها باردًا قليلًا، لعلّهم قد فتحوا النوافذ للتهوية قبل وصولي.
حجبت السّتائرُ البيضاء جزءًا من النافذة، فشكَّلت ظلًّا لطيفًا.
ولم يكن في المكان الكثيرُ من الأثاث، سوى السرير، وطاولة، وكرسيٍّ واحد، مما جعل الغرفة تبدو بحقٍّ كمكانٍ مُعدٍّ لراحة المريض.
وكانت الأجواءُ برمتها مشرقةً ونظيفة.
وعلى السرير القريب من النافذة، كان الرجلُ يجلس مسندًا ظهره إلى الوسائد.
تُحدِّق عيناه الخاليتان من أيّ انفعال في جهتي، ثم تتبدَّل ملامحُه حين يقع بصري عليه.
كان التغيّرُ خافتًا للغاية، حتى إنني لم أستطع تفسيره.
وقبل أن تتّضح لي ملامحه، حاول النهوض من السّرير، فانتفضتُ واقتربت بسرعة.
“توقّف قليلًا، لا تنهض. لقد تأذّيت.”
“لا يستدعي الأمر تقييد حركتي تمامًا.”
“لكنّ الأفضل ألّا تتحرّك! عد إلى السّرير من فضلك.”
رفع الرجلُ بصره نحوي بحدّةٍ صامتة، ثم عاد إلى وضعه الأول بلا مقاومة.
تنفّستُ الصعداء، وجذبتُ الكرسيَّ لأجلس بقربه.
وما إن اقتربتُ منه، حتى شعرتُ برائحة المطهّر النفّاذة.
وبين طيّات قميصه المفتوح قليلًا، لاح لي ضمادٌ يلف كتفه، فحملقتُ فيه بقلقٍ ظاهر.
“إم… سمعتُ أنّك تأذّيت، وأنّك تحتاج إلى أيّامٍ من الرّاحة… هل أنت بخير الآن؟”
“نعم. لا داعي لقلقكم. ليست إصابةً خطيرة، وحالي اليوم أفضل من الأمس.”
لكنّ بقاؤه في الغرفة منذ أيام لا يوحي بأنها إصابة بسيطة.
تحرّكت أصابعي بتوتّر، قبل أن أسأله بصوتٍ خافت:
“هل… يمكنني أن أعرف كيف أصبتَ؟”
كانت لديّ شكوك.
ربّما ما سمعته من أوفيليا لم يكن دقيقًا، وربّما كان سبب إصابته مختلفًا عمّا رأيته في الحلم.
غير أن إجابته الرصينة حطّمت كل احتمالاتي:
“أثناء التخلّص من الدروع غير الصالحة للاستخدام، وفي مرحلة تثبيتها بالحبال، انزلقت الدروعُ المكدّسة في العربة.
كنت واقفًا بالقرب منها، ولم أستطع تفاديها في الوقت المناسب، فأُصبت.”
“……”
كانت حكايته مطابقةً تمامًا لما رأيته في الحلم، حتى بتفاصيلها الصغيرة.
ولما أدركتُ ذلك، وضعتُ يدي على جبيني وانحنيت.
لم يحدث من قبل أن تتكرّر إصابته في الواقع تمامًا كما رأيتُها في الحلم.
ولم تكن إصابةً عابرة، بل إصابةٌ اضطرته للبقاء طريحًا أيّامًا عديدة.
ولو قستُ زمن الحلم إلى الزمن الحقيقي، لما كان بإمكاني منعه حتى لو ركضتُ إليه فور استيقاظي.
ومع ذلك، ظلّ شعور الذنب يطعن قلبي كإبرةٍ دقيقة.
وبينما أنا مطرقةٌ برأسي، انساب صوته فوقي:
“ما إن بدأت الدروع بالسقوط، حتى رفعتُ ذراعي لأحمي رأسي وسائر جسدي.
والكتفُ—وهو موضعُ الإصابة الوحيد—لم يتضرّر في العظم أو العضلة.”
“……”
“لقد تجنّبتُ إصابةً أسوأ بكثير.
لذلك… أتمنّى ألا تقلقي إلى هذا الحد.”
كانت كلماته… أشبه باهتمامٍ صادق.
لم أتوقع منه مثل هذا اللطف.
شعرتُ بالخجل لأنّ قلقي بدا واضحًا بهذا الشكل، وبالامتنان لأنّ كلماته هدّأت ارتباكي.
“الحمد لله أنّك بخير. لقد أفزعني الخبر حقًّا.”
لمّا ارتسمت على وجهي ابتسامةٌ خفيفة، رفع بصره إليّ.
ونظرةُ عينيه التي التقطت وجهي أعادت إلى ذهني وعدي: لن أقترب منه مجدّدًا.
لم يكن مناسبًا أن أبقى طويلًا بعد قول ذلك.
دفعتُ الكرسي، وهممتُ بالوقوف.
“إذًا… سأغادر الآن. أردتُ فقط الاطمئنان عليك، وبحاجة أنت أيضًا إلى الراحة…”
“بيسرنيم.”
“نعم؟”
“كيف مضت أيامكم الماضية؟”
تجمّدت في مكاني.
