انقضى الحفل كما كان مقدرًا، بلا مراسم وداعٍ رسمية، فقد غدت أرضية القاعة فوضوية إلى حدٍّ لم يعد معه استمرار أي شيء ممكن، فانتهى كل شيء في صمتٍ متلاشٍ.
رأيتُ الدوق، الذي لم أعلم موعد وصوله، يتلقى تحيات الحاضرين واحدًا تلو الآخر، فخطوتُ بحذر، حريصةً على ألا أثير أيّ انتباهٍ غير مرغوب.
وعلى كتفي، استقر معطف الرجل مجددًا، كما لو لم يغادرني منذ البداية.
“……أيُّها الفارس، هل يجب أن أرتديه حتى أصل إلى الغرفة؟”
“نعم.”
“حتى لو قلتُ أنني بخير الآن؟”
“نعم.”
لم يكن هناك جدوى من النقاش. بينما كنت أعدل ثقل المعطف الذي صار يثقل كاهلي بعد ارتدائه الطويل، عزمتُ على أن أحجب أي شعور بالبرد عن الرجل.
……وعلى أي حال، لن يكون هناك سبب لإظهار ذلك عمدًا؛ فلن أظهر أمامه بعد اليوم.
كان لا بدّ أن أبدو وكأنني تخلّيت عن كل شعورٍ داخلي.
“…….”
تسللت إليّ مشاعر متشابكة، دقيقة، من أعماقٍ لا يُرى فيها سوى أصداء الذات. ورغم أن خطواتي كانت متسقة، ظل عقلي منشغلًا بمحاولة فهم هذا الإحساس الغامض.
ثم وجدتُ أخيرًا الكلمة الأليق للتعبير عنه: الأسف.
وبمجرد إدراكي لذلك، رفعتُ يديّ وضربت وجهي بصوتٍ مدوٍ، كأنني أوقِع حكمًا على شعوري الضائع.
“……أيتها السكرتيرة؟”
“هم.”
بدأت عقلي يعود إلى رشده.
أيُّ أسف هذا، سينثيا؟ هل ارتعشتِ بسبب القليل من الشمبانيا؟
لم يكن وراء حمايتي له أي شعور آخر سوى ضميرٍ مستيقظ، ولا أكثر. بل وأكثر من ذلك، تلقيتُ سوء فهمٍ بأنه أتبعه إعجابًا بي، فكان لزامًا عليّ التوقف فورًا.
لكن حين فكرتُ بأننا سنعود إلى علاقةٍ متباعدة، شعرت بالأسف، شعورٌ غريب، فهناك خطأٌ ما.
بهذه الطريقة، بدت العلاقة الحميمة التي شعرت بها وكأنها جدية بوضوح.
‘هل سأظل معرضة لسوء الفهم؟ خصوصًا أمام من لا يعبأ بالحب الآن؟’
لا بد من فعل شيء. رفعت يديّ مجددًا، وفجأة قبض الرجل على معصمي.
قبل أن أتمكن من الرد، أسقطت يديّ للأسفل، وجمع معصمي بإحكام، كما لو أنه قيدني بالأصفاد، ولم أستطع إلا رمش عينيّ، عاجزة عن الكلام.
نظر إليّ بجدية بالغة، بعد أن أوقف حركتي بعد تحريك يدي مرتين فقط.
وكان مذهلًا أن يستخدم يدًا واحدة فقط لإمساك معصميّ. طويل القامة وذو يدٍ قوية.
“لا أعلم ما الأمر، لكن لا ينبغي أن تؤذي نفسكِ. “
وبصوت صارم، وبّخني الرجل.
رغم حدة كلماته، أومأت برأسي موافقةً.
“هل فاجأتك فجأة؟ آسفة، ربما كنت أحاول استعادة رشدي.”
“هل عادةً ما تضربين نفسكِ لتستعيدي رشادكِ؟”
“ليس عادةً……فقط أحيانًا قليلة.”
كادت كلماتي أن تفلت بلا تفكير، لكن توقفت لتجنب أي تبرير ضعيف.
كنت منشغلة بالتفكير منذ أن ظهر في أحلامي، ومع ذلك لم أستطع إخباره، شعور مظلوم يملأ صدري.
“سأتركك الآن، أيمكنك إطلاق سراحي؟”
هززت يديّ قليلًا، فأرخى الرجل قبضته.
لكن يدًا واحدة فقط تحررت، وما زالت الأخرى مقيدة.
“أيُّها الفارس؟”
بلا مبالاة، جذب يدي مرة أخرى، فتشابكت أذرعنا كما لو أنه يرافقني في الحفل، بصمتٍ كامل.
بصوت هادئ، قال:
“حتى أصطحبك إلى الغرفة، الحفل لم ينته بعد، وسأرافقك كشريك.”
