2
002
كل شيء كان كما كان. تلّة بوريل التي أحببتها، والعمة ميشا التي كانت تخبز فطيرة التفاح وتمنحني ابتسامة أكثر حلاوة، كانتا لا تزالان على قيد الحياة. حتى “نار”، كلب الحراسة الذي كنت ألعب معه سابقًا، تمسّك بي أيضًا. كل هذه كانت ذكريات من الماضي، ظننت أنني لن أملكها مجددًا أبدًا.
«لنَدخُل، ستمرضين إن ظللتِ واقفة هكذا في البرد.»
وبينما كان يربّت بلطف على شعري، راقبتُ ظهر جدي وهو يتجه إلى باب القصر بخطوات هادئة تنضح بالأناقة. كان مشبعًا بالدفء ورائحة لطيفة حلوة. في نهاية يوم هادئ من الزيارات إلى تلة بوريل، كان جدي دائمًا ما يجفف شفتيه وهو يمدح فطيرة التفاح التي أعدّتها العمة ميشا.
عندما استعدتُ تلك الذكريات الماضية التي ظننت أنها ستستمر إلى الأبد، وتذكّرت السنوات المؤلمة التي لم يكن أمامي فيها سوى أن أمدّ يدي وأكافح، بدا وكأنني أحلم.
«روا، ادخلي. هواء الليل بارد.»
ومع ذلك، فإن الواقع الذي كان يتكشّف أمام عينيّ كان واضحًا وطويلاً بما يكفي ليُسمى حلمًا.
«حسنًا، جدي.»
كان حُلوًا لا أريد له أن ينكسر. وعندما فتحتُ الباب الذي دخله جدي أولاً ولحقته، غمر الدفء جسدي.
كان الموقد الكبير في المطبخ، الذي توقف عن العمل بعد وفاة العمة ميشا، هو المكون الأهم في فطيرتها، السرّ بعينه. أما العم روبرت، الذي كان يُهوّي على الحطب المتّقد تحته، فقد كان هو الآخر مساعدًا خفيًا في صنع تلك الفطيرة اللذيذة.
«هل هذا يكفي؟»
«آه! أضف المزيد! كم مرة أخبرتك أن علينا طهي طعام أكثر لأن هناك ضيوف قادمون اليوم؟ هل تهذي الآن فقط لأنك لا تريد تقطيع الحطب غدًا؟!»
«أوه، لا! لا يمكن ذلك!»
كان صوت العم روبرت المربك وهو يضع الحطب بنظرة عابسة، وصوت العمة ميشا وهي تتعامل معه بحنكة، من الأمور التي أحببت سماعها دومًا. وبالمقارنة مع حجم القصر، كان عدد سكانه ضئيلاً. فهذا هو مقر إقامة الفيكونت أجتاين. وعلى عكس ما يتخيله الناس من أنهم يعيشون في قصر فاخر، كنّا أنا وجدي ندير الكثير من الأعمال هنا.
«لنرَ…»
بمجرد أن دخلت إلى المنزل، جلستُ تلقائيًا إلى المكتب بجوار جدي، الذي كان يعبث بنظارته وحيد العدسة ويتفحص كومة الأوراق. وبالمثل، بدأتُ بتفقد الأوراق المتراكمة على مكتبي.
خرج مني ضحك خافت. عندما كنت صغيرة، كنت أراقب جدي وهو يكافح مع هذه الأوراق. كانت الحسابات صعبة، والحروف المعقدة المكتوبة على العقود تُصدّع رأسي. في مثل تلك اللحظات، كان دائمًا ما يشرح لي الأمور بطريقة سهلة. أدرْتُ رأسي قليلًا ونظرتُ إلى وجه جدي النظيف. جدي، الذي تولّى إدارة المنزل بعد وفاة والديّ عقب ولادتي بفترة قصيرة. لم أكن لأصدق أنه بلغ الستين هذا العام. كان الناس يمزحون بأن جدي لا يشيخ، بل هو في الواقع ليس إنسيًا، بل شيطان أو مستذئب. وفي مرحلة ما، بدأت أعتقد أن ذلك أمر طبيعي. ولكن، في اليوم التالي لوفاة جدي، لم أستطع التفوه بأي كلمة أمام جسده الذي شحب تمامًا.
جدي، الذي ظننته دومًا إلى جانبي، تحوّل إلى جثة باردة. بدا وكأنه شخص يزيد عمره عشرين سنة عن سنه الحقيقي.
«روا؟»
استدرتُ نحو الصوت الذي ناداني. نزع جدي الأوراق التي كان يعبث بها، وكذلك نظارته، ونظر إليّ بوجه يشوبه القلق.
«هل هناك شيء صعب؟»
عند سماعي لصوته، نظرتُ إلى الأوراق التي كنت أمسك بها. آه، يا إلهي، لقد كنت أقبض عليها بشدة دون أن أشعر.
وضعت الورقة على الطاولة وخدشت رأسي بابتسامة محرجة، فكرّر جدي سؤاله، هذه المرة بصوت أكثر رقة:
«ما الأمر؟ منذ أن استيقظتِ في وقت سابق، وأنتِ صامتة وغارقة في أفكارك، وهذا ليس من عادتك.»
