استمرّت شدّة العمل خانقةً إلى حدٍّ لم أعد أعرف معه
هل أنا أُنجز المهام…
أم المهام هي التي تنهشني.
وبَدءًا من منتصف الأسبوع، بدأ يساورني شكٌّ معقول بأنّ الأوراق تتكاثر من تلقاء نفسها.
فحتى ما أنهيته تمامًا… كان يعود إليّ مجدّدًا وفقًا لحكم الدوق.
ومع ذلك، نجوتُ من هذا الجحيم أيضًا.
كلّ الوثائق التي سحقتُ أعصابي لأُتمّها لم يبقَ لها إلا الموافقة الأخيرة من الدوق.
“سينثيا، هل انتهيتِ من الشيء الذي طلبتهُ قبل قليل؟”
“نعم، لحظة فقط.”
نزعتُ الملاحظة التي كُتب عليها:
“إعادة التصنيف ثم جمع البنود”
ثم جمعتُ كلّ ما يتعلّق بها معًا.
وحين خرجت السيدة أوفيليا إلى مكتب الدوق للحصول على الموافقة النهائية، بقيتُ وحدي في غرفة السكرتارية الفارغة.
كان المكان قفرًا بلا أوراق—
كأنّ حربًا شرسة انتهت فجأة.
وبقايا قوتي الأخيرة دفعتني لترتيب المكتب، وما إن وجدتُ مساحةً مناسبة… حتى وضعتُ رأسي عليها واستسلمتُ.
يا لي من مسكينة…
كنتُ على وشك الموت.
أعرف أنّ إنجاز العمل دفعة واحدة ثم الحصول على يوم راحة طريقة جيّدة، لذلك سهرتُ حتى آخر لحظة، وزاد الأمر قسوة.
كم يومًا قضيتُ محبوسة في هذا المكان؟
أسبوعًا؟
وربما يومًا أو يومين فوقه؟
لم يكن لديّ حتى قوّة لمدّ يدي نحو التقويم.
فاكتفيتُ بأن أبحث عن وضعية مريحة لذراعي كي أنام فوقها.
وسأراجع كلّ شيء بعد الإجازة.
‘الحمد لله أن موسم الازدحام يأتي مرة واحدة في السنة.
لو طُلب منا هذا الجهد طوال العام… لكنتُ متُّ من الإرهاق.’
وبصراحة، ما حدث يكفي وحده لاعتباره إرهاقًا قاتلًا.
فما إن لامستُ الطاولة حتى بدأ وعيي يتلاشى، وتمنّيتُ لو أحصل ولو على غفوة صغيرة.
على أيّ حال… سأضطر للانتظار حتى تعود السيدة أوفيليا.
“……”
هل غفوتُ ثلاثين دقيقة؟
أم ساعة؟
لم أدرك أنّني نمت أصلًا،
لكن المشاهد التي مرّت أمامي لم تكن واقعية.
كنتُ أراقبها من بعيد بلا فهم—
حتى مزّق أذني صوتٌ هائل، تبعه إحساس بسقوط شيءٍ ما…
فاستيقظتُ مذعورة.
“سينثيا؟”
“……”
رفعتُ رأسي بخواء.
ورأيتُ وجه أوفيليا فوقي، يحدّق بي مستغربة.
نظرتُ حولي… فعُدتُ أستوعب أنّني في غرفة السكرتارية مجدّدًا.
ولم يتغيّر شيء… سوى سقوط حامل الأقلام عن الطاولة.
احتجتُ وقتًا طويلًا لأفهم ما حصل:
لقد حلمت.
رغم انشغالي ومرضي بالإرهاق… واصل ذلك الرجل اقتحام أحلامي كلّ يومين.
لكنها كانت أحلامًا باهتة، لا وقت لتذكّرها.
وحتى لو كان لديّ وقت… لما التفتُّ إليها.
فأنا الآن أعرف أنه قادر على حماية نفسه.
هكذا تجاهلتُ أحلامي،
حتى غفوتُ قليلًا قبل قليل…
ورأيتُ رؤيا.
ومن شدّة غرابتها… لم أعرف هل أضحك أم أتكدر.
ضغطتُ على جفنيّ لأستيقظ، بينما كانت أوفيليا تلتقط الأقلام من الأرض.
“تبدين مرهقة، يا سينثيا. كان الحمل ثقيلًا هذه المرة.”
“أنا آسفة… كان يجب أن أنتظر، لابد أنّكِ متعبة أنتِ أيضًا.”
“لا بأس. لو كنتُ مكانك… لنمتُ الآن أيضًا.”
عبثتُ بحامل الأقلام بخجل.
يبدو أنّ كلّ ذلك الضجّة كانت بسبب حركةٍ مني في نومي.
“لكن لا تنامي وأنتِ منحنية هكذا مرة أخرى. سيؤذي ذلك ظهركِ.”
“حاضر.”
“على أي حال… لن تضطري للجلوس هنا كثيرًا بعد الآن.”
رفعتُ رأسي بسرعة،
فابتسمت أوفيليا ابتسامةً واسعة.
ثم مدّت إليّ الأوراق التي تحمل ختم الدوق بوضوح شديد.
“تمّ اعتماد كل شيء.
لن يكون هناك عمل كثير لفترة.”
“آه… الحمد لله.”
رفعتُ ذراعيّ في الهواء ثم تركتهما يهبطان من التعب.
كنتُ أودّ الصراخ من الفرح…
لكن طاقتي لا تسمح.
بعد هذا الحمل الهائل… تأتي الإجازة كلّ عام.