“……أليس من المفترض أن ينتهي الشريك بانتهاء الحفل؟”
“نعم، ليس كذلك.”
شعرت بالارتياح لمعاملته لي بهذه الدقة والاهتمام، إذ ظل يراعي أموري رغم كل شيء.
حاولت التحدث بهدوء:
“أيُّها الفارس، هل كان ضرورياً مقابلة زملائك أثناء الحفل؟”
“ليس ضروريًا، لكن نعم، سيكون دليلاً أقوى.”
“……هل لم تقابل أحدًا لأنك كنت تتجول معي في الحديقة؟”
تذكرت أنه بعد حديثه مع أحدهم، خرج من الحلم. ربما كان أحد زملائه الفرسان.
شعرتُ بالإحراج؛ ربما لم أحصل على أي فائدة من الحفل، رغم أنه كان يحاول مراعاتي.
حاولت لمس كمّه لكنه أمسك يديّ. تنهدت، لكن صوته أوقفني:
“لا، لم أكن أفكر في مقابلة أحد آخر من البداية.”
“ماذا؟ لكن على الأقل يجب مقابلة شخص واحد ليصدق الآخرون أنك حضرت.”
“كنت أرغب بالتركيز عليك اليوم، أيتها السكرتيرة.”
“…….”
“لأن اليوم يوم لصنع ذكريات معًا.”
توقف قلبي للحظة. ذكريات؟ تذكرت ما قاله عن الذكريات، واستعدت رشدي.
“الرجاء حضور الحفل معي. إذا تكونت ذكرى واحدة معنا، أستطيع أن أترك الأمر بلا شعور بالندم.”
لحسن الحظ، استعادت عقلي توازنه قبل أن أغرق في وهمي، وشعرت بالبرودة في قلبي، لكنها أصبحت طبيعية.
……لكن، هل كانت أجواء الحديقة الغريبة مجرد وهم؟ لا، كانت عيناه تحملان شيئًا مختلفًا.
وصلنا أمام الغرفة، أزلت ذراعيّ، وخلعت المعطف مترددة.
كيف أودع بطريقة نظيفة، بلا شعور بالندم؟
“أيتها السكرتيرة.”
“آه، نعم.”
قبل أن أتكلم، خاطبني بصراحة، دون النظر للمعطف الذي مددتُه له:
“كنت سأمر مرور الكرام، لكن من خبرتي السابقة، أفضل ذكر الأمر بدلاً من تجاهله.”
“……؟ نعم.”
“بعد اليوم، حتى لو نظرت إليّ بشغف كما في الحديقة، لن أستطيع تقديم شيء.”
“همف، لحظة، ماذا قلت؟”
“إذا حدث موقف مشابه مرة أخرى، قد أبتعد عنك حقًا.”
كنت مذهولة، وهو جاد جدًا. اختفت مشاعري المختلطة فجأة.
“ماذا فعلت هناك…….”
“احمرّ وجوكِ وتنفسكِ غير منتظم، وواصلت مراقبتي.”
“هذا……!”
صممت على السكوت، لتجنب أن يبدو الأمر وكأنني أتهجم عليه بلا سبب.
شعرت بالظلم، لطالما تعامل معي وكأنني معجبة بلا مقابل، رغم أن قلبي لم يكن كذلك.
احمرّت وجهي بسبب الآخرين، وتنفسّي غير المنتظم كان مجرد لحظة ارتباك!
‘هل أنا الوحيدة التي نظرت إليه؟ حتى عندما تحاشيت عينيه، ظل يراقبني…….’
لكنني ظللت أراقبه باستمرار.
اليوم، عبر ذكرياتي الجديدة، أرجو أن يتمكّن من التحكم بمشاعره وينجح حتى لو كان صعبًا.
“…….”
“أتمنى لك ليلة سعيدة.”
كما في اليوم الأول الذي رفضني فيه، اختفى الرجل بعد تحيته.
في الممر البارد، بقيت أنا مذهولة، والمعطف الذي تركه خلفه فقط.
لحظة، المعطف؟
“أيُّها الفارس، هذا……!”
حاولت اللحاق به، لكنه اختفى تمامًا. لم ينظر حتى عندما مددت له المعطف، لكنه تركه هنا؟
لا أصدق!
دخلت الغرفة وألقيت بالمعطف بغضب، ثم بعد قليل عثرت على علاقة لتعليقه.
لكنني شعرت بالاستياء والغضب في كل مرة أرى المعطف على الحائط، مع رائحته الشتوية الخفيفة منذ أول استلام.
……حتى هذه التفاصيل كانت مزعجة للغاية.
يرجى إدخال اسم المستخدم أو عنوان بريدك الإلكتروني. سيصلك رابط لإنشاء كلمة مرور جديدة عبر البريد الإلكتروني.
التعليقات لهذا الفصل " 10"