كانت السماء تبكي في صمت بادئ الأمر، قطرات ناعمة تتهادى كأنها أنين من السماء… لكن سرعان ما اشتد بكاؤها، فصار وابلًا يهدر بلا رحمة، يجلد السفينة ومن عليها، فيما تعصف الرياح كأنها أرواحٌ هائجة تنفث غضبها في وجه العالم.
تأرجحت الأشرعة بعنف، واهتزّ الساري كغصن هشّ يتوسل للريح أن ترفق.
هل كانت تلك نبوءة لا لعنة؟ وهل عجزهم أمام الطبيعة ما هو إلا تصديق مؤلم لوعدٍ قديم؟
“هل كنتَ تعلم حقًا أن المطر سيهطل؟”
سألت أنجلينا بصوت غاضب، لكنه يرتجف بين طيات الخوف.
أجابها فرانز، بابتسامة متهكمة تخفي تحتها ألف يقين:
“بالطبع… فمن عاش البحر، صار يعرف أنفاسه.”
“كان عليك أن تحذرنا!”
“وهل كنتم لتسمعوا؟ لا نسمع إلا ما نُحب… دائمًا.”
لكن لا وقت للجدال، فالسماء فتحت أبوابها، وكأن الطوفان ذاته قد بُعث من مرقده.
الريح تصرخ، والقرد الصغير يصرخ معها، فرّ هاربًا يختبئ في الكيس كأنما يختبئ من نهاية العالم.
“أنجل، خذي ناومي وادخلا المقصورة فورًا!”
صرخ أليكسي وهو يتشبث بالسارية التي بدأت تميل بخطورة.
أخذت السفينة تميل يمنةً ويسرة، حتى بات الوقوف أمرًا بالغ الصعوبة. أنجلينا خطت خطوات قليلة قبل أن تتخلى عن المحاولة وتجلس على الأرض، مدركة أن البقاء داخل المقصورة لا يعني بالضرورة الأمان.
“ناومي، ادخلي أنتِ.”
“أريد أن أبقى هنا.”
“لن تستطيعي فعل شيء على أية حال.”
“وأنتِ كذلك، صاحبة السمو، لا يمكنكِ فعل شيء!”
“كنتُ أقصد أن تتجنبي المطر.”
“إن متّم أنتم الثلاثة، فسأموت أنا أيضًا. لذا، عليّ أن أفعل أي شيء، مهما كان.”
ولكن… ماذا بوسعها أن تفعل؟
وكأنها قرأت السؤال في عيني أنجلينا، صاحت ناومي بقوة:
“لا تقفي هنا! توجهي إلى منتصف السفينة، فذلك أكثر أمانًا!”
“المنتصف؟”
زحفت ناومي دون تردد إلى منتصف السفينة، ولفّت حبلاً حول السارية الرئيسية.
“أسرعي!”
اهتزّ بدن السفينة مجددًا. زحفت أنجلينا على أربع حتى وصلت إلى ناومي، والتي بادرت بربط جسدها أولاً، ثم لفت الحبل المتبقي حول جسد أنجلينا.
“هذه هي الطريقة الوحيدة لننجو.”
“ولكم من الوقت؟”
“هذه ليست عاصفة قوية جدًا… سيستمر الهطول حتى الفجر، ويتقطّع بين حين وآخر.”
كان الساري، الذي أعيد ترميمه من قبل، ينثني في خطر. أما الرجال، فقد خاضوا معركة شرسة ضد الرياح الهائجة لحماية الأشرعة من الانهيار.
ربطت ناومي وأنجلينا حبالًا إضافية، وزحفتا لربطها حول أجساد الرجال أيضًا.
لم يكن هناك وقت للتفكير في البرد، فالمطر كان يتساقط كالسياط، وكأن السفينة كلها تتأرجح على حافة الجنون.
وبالفعل، كما تنبأت ناومي، استمر المطر حتى بزوغ الفجر، يعصف ويتوقف، ثم يعاود هجومه. ووسط المحيط، ذاق الأربعة طعم الجنة والجحيم في آنٍ واحد.
لا… لا أريد أن أموت مرة أخرى في حادث…
كانت أنجلينا متشبثة بالحبل تتأرجح كدمية، تُفكّر.
رغم أنها عاشت حياة سعيدة، إلا أنها لم تكن مستعدة للرحيل.
فالموت، ذلك الضيف الكريه الذي لا يُرحّب به أحد، يحوّل أجمل الحيوات إلى ذكريات مؤلمة، ويجعل حتى أكثر اللحظات كمالًا مشوبة بالندم.
