بدأت الفصول الدافئة تزحف ببطء، في إشارة إلى أنّ كلَّ ما توقّف بسبب الشتاء سيُستأنف من جديد.
ومع ذلك الدفء، هبطت قنبلة أعمالٍ على مكتب السكرتارية.
“هذا تقرير متابعة مشروع الأعمال الخيرية،
وهذا مقترح تعديل الضرائب،
أما هذا فهو قائمة الهدايا المفروضة.
أعتقد أنّك تعرفين ما يجب فعله، لكن خشيت أن تنسي، فرتّبت لكِ الأولويات في الصفحات الأولى.
وأغلب الظن أن وثائق التجارة التي استثمرت فيها الدوقية ستصل غدًا، فاستعدّي لها مسبقًا.”
“……أو- أوفيليا؟”
“مم؟”
نطقتُ اسم أوفيليا بصوتٍ مرتجف وأنا أحدّق في الجبال الورقية التي لا تكفّ عن الارتفاع.
ومع ذلك، لم تلتفت إليّ، إذ كانت منشغلة بوضع الملفات على الأرض بعد أن فاض بها المكتب.
“هل يمكن أن تخبريني… ما المستعجل بينها؟”
“ما المستعجل؟”
أخذت أوفيليا نظرة سريعة على الأكوام المخصّصة لي، ثم عدّلت نظّارتها، ومدّت إصبعها فوق الأوراق من طرف الطاولة إلى طرفها الآخر.
“من هنا… إلى هنا. كلّه مستعجل.”
“……”
“كلّها مهمّة، ولا واحد منها يمكن تأجيله. أنت تعلمين أن هذه الفترة هي الأكثر ازدحامًا، سينثيا.”
كنت أعلم ذلك جيدًا—بل مؤلمًا.
ففي الوقت الذي تتفتح فيه البراعم وتخفّ الملابس، كانت جهنّم تفتح أبوابها علينا.
لم تكن هذه سنتي الأولى في العمل كسكرتيرة، ومع ذلك شعرتُ بغصّة تكاد تجعل الدموع تهطل.
سيكون أسبوعًا من السهر المرهق والإنهاك المؤلم.
“ألا ينوي الدوق توظيف سكرتيرٍ إضافي؟ أذكر أننا أخبرناه العام الماضي أن اثنين لا يكفيان.”
“قال إنّ عملكما ممتاز، فلا داعي لإضافة أحد.
واقع الأمر؟ هو فقط يكره عملية اختيار الموظفين.”
“أنا… أنا أكرهه من أعماقي.”
“وفّري تذمّركِ لنفسكِ وابدئي العمل.
وحين ننجو من هذا الجحيم، يمكنكِ أن تذهبي وتعترضي بنفسك.”
“ومهما اعترضتُ، لن يستمع.”
“من يدري؟
حين لا يجد شيئًا يتسلى به… قد يستمع قليلًا.”
بعد أن أطلقت أوفيليا انتقادًا راقيًا للدوق، أمسكت قلمها.
أما أنا فالتقطتُ كومة من الملفات، وأخذت نفسًا عميقًا قبل أن أغوص في بحر المهام.
ورغم أنّي كنت أعرف ما ينتظرني… إلا أنّ شيئًا من الارتياح تسرّب إلى صدري.
لقد جاء العمل في أنسب وقت ممكن.
وحيث إنني إن انشغلتُ تمامًا… فلن أفكّر في ذلك الرجل.
اهتزّت يدي الممسكة بالقلم، ثم سقطت دفعة واحدة على الطاولة.
“سينثيا؟”
“آسفة… ظننته حشرة، اتضح أنها قطرة حبر.”
“ركّزي. غلطة واحدة قد تنسف يومك كله.”
أجبتها بلطف، ومسحت الحبر سريعًا.
إلا أنّ ما اشتعل في داخلي لم يُمحَ بسهولة.
ما زالت تلك اللقطة حاضرة أمامي—
اللحظة التي تحرّك فيها الرجل من تلقاء نفسه لحمايتي، دون أن أنطق باسمه.
تذمّرتُ لأنه ترك معطفه عندي، لكن في الحقيقة؟
كنتُ سعيدة أنّ لديّ سببًا واحدًا فقط لأراه مرة أخيرة.
ففي تلك الليلة… حلمتُ به مجددًا.
كنتُ أظنّه دائمًا شخصًا عاجزًا، يقع في المتاعب بسهولة…
لكنّ الحقيقة انكشفت أمامي في لحظة واحدة.
عندما انقضّت تلك النحلة الضخمة—
لم يتردد.
لم يتفاجأ.
لم يهرب.
بل استلّ سيفه ببساطة، و-…
قهق!
ضربةٌ حادة اخترقت الهواء، وتردّد صداها في قلب الحديقة.
كان مشهدًا لا يمكن تصديقه… كأن شخصًا آخر غير بشري قد تحرك أمامي.
وفي اللحظة التي تلاقت فيها أعيننا…
اجتاحني طوفان من الخجل.
لقد كنتُ مخطئة.
كنتُ… أتصرف كأنني أنقذه دائمًا،
بينما هو لم يكن يحتاجني أبدًا.
وأمام ذلك…
لم أملك سوى دفع معطفه إليه ورمي نفسي بعيدًا، بكل ما في روحي من خجل وارتباك.
حاولتُ أن أقنع نفسي بأنها النهاية—
أنني لم أعد مضطرة لرؤيته،
ولا للقلق بشأنه.
لكن الفكرة الأخرى…
اللعينة، ظلت تلسعني:
“إذًا… لم يكن هناك أيّ داعٍ لاتهامي بأنني معجبة به؟”
كانت تلك القشة الأخيرة التي تمنّيت معها لو ابتلعتني الأرض.