وأنا قررتُ أنني لن أنظر إلى ورقة واحدة طوالها.
وسأنام…
حتى يمَلّ السرير مني.
وبعد أن استعادت رأسي صفاءها قليلًا، ساعدتُ أوفيليا في ترتيب الوثائق المنتهية.
وحين انتهينا، كان الوقت قد أصبح مساءً مبكرًا.
خرجنا إلى الممرّ، والأفق يكسوه الضوء الأزرق الخافت لما قبل غروب الشمس.
الهواء كان باردًا، وكأن الربيع لم يكتمل بعد.
مسحتُ ذراعيّ لأطرد القشعريرة،
فسمعتُ أوفيليا تقول فجأة:
“على ذكر شيء سمعتهُ في مكتب الدوق… هل تعرفين السير ديريك؟”
“م—ماذا؟”
فاجأني اسمه كصفعة.
ارتجفت كتفاي، ورفعت أوفيليا حاجبها بدهشة.
“يبدو أنك تعرفينه. طبيعي، فأنتم تتقابلون أحيانًا أثناء مهامّ الحراسة.”
“نعم… إلى حدٍّ ما. لماذا؟”
ولأنّ الحديث عنه أعاد إليّ حلمي فورًا…
بدأت أستعيد تلك الصورة الغامضة:
شيءٌ ينهار…
قعقعة معدن…
رجل يقف أمام كومة دروع…
“ذلك الرجل… أصيب.”
وبقية كلماتها جعلتني أجمَد مكانها.
“يقولون إنه من أمهر الفرسان، ومع ذلك أصيب إصابةً تستوجب الراحة أيّامًا.”
“ك—كيف حصل هذا؟”
“لست واثقة… لكن…”
قطّبت أوفيليا جبينها كمن يفتش عن ذكرى.
“يبدو أنّهم وضعوا دروعًا قديمة في مكان ما، ثم انهارت فوقه.”
“……”
“الحمد لله أنها إصابة تحتاج راحة فقط.”
كانت كلماتها تتطاير في الفراغ…
بينما الصور في رأسي تصبح أوضح…
كدروع متراكمة…
وعربة…
وذلك الصوت المعدني المروّع…
الحلم…
وقع بالحرف.
لكن في الحلم—
كان الرجل هو من يحمي نفسه دائمًا.
فلماذا… لم يتفاداها هذه المرة؟
ارتبك وجهي حتى أقلق ذلك السيدة أوفيليا نفسها،
وهو أمر نادر لمن تعرف هدوءها المعتاد.
“يبدو أنّ صلتك به ليست عابرة. هل أفزعك الخبر؟”
“نعم… لم أسمع عنه منذ فترة، وفجأة… أسمع أنّه أصيب.”
“إن كان الأمر يقلقكِ، فزوريه.
يقال إنه لم يفقد وعيه لحظة، فاطمئني.”
أخبرتني بموعد الإجازة، ثم دفعتني للراحة.
ومع أن قدماي أخذتاني تلقائيًا نحو غرفتي…
إلا أنّ عقلي كان خاليًا من كل شيء سوى ذلك الخبر.
وبالكاد بدّلت ملابسي وتمددت على السرير…
حتى دوّى في رأسي اقتراح أوفيليا:
زيارة.
هل أذهب لرؤيته؟
‘لكنني قلتُ له… إنني لن أظهر بعد الآن.’
فكّرت طويلًا… ثم قلت لنفسي:
يكفيني هذا.
وحدّقتُ في السقف بيأس.
بالكاد كنتُ قد نسيتُه… وها هو يعود ليملأ رأسي.
سأفكّر غدًا.
غدًا فقط.
وما إن أغمضتُ عيني… حتى ابتلعني النوم فورًا.
وآخر إحساسٍ راودني قبل أن أغفو—
كان القلق عليه.
—
في الصباح—
كان الوقت متأخّرًا على الفجر، مبكرًا على الظهيرة،
حين وجدتُ نفسي واقفة أمام باب غرفته.
ها قد وصلتِ، يا سينثيا… رغماً عنك.
منذ خرجتُ من غرفتي… كنتُ أتراجع كلّ بضع خطوات،
ثم أتقدّم مجددًا بعد تنهيدة طويلة.
ثم أتراجع.
ثم أتقدّم.
إلى أن عثرت عليّ صدفةً طبيبة الدوقية، السيدة موريس، وهي تخرج من الغرفة.
“آنسة إبريل؟”
“مرحبًا… سيدة موريس.”
“مرّ وقت طويل.
هل جئتِ لزيارة السير ديريك؟”
كانت ابتسامتها صادقة ومنفتحة،
ولم أستطع سوى أن أومئ.
فوقوفي أمام الباب كان يفضحني.
“لقد انتهيتُ للتوّ من فحصه.
إن طرقتِ الباب الآن فسوف يجيبكِ. هو مستيقظ.”
“شكرًا لكِ….”
– لو كان نائمًا لعدتُ أدراجي دون تفكير.
لكن مستيقظ؟
تنهدتُ، ثم دفعتُ نفسي دفعًا.
طرقتُ الباب بخفة.
“تفضّلي.”
وصلني صوته فورًا—
سليمًا، ثابتًا، بلا ألم ظاهر.
أخفيتُ كل ارتباكي،
ثم أدرتُ المقبض… وفتحتُ الباب.
يرجى إدخال اسم المستخدم أو عنوان بريدك الإلكتروني. سيصلك رابط لإنشاء كلمة مرور جديدة عبر البريد الإلكتروني.
التعليقات لهذا الفصل " 13"