كانت حياتها كزهرة… جميلة، نعم، لكنها بلا طَعم.
ومع إدراكها المؤلم لهذه الحقيقة، شدت أنجلينا قبضتها على الحبل.
لا… لن أموت هنا. لن تكون هناك حياة ثالثة!
استجاب القدر أخيرًا لصلواتها بعد ساعة كاملة.
توقفت العاصفة… وسكنت البحار.
“نحن بخير…”
“لكن لدينا مشكلة كبيرة.”
فجأة، وقبل أن يتنفسوا الصعداء، اندفع فرانز صاعدًا من غرفة المحرك، يتنفس بصعوبة ووجهه شاحب.
“المحرّك توقّف.”
“هل تعطّل؟”
سأل أليكسي وهو يقطّب جبينه.
“لا، لقد نفد الوقود.”
قالها فرانز، رغم أنه أكد ليلة البارحة أن الكمية تكفي للصباح.
“الماء تسرّب إلى غرفة الغلايات والمخزن… كل الحطب أصبح مبلولًا. المحرّك توقف منذ فترة، وكل هذه المدة كنا نعتمد على قوة العاصفة لدفع السفينة.”
نظرت أنجلينا إلى البحر الداكن. لم يكن هناك شيء سوى السواد والفراغ.
“وماذا الآن؟”
“إما أن تدفعنا العاصفة – بمعجزة – إلى اليابسة…”
لا… لا أريد العودة إلى أحضان الرياح والمطر مجددًا.
“… أو ننتظر سفينة إنقاذ.”
لو لم يهربوا من الجزيرة، لكانوا الآن على متن سفينة إنقاذ في طريق العودة، أو ربما… أصبحوا وليمة للسكّان الأصليين.
“على الأقل إرسال إشارات الاستغاثة من هنا أفضل من على جزيرة مهجورة. لا يمكننا إشعال نار، لكن ربما هذا ينفع.”
بحث فرانز في الكيس وأخرج مصباحًا.
“ليتني أعرف على الأقل أين نحن تقريبًا.”
تمتم أليكسي وهو يرفع بصره إلى السماء الخالية من النجوم. لم يكن لديهم أي فكرة عن المسافة التي ابتعدوا بها.
ارتجفت أنجلينا من البرد. تحررت من الحبال، لكنّ الصقيع الآن هو ما يقيدها.
“خذي ناومي إلى المقصورة.”
كان الأمر متوقعًا، فقد كانت ناومي منكمشة في زاوية المقصورة ترتجف.
علينا الصمود حتى تصل النجدة.
لفّت أنجلينا جسد ناومي بعدة طبقات من البطانيات، واقتادتها إلى الداخل.
ارتمت ناومي على السرير وأغمضت عينيها. المقصورة كانت باردة، لكنها أفضل من السطح بلا شك.
ألن يكون النوم في هذا البرد خطرًا؟
هزّت أنجلينا جسد ناومي برفق.
“لا تنامي بعد.”
“أنا بخير… هذا لا شيء…”
أجابت ناومي بصوت متهدّج، جفونها لا تزال مغمضة.
فلأبقِها مستيقظة بأي ثمن…
“متى بدأتِ حياتك في البحر؟”
“ما أصعب شيء مرّ عليكِ؟”
“هل سبق أن عثرتِ على كنز أسطوري؟”
“هل هذه أول مرة تهربين من المنزل؟”
لكن ناومي لم تجب. حركة خفيفة في فتحتي أنفها أوحت بأنها مستيقظة… فقط تتجاهل.
ربما لو سألت هذا…
“هل تذكرين والدتكِ؟”
وكما توقعت، فتحت ناومي عينيها ببطء. نظرتها كانت مزيجًا من كرهٍ، وحنق، ووحدة، واشتياق.
“ولِمَ تسألين؟”
صوتها كان حادًا كسكين. جلست أنجلينا على السرير المقابل.
“أنا بالكاد أذكر أمي…”
“……”
“حين كانت الذكرى حيّة، كانت تؤلمني… لكن بعد أن تلاشت، بات هذا يؤلمني أكثر.”
“أنتِ متعلّقة بأمكِ؟ كم مضى على مغادرتكِ للبيت؟”
“حوالي عشرين عامًا، أظن.”
ضحكت ناومي بسخرية.
“حتى لو كانت حياتكِ صعبة، هذه مبالغة فاضحة. عشرين سنة؟!”
“لقد واجهنا الموت عدة مرات خلال أيام قليلة.”