لم يكن بصدد إنهاء الحديث.
بل كان… يسألني بجدّية، كأنّ الأمر يهمّه حقًّا.
“أنا…؟”
“نعم.”
أجبت بنبرةٍ حمقاء، فأومأ وكأنه ينتظر المزيد.
كان يمكنني أن أسأله: لماذا تودّ أن تعرف؟
لكنّ الكلمات لم تتحرك.
وجدتُ نفسي أجلس من جديد.
“إم… كنتُ مشغولة قليلًا. يتضاعف العمل في هذا الوقت من السنة.”
“تقصدون بداية الربيع؟”
“نعم. ما إن ترتفع الحرارة قليلًا، تتدفّق الأوراق إلى مكتبنا…”
وانهمر الحديث بسلاسةٍ غير متوقّعة.
حدّثته عن أسباب انشغالي، وعن تفاصيل صغيرة من العمل، وعن تذمّري من قلّة عدد الموظّفين.
وكان هو مُصغيًا ممتازًا، يردّ في الوقت المناسب، ويحكي القليل من أموره.
كأنّ كلّ ما سبق من المسافات البعيدة لم يكن يومًا.
“وهل انتهى انشغالكم الآن؟”
“نعم. لديّ إجازة قصيرة الآن… وإن لم تكن طويلة.”
لامستُ طرف قرطي بيدي، وابتسمت:
“يبدو أننا نحظى بإجازةٍ في الوقت نفسه… حتى لو كانت إجازتك مجرّد نقاهة.”
“صحيح. ولن تكون طويلة بدوري. سأعود إلى عملي حين أستعيد عافيتي.”
“ستعود فور أن تتحسّن؟ لم أتوقع أن يكون قائدكم بهذه الصرامة…”
“عدد أفراد الحراسة قليل. غيابي القصير يعني زيادة كبيرة في عبء الآخرين.”
ولوهلةٍ استحضرتُ صورة بعض الفرسان الآخرين.
فانساب سؤالٌ بريء من لساني:
“بالمناسبة… هل أصيب أحدٌ غيرك؟ لم تكن وحدك وقت ترتيب الدروع، صحيح؟”
“……”
“…سيدي؟”
ساد الصمت.
ثم خفَض بصره قليلًا، كمن يعيد حساباته.
وحين تكلّم، كان صوته عاديًا… لكن كلماته جعلت الدم يتجمّد في عروقي.
“وكيف عرفتم أنني لم أكن وحدي آنذاك؟”
“……!”
شعرتُ بأنّ الدم يغادر أطرافي.
لقد اختلطت الأحداث في ذهني أثناء الحديث، وحين رجعتُ بذاكرتي أدركت:
وجود شخصٍ آخر معه… كان شيئًا لم أعرفه إلّا من الحلم.
تجمّدتُ، والذهن يحاول—بشكل يائس—أن يجد مخرجًا.
لكنه كان ينتظر.
لا يضغط.
لا يشتبه.
فقط… ينتظر.
ولأنّ في عينيه لم يكن أثرُ تهديدٍ أو مساءلة، خفَّ روعي شيئًا فشيئًا.
الغرفةُ هادئة.
والشمسُ تدخل بلطف.
ولا شيء يدفعني للخوف كما كان الحال سابقًا.
وتسلّل سؤالٌ غريب إلى ذهني:
هل أنا حقًّا ارتكبت خطأً جسيمًا؟
هل يستحق الأمر كل هذا الذعر؟
وانهار السيل الداخلي.
ولم أدرِ كيف خرجت الكلمات.
“سيدي…”
حين قرّرت سابقًا ألّا أذكر له شيئًا عن أحلامي، كان لديّ أسبابٌ قوية.
لن يصدّقني.
وإن حاولتُ إثباته سيؤول الأمر إلى شائعةٍ بأنني مختلّة.
وقد أفقد عملي… وحياتي المستقرّة.
كانت تلك المخاوف تخيفني حتى الارتجاف.
أمّا الآن… فكلّ شيء بدا بلا وزن.
أو لعلّ رغبتي في التحدّث صارت أكبر من خوفي.
‘لا بأس… وليحدث ما يحدث.’
لأول مرة، غامرتُ.
حين رفعتُ بصري إليه، كانت عيناه تنتظران، ثابتتين كأنّهما لن تزيغا عن عيني مهما حدث.
“قد يبدو كلامي… غريبًا قليلًا.”
لم يجب.
بل ظلّ صامتًا… يدعوني لأتابع.
وبحثتُ عن بداية.
عن أوّل خيطٍ يمكن الإمساك به.
“منذ… نحو شهرٍ ونصف.
كان الجوُّ غائمًا، ولم يظهر القمر تلك الليلة…
وأذكر ذلك جيّدًا.”
زفرتُ زفرةً صغيرة.
“في تلك الليلة… رأيتُ حلمًا غريبًا.”
يرجى إدخال اسم المستخدم أو عنوان بريدك الإلكتروني. سيصلك رابط لإنشاء كلمة مرور جديدة عبر البريد الإلكتروني.
التعليقات لهذا الفصل " 14"