«هاها…»
نعم، الأمر على هذا النحو منذ زمن. في الحقيقة، كانت مشكلتي الكبرى أنني لا أُجيد إخفاء تعابير وجهي، لذا كانت مشاعري تنكشف بسهولة. وإذا كان المسؤول عن العمل لا يستطيع السيطرة على تعبيراته، فالعقود ستُصاب بأضرار.
«أخبِريني.»
«آه، لا شيء.»
لوّحتُ بكفّي وابتسمت وكأن كل شيء على ما يرام، لكن نظرات القلق لم تفارق عيني جدي. كنت ضعيفة أمامه، لذا لم أستطع تجاهله، وتنهّدت ببطء قبل أن أفتح فمي:
«في الحقيقة… رأيت كابوسًا.»
«كابوس؟»
«نعم.»
نهضتُ من مقعدي وأخذت أراقب جدي وهو يقترب مني ببطء. مدّ يده الكبيرة العريضة وربّت على شعري، مبتسمًا بحنان.
«ما نوع الكابوس الذي رأيته؟»
«…كان كابوسًا حزينًا جدًا.»
أغمضتُ عيني بقوة واستعدت ذكريات لم تدم أكثر من يوم.
«كان حلمًا خُنتُ فيه من الأشخاص الذين وثقتُ بهم أكثر من أي أحد. وبسبب ذلك، لم أستطع الحفاظ على الممتلكات والوصية التي تركها أكثر شخص احترمته وأحببته.»
أجل، ربما فقدتُ عقلي. كان ألمًا لا يمكن مقارنته بأي خسارة أو وجع. أن تخونك من وثقت به أكثر…
عاد اليأس من ذلك الوقت يخنق صدري مجددًا. وكأنما يسألني: «هل تستطيعين الهرب من هذا؟» هذا الشعور باليأس الذي يُمزق قلبي فتحًا وإغلاقًا جعلني أغمض عيني بشدة، والسخرية التي جاءت بعده زادت من ألمي.
«…»
«أفهم.»
اليد التي كانت تربّت على شعري، نزلت لتربّت بلطف على خدي. دموع رطبة، لا أعلم متى انهمرت، مسحها جدي بكفّه. رفعتُ رأسي، فوجدته يبتسم لي بوجهه الرقيق الكريم.
«من الأفضل ألّا تفكّري في مثل هذه الكوابيس مجددًا.»
«جدي…»
«سأتولى كل شيء اليوم، يمكنكِ الذهاب لترتاحي.»
«لكن…»
«سيأتي ضيوف قريبًا، وليس الوقت مناسبًا لهذا الآن. عليكِ أن تُعدّي نفسك وتُزيّني جيدًا. ألستِ ستقابلين ذلك السيّد مجددًا؟»
«…ذلك السيّد؟»
بمجرد أن نطق بذلك، هدأت العواطف التي كانت تعصف داخلي. لكن بطني انقبض وكأنني قابلتُ عاصفة. ومع ذلك، لم أستطع إظهار ذلك، فأجبرتُ نفسي على الابتسام، وغادرت الغرفة، وأغلقت الباب خلفي، وزفرتُ ببطء.
«…أخي.»
اسم “إلسيا”، التوأم التي تشبهني، الأخت الصغرى التي أحببتها واعتنيتُ بها وحميتها دومًا، والتي لطالما بلغت حدود الشفقة، أصبح الآن بالنسبة لي كراهية.
كان القصر مزدحمًا اليوم. وعلى ما يبدو، كان هذا الازدحام مألوفًا. من الواضح ما الذي سيحدث. بدأتُ أتحرّك وأنا أفكر في أحداث اليوم. غرفة “إلسيا”، التي لم تستطع السكن في الطابق العلوي بسبب مرضها، كانت دائمًا في زاوية الطابق الأول. في كل مرة كنت أدخل فيها تلك الغرفة، كنت أرى مظهر أختي الشاحب، وأشعر بالشفقة. ولكن ليس الآن. الآن، إلسيا لم تكن أقل شأنًا من أي أحد. إلا إذا كان هذا مجرد حلم.
تنفست بعمق، وطرقت الباب ببطء.
«نعم.»
كان داخل الغرفة شخص يشبهني، وبصوتي ذاته. تماسكتُ وفتحت الباب. رائحة دواء قوية، وغرفة مظلمة، وامرأة نحيلة تجلس بهدوء على السرير. “إلسيا”، الأخت الصغرى التي تُشبهني، لكنها بالكاد تحمل حياة في جسدها.
«أختي، هل أنتِ هنا؟»
لم أشك في تلك الابتسامة التي رحبت بي بدفء. في الماضي، عندما تجاهلتُ كل الأدلة التي تشير إلى شيء غريب، فقدتُ كل شيء في النهاية. يا للغبية.
«نعم. الطقس بدأ يبرد.»
لكن هذا لا يعني أنني أستطيع التعامل مع إلسيا بسهولة. فالعالم كله يرى فيها فتاة مسكينة وهشة. وعلى الرغم من كوننا توأمين، إلا أنها نادرًا ما غادرت غرفتها بسبب مرضها.