“وهل هذا يُسمّى مواجهة موت؟ هذه مجرّد ظروف طارئة. العالم مليء بها.”
لم تكن تلك نظرة مراهقة طائشة… بل بصيرة فتاة عاشت عمرها بلا بيت، تتنقل بين أمواج البحر.
“سأتذكّر كلماتكِ.”
رغم عتابها، ابتسمت أنجلينا بلطف، بعينين تحترمان تلك القوة اليافعة.
وفجأة… ومض ضوء خلف زجاج المقصورة الصغير.
تجاهلت البطانية التي انزلقت عن كتفيها، وتقدّمت نحو النافذة. كان هناك ضوء أصفر دائري يقترب ببطء.
“إنها سفينة ركّاب.”
قالت ناومي واقتربت منها.
تحرك الضوء نحو اليسار، وسرعان ما بدا هيكل أسود ضخم يسد النافذة.
“هل يعني أننا…؟”
“لقد تم إنقاذنا!”
تعانقتا بقوة، ثم أخذتا تقفزان معًا في فرح لا يُصدّق.
“أنجلينا! ناومي!”
اندفعت بوابة المقصورة، وظهر وجه أليكسي المتوهّج من الحماس.
“سفينة الإنقاذ وصلت. علينا الصعود فورًا.”
“لحظة فقط!”
غاصت ناومي أسفل السرير.
“كوا.”
قفز القرد واعتلى كتفها برشاقة.
“متى دخل القرد إلى المقصورة؟”
“عندما اشتد المطر… خرج من الكيس وركض إلى الداخل.”
فتح الباب بنفسه إذًا؟!
نظرت أنجلينا إلى أصابعه الصغيرة، التي كانت السبب في اختفاء كل الطعام من الكيس. لم يكن لطيفًا جدًا في نظرها.
“يبدو أنه يليق بكِ.”
“الحيوانات دائمًا تُصغي إليّ جيدًا.”
تجمّع الأربعة على السطح، ومع اقتراب السفينة، أنزل طاقمها سلّمًا.
“اسرعوا! اصعدوا فورًا!”
صرخ القبطان مشيرًا لهم بيديه.
صعد الأربعة على عجل. مدّ البحّارة أيديهم لمساعدتهم على الهبوط.
كان الفجر لا يزال خافتًا، والسفينة مظلمة وساكنة، باستثناء بعض المقصورات المضاءة.
“لقد حالفكم الحظ. بسبب العاصفة، غيّرنا مسارنا الأصلي.”
“شكرًا لكم.”
“الليلة كانت طويلة، لا شك أنكم مُرهقون… لنتحدث غدًا.”
قادهم أحد البحّارة إلى مقصوراتهم. كانت الأسرة صلبة، لكن لا أحد منهم كان قادرًا على الشكوى… فقد سلبتهم العاصفة كل طاقة.
غرقوا في نومٍ عميق.
وفي الصباح…
استفاقت أنجلينا على وهج النور المتسلل من النافذة.
أين أنا؟
ثم نظرت إلى السرير المجاور فرأت ناومي نائمة… فتذكّرت.
آه… لقد انتقلنا إلى سفينة الركّاب.
كأنما العاصفة قد غسلت أفكارها، استيقظت برأسٍ صافٍ كالسماء بعد المطر.
نهضت من سريرها، تاركة ناومي، وخرجت من المقصورة.
وفي اللحظة ذاتها، فُتح باب المقصورة المقابلة… حيث كان يقيم فرانز وأليكسي.
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات. هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات. هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
يرجى إدخال اسم المستخدم أو عنوان بريدك الإلكتروني. سيصلك رابط لإنشاء كلمة مرور جديدة عبر البريد الإلكتروني.
كيم مين ها البالغة من العمر 20 عامًا ، طالبة جامعية عادية. من السخف أن تستيقظ في عالم مختلف تمامًا بعد حادث مفاجئ … ‘لماذا جاءني رجل وسيم للغاية بوجه غاضب ، وأعطاني أوراق الطلاق؟’ “ما الذي تتحدث عنه أيها الرجل الوسيم؟ لم ألتقِ بك من قبل ، ناهيك عن الزواج بك ، لماذا تعطيني...مواصلة القراءة →
كيم مين ها البالغة من العمر 20 عامًا ، طالبة جامعية عادية. من السخف أن تستيقظ في عالم مختلف تمامًا بعد حادث مفاجئ … ‘لماذا...
التعليقات لهذا الفصل " 18"
واخييرا انقذووهم، حسيت انا يلي انقذوني مب هم😭✨✨