لذا… كان العمل المنهك نعمة.
لم يعد بإمكاني التفكير بأي رجل.
لا وقت.
لا طاقة.
حتى الغذاء… لم أعد واثقة أنني سأجد وقتًا له.
رغم هذا كلّه، اشتدّ عزمي.
ما دامت حياتي في هذه الأيام جحيمًا من العمل… سأنجو، ثم أرتاح، ثم أتخلّص من كل هذه الفوضى.
وبينما أنا أغوص في الأوراق، أسرعتُ أكثر فأكثر حتى لمعت عينا أوفيليا بإعجابٍ نادر.
شعرتُ للمرة الأولى منذ فترة طويلة بأنني سأسمع منها كلمة “أحسنتِ.”
……لكن، هل سأجد وقتًا للغداء؟
—
“ديريك.”
“……”
“يا، ديريك!”
عندما دوّى اسمه عاليًا، رفع ديريك رأسه أخيرًا والتفت إلى من يناديه.
وملامحه الهادئة الباردة لم تشِ بشيء.
لولا تجاهله المتواصل، لما لاحظ أحد أنّ هناك خطبًا ما.
أما زميله، ويسلي، فحدّق به بعينٍ ممتلئة بالضجر.
كانا قد أنهيا للتوّ فرز الدروع القديمة—
ما يصلح للاستخدام وما يجب رميه في العربة.
ولا بدّ من ربطها بإحكام كي لا تسقط…
وذلك عمل يحتاج اثنين.
لكن ديريك؟
كان وكأنه نسي وجود العالم.
‘هذا الرجل الذي لا يترك ثغرة واحدة… ما الذي أصابه؟’
مضى أسبوعٌ كامل وديريك يسير كمن ضاع في أفكاره.
أثناء التدريب يكون طبيعيًا، وفي المهام يكون دقيقًا كالعادة،
أما حين يُنادى؟
يستغرق وقتًا طويلًا قبل أن يستوعب شيئًا.
وأحيانًا، لا يستوعب مطلقًا.
وأخيرًا، لم يتحمّل ويسلي فضوله، فاقترب منه ودفعه بخفة.
“يا رجل… اعترف. عندك مشكلة، صح؟”
رفع ديريك عينيه قليلاً—
وأسقط الحقيقة ببساطة:
“ليست مشكلة… بل أفكار كثيرة.”
“إذا كثرت الأفكار لهذه الدرجة… فهي مشكلة.
لكن قُل لي: ما الذي تفكر فيه طوال الوقت؟
هل هي… فتاة؟”
كان ويسلي أحد القلائل الذين سمعوا سؤال ديريك الغريب قبل أسابيع:
“إن لاحقك أحدهم دائمًا… ما معنى ذلك؟”
كان الأمر غريبًا أصلًا—
فمن ذا الذي يطارد ديريك، الذي يخشاه حتى بعض الفرسان؟
لكن الآن… بدت الصورة أوضح.
الصمت الذي تبع السؤال زاد شكوكه سوءًا.
“هيا، قل الحقيقة.
ربما أساعدك… من يدري؟”
لم يبدُ أن ديريك انتبه إلى ابتسامة ويسلي المتحيّنة،
بل تردد لحظة، ثم قال:
“في الآونة الأخيرة… اعتدتُ رؤية شخص ما.
وبمرور الوقت… اعتدتُ وجوده.”
“أها؟ وماذا بعد؟”
“أعلم أنّ هذا الشخص لن يأتي مجددًا…
ومع ذلك، جسدي يترقّب ظهوره.
لكنني لا أعرف سبب هذا الترقّب.”
كان ذلك وحده كافيًا لجعل ويسلي يحدّق فيه مطولًا.
“وكيف عرفت أنّه لن يأتي؟
مستحيل؟”
“ليس مستحيلاً، لكن…
ذلك الشخص قال إنه لن يأتي.”
صمتٌ آخر.
ثم حدسٌ واحد:
هل… هل رُفض هذا الرجل؟
لكن النتيجة كانت واضحة.
“يا صاحبي… أنت تنتظر.”
“……”
“تنتظر أن يظهر.
تفكر إن كان سيأتي أو لا.
والانتظار… يعني أنك تريد رؤيته.”
لم يعلّق ديريك.
لكن الصمت كان اعترافًا بحد ذاته.
رفع ويسلي حاجبيه، وشعر كأنه شيخ حكيم يلقي درسًا:
“إذا كنتَ تنتظر…
فالأجدر أن تذهب أنت لرؤيته.
القدر لا ينتظر أحدًا.”
“أن أذهب… لرؤيته، هه. فهمت.”
“انتظر—إلى أين الآن؟!”
استدار ديريك فورًا.
أمسكه ويسلي من ذراعه مذهولًا.
“لا يمكنك الذهاب هكذا!
هل أنت متأكد أنّه سيقابلك؟!”
تجمّد ديريك.
كانت تلك الكلمة—
هي ضربة الحسم.
لأول مرة تظهر عليه ملامح صدمة صغيرة،
لمحة خفيفة لكنها واضحة.
نظر ويسلي نحو العربة.
وفجأة، انقلبت ملامحه إلى الذعر.
“كلا—انتبه!!”
في اللحظة التي كان فيها ديريك غارقًا تمامًا في فكرة واحدة…
دوّى صوت ارتطامٍ مفزع—
وتهاوت الدروع من فوق العربة دفعة واحدة.
يرجى إدخال اسم المستخدم أو عنوان بريدك الإلكتروني. سيصلك رابط لإنشاء كلمة مرور جديدة عبر البريد الإلكتروني.
التعليقات لهذا الفصل " 12"