كانت قليلة الخروج، تعيش على الأدوية. لكنها كانت دائمًا مشرقة، وتبتسم وتشجع الآخرين. كانت مريضة وصعبة، لكن طيبتها جعلت الجميع يحبها. لذا، من الواضح أنني سأتلقى الكثير من التوبيخ إن تصرفت بقسوة مع أختي المسكينة. وخيبة أمل جدي ستتبع ذلك، ولا أريد أن أخيب أمله.
اقتربتُ ببطء ونظرتُ من النافذة. حدّقتُ في الظلمة العميقة، ثم استدرتُ وجلست على حافة النافذة وابتسمتُ بلطف.
«ألم يكن يومك صعبًا؟»
«وما الصعب؟ بل أنتي من يبدو متعبة، أختي.»
كنتُ أُمازَح كثيرًا بذلك الصوت المليء باللطف والدفء…
«كيف كان يومكِ اليوم؟»
«أعتقد أنه كان غير معتاد.»
«غريب؟…»
لامستُ ذيل حصانها بنعومة، ونظرتُ إلى وجهها. لم أستطع تخيّل مدى ما يمكن أن تُخفيه تلك الابتسامة البريئة. لذا، صدّقتها حتى النهاية.
«آه! بالمناسبة، سمعتُ أن ضيفًا سيأتي اليوم.»
«ضيف؟»
«نعم، أختي أخبرتني سابقًا. سيأتي ضيف مميز جدًا اليوم.»
«هل قلت ذلك؟»
لا أذكر. أذكر أنه سيأتي ضيف ما، لكن يبدو أنه لم يكن مهمًا.
لم أتذكر شيئًا محددًا، فحاولت تجاهل الأمر، لكن إلسيا أمسكت بيدي وهي تبتسم بوجه مُبتهج.
«تخيلي فقط أنكِ تعرفين رجلاً رائعًا كهذا… لا بد أنه شخص مدهش حقًا. أنا فخورة بكِ.»
لم أحتمل ذلك الوجه المتلألئ. بدا كل شيء مُتصنعًا. لعنات على طرف لساني كدتُ أن أتفوه بها. استدرتُ نحو الباب.
«هل ستأكلين في الخارج اليوم؟ هل أُحضّر الطعام مُسبقًا؟»
«هاه؟ آه، نعم…»
أجابت إلسيا بصوت مُتردد، ربما شعرت أنني مختلفة عن المعتاد. من دون أن أُبادلها النظر، أغلقتُ الباب وغادرت.
«آه…»
الوضع ازداد سوءًا. شعرت أنني على وشك التقيؤ. لم أستطع الابتسام عند رؤيتها، ولا حتى قول كلمة دافئة. لكن كل هذا كان عبئًا عليّ، كوني الأخت الكبرى، يجب أن أقوم بدوري.
«كنتُ لأُفضّل لقاء شخص عجوز منحرف وتوقيع عقد معه على هذا.»
وضعت يدي على فمي وكتمت صرختي داخلي. وعندما انحنيتُ على الجدار لتهدئة نفسي، سمعتُ صوت الباب الأمامي يُفتح وأصوات ترحيب. هل وصل الضيوف؟ من هذا الذي يُرحّب به الجميع؟
مشيت بمحاذاة الجدار، استدرتُ عند الزاوية، واقتربت من المدخل. خمسة أو ستة رجال بأزياء فاخرة حيّوني بحرارة وهم يحملون الهدايا. كان مشهدًا مألوفًا. لكنني لم أتذكر من الزائر، لذا راقبت الوضع بصمت. كان أول من خرج من الباب هو جدي، الذي ابتسم لرجل بحرارة وهو يرحّب به.
«مستحيل…»
رأيتُه مجددًا. ذلك الوجه… نعم، إنه اليوم. لقد نسيت. اليوم هو اليوم الذي التقى فيه ذلك الرجل بـ”إلسيا”، وبدأ يتدخّل في حياتي.
«ها أنتِ هنا! الآنسة لورينسيا، أشكركم على دعوتي اليوم.»
رجلٌ أسر قلوب العديد من النساء بوسامته، وابتسامته الساخرة، وأدبه، وإيماءاته الراقية.
والرجل الذي لعنني.
«ماركيز أكبينسيا…»
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع

📢 المنتدى العام عـام
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.

🎨 إمبراطورية المانجا عـام
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات. هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...

📖 نادي الروايات عـام
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات. هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
Chapters
Comments
- 7 - عقدٌ بمئة ألف عملة ذهبية 2025-08-25
- 6 - دينُ الإمارة ومقايضة المصير 2025-08-22
- 5 - بين الهالة والفروسية: حين أنقذني إيان 2025-08-22
- 4 - ثمن الحماية 2025-08-22
- 3 - خيانة مزدوجة وظلال السلطة 2025-08-22
- 2 - اليوم الذي بدأت فيه نهايتي 2025-08-21
- 1 - باب الذكرى الأخيرة 2025-08-21
- 0 - القصه 2025-07-06
التعليقات لهذا الفصل " 2"